الموت

ناصر بن محمد الأحمد

2015-02-03 - 1436/04/14
عناصر الخطبة
1/الحث على الاستعداد للموت 2/الموت وشدة سكراته 3/ما يستحب للميت ساعة الاحتضار 4/وصف وداع النبي-صلى الله عليه وسلم- للدنيا 5/حال الصحابة وحزنهم على فراق النبي -صلى الله عليه وسلم-

اقتباس

فليس للموت -يا عباد الله- وقت معلوم عند الناس، فيخاف في ذلك الوقت، ويأمن منه في سائر الأوقات، فليس يأتي في الشتاء دون الصيف، ولا يأتي في الليل دون النهار، ولا يأتي بعد عمر الخمسين، فيأمنه من هو دون ذلك، وليس له علة دون علة كالحمى وغيرها، فيأمنه من لم يصبه ذلك، فـ...

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الأول الذي ليس قبله شيء، والحمد لله الآخر الذي ليس بعده شيء، والحمد لله الظاهر الذي ليس فوقه شيء، والحمد لله الباطن الذي ليس دونه شيء.

أحمده تعالى: (خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الملك: 2].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، كل شيء هالك إلا وجهه، له الحكم واليه ترجعون، وأشهد أن، محمداً عبده ورسوله، أنزل الله -تعالى- عليه: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ)[الزمر: 31].

صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى إخوانه من النبيين والمرسلين، وعلى آله وأصحابه أجمعين وعلى كل من تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

أيها الإخوة المؤمنون:اتقوا الله: (وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ)[البقرة: 281].

 

(يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ)[النحل: 111].

 

عباد الله:إن الله جلت قدرته، وتعالت أسماؤه، أوجدنا في هذه الحياة من عدم: (هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا)[الإنسان: 1].

 

أوجدنا في هذه الدنيا لا للدوام والبقاء، ولكن للموت وما بعد الموت: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ)[العنكبوت: 57].

 

حكم المنية في البرية ساري *** ما هذه الدنيا بدار قراري

بينا يرى الإنسان فيها سائراً *** حتى يكون خبراً من الأخبارِ

 

(كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ)[الرحمن: 26-27].

 

يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "أكثروا من ذكر هادم اللذات، الموت".

 

وعن أبي بن كعب -رضي الله عنه- قال: كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، إذا ذهب ثلث الليل قام، فقال: "يا أيها الناس: اذكروا الله، جاءت الراجفة، تتبعها الرادفة، جاء الموت بما فيه، جاء الموت بما فيه".

 

أيها المسلمون -عباد الله- إن الموت مما ينبغي الاستعداد له، واستشعار قربه، فإنه أقرب غائب ينتظر، وما يدري الإنسان لعله لم يبقَ من عمره إلا اليسير، وهو مقبل على دنياه، ومعرض عن آخرته.

 

تؤمل في الدنيا طويلاً ولا تدري *** إذا جن ليل هل تعيش إلى الفجرِ

فكم من صحيح مات من غير علة *** وكم من مريض عاش ألف من الدهرِ

الموت باب وكل الناس داخله *** فليت شعري بعد الموت ما الدارُ

الدار جنة عدن إن عملت بما *** يرضي الإله وإن فرطت فالنارُ

هما مصيران ما للمرء غيرهما *** فانظر لنفسك ماذا أنت تختارُ

 

ولو لم يكن بين يدي الموت كرب ولا هول سوى سكرات الموت، لكان جديراً للإنسان أن يتعظ ويتكدر عليه سروره، ويفارقه سهوه وغفلته.

 

والعجب كل العجب: أن الإنسان لو كان في أعظم اللذات، وأطيب المجالس التي يأنس بها مع أولاده وأصدقائه وأقربائه، وأخبر أن داعياً سوف يحضر ويدعوه إلى أمر من الأمور، لتنكد وتكدر عليه مجلسه، وفسد عليه عيشه، وهو في كل لحظة بصدد أن يدخل عليه ذلك الداعي، فكيف به إذا أيقن أم ملك الموت سوف يدخل عليه في أية لحظة بسكرات النزع، وهو عنه في سهو وغفلة، وما لذلك سبب إلا الجهل والغرور، واشتغال القلب بالدنيا.

 

فليس للموت -يا عباد الله- وقت معلوم عند الناس، فيخاف في ذلك الوقت، ويأمن منه في سائر الأوقات، فليس يأتي في الشتاء دون الصيف، ولا يأتي في الليل دون النهار، ولا يأتي بعد عمر الخمسين فيأمنه من هو دون ذلك، وليس له علة دون علة كالحمى وغيرها فيأمنه من لم يصبه ذلك، فحق على العالم بأمر الله -عز وجل- وأنه الذي انفرد بعلم ذلك الوقت أن لا يأمنه في وقت من الأوقات، وأن يكون مستعدا له أتم الاستعداد.

 

فقد سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- عن الكيس من الناس منه؟ فقال: "أكثرهم للموت ذكراً، وأحسنهم له استعداداً".

 

أيها الإخوة المسلمون: إن ذكر الموت لا بد أن يكون مع تفكر قلب فارغ عن الشهوات، واستحضار لحاله عند الموت وأهواله، وشدائده وسكراته، ولا بد من تفكر في شدة النزع والألم الذي يعانيه عند خروج الروح من البدن -أعاننا الله وإياكم وجميع المسلمين على ذلك- حتى قالوا: إن خروج الروح من البدن أشد من الضرب بالسيف، ونشر المناشير، وقرض المقاريض؛ لأنه يهجم على الإنسان، ويستغرق جميع أجزائه من كل عرق من العروق، وعصب من الأعصاب، وجزء من الأجزاء، ومفصل من المفاصل، ومن أصل كل شعره، من المفرق إلى القدم، ليستل الروح منها.

 

فلا تسأل عن كربه وألمه، فإنما يصيح المضروب ويستغيث لبقاء قوته، وأما الميت عند موته فانه ينقطع صوته من شدة ألمه؛ لأن الكرب قد بالغ فيه، وغلب على قلبه، وعلى كل موضع فيه، وضعفت كل جارحة فيه، فلم يبق فيه قوة لاستغاثة، أما العقل فقد غشيه وشوشه، وأما اللسان فقد حجزه وأبكمه، والأطراف فقد ضعفها وخدرها.

 

فإن بقيت فيه قوة، سمعت له عند نزع الروح وجذبها غرغرة من حلقه وصدره، وقد تغير لونه، وأربد وجهه، حتى كأنه ظهر من التراب الذي هو أصله، وقد جذب منه كل عرق على حدته، فالألم منتشر في داخله وخارجه، حتى ترتفع الحدقتان إلى أعلى أجفانه، وتتقلص الشفتان ويتقلص اللسان، فلا تسأل عن بدن يجذب منه كل عرق من عروقه، ثم يموت كل عضو من أعضائه تدريجياً، فأول ما يبرد قدماه، ثم ساقاه، ثم فخذاه، حتى تبلغ الحلقوم، فعند ذلك ينقطع نظره إلى الدنيا وأهلها، ويغلق دونه باب التوبة، قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله يقبل التوبة من العبد ما لم يغرغر".

 

وأما ما يستحب من الأحوال عند المحتضر: فأن يكون قلبه يحسن الظن بالله -تعالى-، ولسانه ينطق بالشهادة، ويستحب تلقينه: "لا إله إلا الله"؛ كما جاء في الحديث الصحيح من رواية مسلم: "لقنوا موتاكم:"لا إله إلا الله".

 

وينبغي للملقن: أن يرفق به، ولا يلح عليه، وأن يبشر بالجنة؛ لأنه في ذلك الموضع -يا عباد الله- يتحير الرجال والنساء، وأن إبليس عدو الله أقرب ما يكون من العبد في ذلك الموطن، وروي أن النبي -صلى الله عليه وسلم- دخل على رجل وهو يموت، فقال: "كيف تجدك؟" قال: أرجو الله، وأخاف ذنوبي، فقال: "ما اجتمعا في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وأمنه من الذي يخاف".

 

إلى كم ذا التراخي والتمادي *** وحادي الموت بالأرواح حادي.

فلو كُنَّا جماداً لاتعظنا *** و لكنا أشد من الجماد.

تُنادينا المنية كل وقت *** وما نصغي إلى قول المنادي.

وأنفاس النفوس إلى انتقاصٍ *** ولكن الذنوب إلى ازدياد

 

روى البخاري في صحيحه من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: "أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بمنكبي، فقال: "كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل".

 

وكان ابن عمر يقول: "إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحتك لمرضك، ومن حياتك لموتك".

 

اللهم اختم لنا بخاتمة السعادة، واجعلنا ممن كتبت لهم الحسنى وزيادة، واغفر اللهم لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين يا أرحم الراحمين، وأستغفر الله العلي العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إياك نعبد، وإياك نستعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة نرجو بها النجاة يوم نلقاه، يوم يبعثر ما في القبور، ويحصل ما في الصدور.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، وعلى أله وأصحابه وعلى من تبعه واقتفى أثره، ودعا بدعوته إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اتقوا الله، اتقوا الله حق التقوى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، واعلموا أن أقدامكم على النار لا تقوى، وأن ملك الموت قد تخطاكم إلى غيركم، وسيتخطى غيركم إليكم، فخذوا حذركم، الكيس من دان نفسه، وعمل لما بعد الموت، والعاجز من اتبع نفسه هواها، وتمنى على الله الأماني.

 

إن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدى محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثه بدعة، وكل بدعة ضلالة، وعليكم بجماعة المسلمين، فإن يد الله مع جماعة المسلمين، ومن شذ عنهم شذ في النار.

 

أما بعد:

 

عباد الله: اعلموا -ألهمنا الله وإياكم الرضا بقضائه وقدره، ورزقنا وإياكم وجميع المسلمين الاستعداد للقائه- أنه ما من مخلوق مهما امتد أجله، وطال عمره، إلا والموت نازل به، وخاضع لسلطانه، ولو جعل الله الخلود لأحد من الخلق لكان الأولى بذلك الأنبياء والرسل، وكان أولاهم بذلك صفوة أصفيائه، سيد ولد آدم على الإطلاق، محمد -صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين-، قال الله -تعالى-: (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِن مِّتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ)[الأنبياء: 34].

 

وقال الله -تعالى-: (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ)[الزمر: 30].

 

عباد الله: يقول الله -عز وجل-: (وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ)[الذاريات: 55].

 

ويقول سبحانه: (فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى * سَيَذَّكَّرُ مَن يَخْشَى)[الأعلى: 10].

 

ويقول عليه الصلاة والسلام: "من أراد أن تهون عليه مصيبته، فليذكر مصيبته بي، فإنها من أعظم المصائب".

 

عباد الله: عندما نزلت سورة النصر: (إِذَا جَاء نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا)[النصر: 1-3] بكى أبو بكر الصديق -رضي الله عنه- فتعجب الصحابة لبكائه، وقالوا: ما بال هذا الشيخ يبكي؟ ولم يعلموا أن الله ينعي رسوله إلى أصحابه، ويعلمهم أنه بعد فتح مكة، ودخول الناس في دين الله أفواجاً، فلينتظر حتى يأتيه اليقين.

 

وبعد نزول هذه السورة حج -عليه الصلاة والسلام- حجة الوداع، وقال في خطبته: "لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا" صلى الله عليه وسلم.

 

وكان جبريل ينزل عليه في كل عام مرة يراجع معه حفظ القرآن، وفي تلك السنة نزل عليه جبريل مرتين يراجع معه حفظ القرآن، فقال عليه الصلاة والسلام: "ما أظن أجلي إلا قد حضر" صلى الله عليه وسلم.

 

ثم أمر أن يستغفر لأهل البقيع، فخرج عليه الصلاة والسلام في جوف الليل ومعه مولاه، فلما وقف بين أظهرهم قال: "السلام عليكم أهل المقابر، ليهنأ لكم ما أصبحتم فيه مما أصبح الناس فيه، أقبلت الفتن كقطع الليل المظلم يتبع أخرها أولها، والآخرة شر من الأولى".

 

ثم أقبل على مولاه، وقال: "إني قد أوتيت مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فخيرت بين ذلك وبين لقاء ربي والجنة".

 

فقال مولاه: بأبي أنت وأمي، فخذ مفاتيح خزائن الدنيا والخلد فيها ثم الجنة، فقال عليه الصلاة والسلام: "لا والله لقد اخترت لقاء ربى والجنة".

 

ثم عاد من البقيع متثاقلا في مشيه، تخط رجلاه الأرض، ويدخل صلى الله عليه وسلم بيته، ثم أخذته بعد ذلك بحة وصداع وحمى شديدة، حتى أن أم بشر -رضي الله عنها- قالت: ما وجدت مثل هذه الحمى التي عليك على أحد يا رسول الله، فقال: "إنا يضاعف لنا البلاء كما يضاعف لنا الأجر، إنها من الأكلة التي أكلت أنا وابنك بشر بخيبر من الشاة".

 

وكان اليهود -عليهم لعائن الله- قد أهدوا له شاة مشوية، ووضعوا فيها السم، فأكل منها عليه الصلاة والسلام، ثم لفظها بعد أن عرف أن فيها سماً، ولكن السم لقوته سرى في جسمه عليه الصلاة والسلام، فأوقف الله مفعوله، وكان يعاوده في كل عام في نفس الموعد، حتى كان العام الذي توفي فيه عليه الصلاة والسلام اشتد عليه، وكان سبباً لنيل الشهادة، كما نال النبوة، ونال الرسالة صلى الله عليه وسلم، وكان إذا خف عليه المرض يصلي بالناس، وإذا اشتدت عليه الحمى أمر أبو بكر يصلي بالناس، وقد تأخرت عائشة في تنفيذ أمره، وقالت: يا نبي الله إن أبا بكر رجل رقيق، ضعيف الصوت، كثير البكاء، إذا قرأ القرآن، فقال: "إنكن صويحبات يوسف، فمره فليصلي بالناس" فسمع عمر -رضي الله عنه- فقال: يأبى الله ورسوله غيرك يا أبا بكر، فذهب الناس، وقدموا أبا بكر.

 

وكان عليه الصلاة والسلام ينتقل إلى بيوت أزواجه كل يوم ليعدل بينهم وهو في مرض موته، حتى عجز عن المشي، فأخذوا يحملونه برداء من جميع الأطراف ويطوفون به بيتاً بيتاً، حتى يعدل بينهن، وهو يقول بصوت ضعيف: "أين أنا غداً؟ أين أنا غداً؟".

 

وكان يحب أن يكون في بيت عائشة، فاجتمعن زوجاته صلي الله عليه وسلم، وتنازلن عن حقهن، فستقر في بيت عائشة -رضي الله عنها-.

 

وكان يشتد عليه الحمى حتى إنه يأتي وقت الصلاة فيهرق على نفسه القربة الباردة ثم يتوضأ، فيغمى عليه، فينتقض وضوؤه، ثم يعود فيفيق فيهرق على نفسه القربة الباردة، وهكذا إلى سبع قرب لا يستطيع النهوض ليصلي بالمسلمين، فيأمر أبا بكر، فيصلي بالناس.

 

ولقد لقي صلى الله عليه وسلم من الموت شدة، وكان بين يديه إناء فيه ماء، فجعل يدخل يده في الماء فيمسح بها وجهه، ويقول: "اللهم أعني على كرب الموت وسكراته، اللهم أعنى على كرب الموت وسكراته".

 

ويمسح وجهه، وعائشة تنظر إليه، ولا تدري ماذا تصنع؟ وهو ينظر إلى السماء، ويقول: "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى".

 

ثم جاءته صحوة الموت، فقام وعصبت رأسه وتهلل وجهه كأنه القمر ودخل على المسلمين وأبو بكر يصلي بهم، فاتكأ على الباب، ونظر إليهم، وكان المسلمون لا يفارقون المسجد في مرضه صلى الله عليه وسلم، تركوا الطعام، وتركوا الأهل، وامتلأ المسجد، وتجد في الصفوف الأخيرة، عمر وعثمان وعلي وعبد الرحمن بن عوف لا يقر لهم قرار، ولا يهنئون بمنام يتتبعون أخبار رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

وكانت آخر صلاة صلاها عليه الصلاة والسلام، ثم عاد إلى فراشه، واشتد عليه المرض، وكان مضطجعاً في حجر عائشة، ثم نظر، وقال: "بل الرفيق الأعلى، بل الرفيق الأعلى، اللهم أعني على الموت وكربته".

 

ثم انحنى رأسه، وخرج رذاذ بارد من فمه على يد عائشة، فأسلمت رأسه إلى الوسادة، وخرجت تخبر الناس، فلما علموا صاح صائحهم، وأخذ الصحابة يبكون، حتى كاد عمر يفقد عقله: إن رسول الله لم يمت، ولكن ذهب إلى ربه، كما ذهب موسى -عليه السلام-، وسوف يرجع كما رجع موسى، واستل سيفه وهدد من قال: أن الرسول مات، ثم أقبل أبو بكر، وعمر يكلم الناس فلم يلتفت إلى شيء حتى دخل على رسول الله في بيت عائشة، والرسول مسجى فكشف عن وجهه وقبله بين عينيه، وقال: بأبي أنت وأمي يا رسول الله ما أطيبك حياً وما أطيبك ميتاً، ثم خرج على الناس وعمر يكلمهم ويهدد الصحابة، فقال: أيها الناس:من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت".

 

ثم تلا قوله تعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران: 144].

 

عندها سقط السيف من يد عمر، وخر على الأرض، وقال بصوت واه: أهذه آية من كتاب الله يا أبا بكر؟ قال: نعم، عند ذلك أسلموا أمرهم إلى الله، وحملوا جثمانه بعد تحديد قيادة الأمة، وأسلموه إلى قبره صلى الله عليه وسلم، وفاطمة تبكي، وتقول: كيف هان عليكم أن تسلموا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى التراب؟

 

وبلال الذي كان يؤذن له أصبح لا يؤذن بعده، وقال: "والله لقد أحسسنا بالإيمان ينقص في قلوبنا من يوم أن دفنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم-".

 

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده ...

 

اللهم لا تحرمنا أجره، ولا تفتنا بعده ...

 

اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى، وصفاتك العلا، أن تستعملنا في طاعتك، وأن تلهمنا صراطك المستقيم.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين.

 

اللهم اغفر لنا وارحمنا، وعافنا واعف عنا، وتجاوز عنا وتوفنا مسلمين، غير خزايا ولا مفتونين.

 

ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

 

عباد الله: (إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النحل: 90].

 

فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

اللهم أحينا إن علمت أن الحياة خيراً لنا، وتوفنا إن علمت أن الوفاة خيراً لنا.

 

 

المرفقات

4

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات