عناصر الخطبة
1/ عظة الموت 2/ حالة الإنسان عند الاحتضار والموت 3/ سوء الخاتمة 4/ تحسّر العصاة عند الموت 5/ البدار بالتوبة 6/ حديث نبوي شريف يصف الاحتضار والموت والقبر 7/ التأسي بانتقال النبي الكريم للرفيق الأعلى 8/ آنَ أنْ نستيقظ من غفلتنااقتباس
فالموت -يا عباد الله- مصيبة كبرى، وداهية عظمى؛ ولكن الأعظم من ذلك نسيانه، والأشنع من نزوله الغفلة عنه، والأصعب من لقائه عدم الاستعداد له، قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:61-62].
الحمد لله المستحق لغاية التحميد, المتوحد في كبريائه من غير تكيف ولا تحديد, العلي القوي الولي الحميد, الغني المغني المعيد, المعطي الذي لا يفني عطاؤه ولا يبيد, المانع فلا معطي لما منع ولا راد لما يريد.
خلق الخلائق وسلكهم أحسن الطريق إلى الأمر الرشيد, وصورهم فأحسن صورهم وبشرهم في الجنة بالنعيم والتخليد, وبصرهم بعين الاعتبار وحذرهم من عذاب النار والوعيد, وألزمهم شكره وضمن لهم كنز فضله المديد.
وحكم عليهم بالموت فما لأحد عنه محيص ولا محيد, قال -تعالى-: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) [ق:19].
فكم أبكى خليلا بفراق خليله، وكم أيتم وليدا وشغله ببكائه وعويله، فهو لا يبدئ بفرط حزنه ولا يعيد.
هدم بالموت مشيد الأعمار، وحكم بالفناء على أهل هذه الدار، الأحرار منهم والعبيد, أوحش المنازل من أقمارها، ونفر طيور الأرواح من أوكارها، وعوضهم من لذة العيش بالتنغيص والتنكيد.
ساوى في الموت بين الصغير والكبير، والغني والفقير، والمأمور والأمير، والوالد والوليد؛ أفنى به الذكور والإناث, فهم في سجن الأجداث، إلى يوم الوعيد.
أين أهل المدن والحصون؟ أين أرباب المعاني والفنون؟ أين المحصنون بكل حصن منيع وقصر مشيد؟ أين الأمم الماضية؟ أين أرباب القصور العالية؟ حق عليهم الوعيد, فلو عاينتهم في قبورهم, لعجبت من أمورهم, قد غير البلى أحوالهم, ومزق أوصالهم, ولم يعرف منهم الأحرار من العبيد! (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
والصلاة والسلام على أفضل العبيد، القائل فيما صح عنه: "أكثروا من ذكر هاذم اللذات"، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
معاشر الصالحين: الموت! الموت لفظ مخيف، وعنوان مزعج، ونبأ مفزع، وخبر مذهل، وشبح مبهر.
الموت! هو المصير المحتوم، والأجل المكتوب، والغائب المرهوب؛ هو إعلان الخاتمة، ونذير النهاية، هو المشهد الأول من مشاهد الآخرة، والمحطة الأولى من محطات الأمم المسافرة، قصم الله به رقاب الجبابرة، وكسر به ظهور الأكاسرة، وقصر به آمال القياصرة، ونقلهم من القصور إلى القبور، ومن ضياء المهود إلى ظلمة اللحود، ومن الأنس بالزوجات والأبناء والإخوان إلى مقاساة الهوام والديدان، ومن التمتع بالطعام والشراب، إلى التمرغ في التراب, ومن أنس العشرة إلى وحشة الوحدة، ومن المضجع الوثير إلى المصرع الوبيل.
إنه قدر الجبار المنتقم, فيا لله! كم أفنى من الأمم! (هَلْ تُحِسُّ مِنْهُم مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا) [مريم:98].
الموت! مخلوق غامض غريب احتار الناس في أمره, وعجز الأطباء في دفعه، شجاع يتسلق الجدران, ويصعد الحيطان، ويجوب الفيافي والقفار، ويعبر البحور والأنهار، لا يحتمى منه بقلاع، ولا يمتنع منه بحصون: (أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ) [النساء:78].
لا يخلص منه المهرب، ولا ينجي منه الفرار: (قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ) [الجمعة:8]، زائر لا يستأذن، وضيف لا يعرف المجاملة، وباطش لا ترده الواسطة، يستوي عنده الكبير والصغير، والأمير والحقير، والغني والفقير، والملك والمملوك، والرئيس والمرؤوس، والوزير والموزور.
ليس لزيارته موعد محدد، ولا لقدومه زمن معين، ولا لهجمته وقت معلوم، يدلف في السحر، يبهت في الغفلة، يُنزل الراكب من على دابته، ويبطش بالملك من على كرسيه، ويختطف الوالد من بين ذويه، والصبي من يدي والديه، لا يرجئ الجائع حتى يشبع، ولا العطشان حتى يشرب، ولا المسافر حتى يعود: (فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ) [الأعراف:34].
الموت! قدومه فاجعة, هجمته قارعة, زيارته صاعقة، نزوله مصيبة: (إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ) [المائدة:106].
فالموت -يا عباد الله- مصيبة كبرى، وداهية عظمى؛ ولكن الأعظم من ذلك نسيانه، والأشنع من نزوله الغفلة عنه، والأصعب من لقائه عدم الاستعداد له، قال -تعالى-: (حَتَّى إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ * ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ) [الأنعام:61-62].
لقد شغل الناس عن ذكره، وتغافلوا عن خطبه، غرّتهم الحياة، وألهاهم الأمل: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر:3].
ألا أيها القلبُ الكثيرُ علائقُهْ *** ألم تَرَ أنّ الدهر تجري بوائقُهْ؟
رويدك لا تنسَ المقابر والبِلى *** وطُعْمَةَ كأسِ الموتِ إنّك ذائقُهْ
ألا أيها الباكي على الميْتِ بعْدَهُ *** رُوَيْدَكَ لا تَعْجَلْ! فإنّك لاحقُهْ
فيا لها من لحظات! تلك اللحظات التي يحس فيها الإنسان بدنو أجله، وانقطاع عمله؛ وعرق الجبين، وكثر الأنين، وشخص البصر، أحاطت به الكروب والرعوب من كل جانب: (وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ).
عند ذلك، تغير لونه، وغارت عيناه، ومال عنقه وأنفه، وانتهى رونقه، وذهب حُسْنه وجماله، وخَرُس لسانه، وصار بين أهله وأصدقائه ينظر ولا يفعل، ويسمع ولا ينطق، يقلب بصره فيمن حوله من أهله وأولاده وأحبابه وجيرانه، ينظرون ما يقاسيه من كرب وشدة، ولكنهم عن إنقاذه عاجزون، وعلى منعه لا يقدرون: (فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ وَلَكِن لَّا تُبْصِرُونَ) [الواقعة:83-85].
ثم لا يزال يعالج سكراتِ الموت، ويشتد به النزع، وقد تتابع نفسه، واختل نبضه، وتعطل سمعه وبصره، حتى إذا جاء الأجل، وفاضت روحه إلى السماء، صار جثةً هامدة، وجيفةً بين أهله وعشيرته، قد استوحشوا مَن جانبه، وتباعدوا من قُربه، ومات اسمه الذي كانوا يعرفون، كما مات شخصه الذي كانوا يألفون، فلا حول ولا قوة إلا بالله!.
وصف أهل العلم حالة الإنسان عند الموت فقالوا: "تذكروا -يا عباد الله- ساعة الاحتضار إذا نزل هادم اللذات، تذكروا ملك الموت إذا جلس عند رأس أحدكم لقبض الروح، ثم تذكروا ما فيه من الغصص والسكرات؛ فإنه إذا نزل بالإنسان قهر كل قوة، وضعّف كل جارحة، فلم يبق للإنسان قوة، أما العقل فقد غشيه وشوّشه".
هذا العقل الذي كان يستعمله في أمور الدنيا، هذا العقل الذي كان يحتال به على الناس ويحسب به الأرصدة ويمكر به بالمسلمين، إذا نزل به الموت نسي كل شيء، نسي الأولاد، نسي الشيكات؛ لأنه مشتغل بنفسه، ينتظر ما سيبشر به؛ هل سيبشر بحسن الخاتمة؟ أم يبشر بالعذاب؟ والعياذ بالله!.
فيا إخواني: حالة الاحتضار أمر عظيم، يقول ابن القيم -رحمه الله-: "احتضر بعض الناس فأتي إليه فقيل له: قل: لا إله إلا الله! فجعل يقول: دانا دانا"! لماذا؟ لأنه كان مشغولاً بالأغاني، يقضي معظم وقته مع الأغاني والعياذ بالله! ولذلك ختم له بالغناء، ولا حول ولا قوة إلا بالله!.
ويقول -رحمه الله-: "وجيء إلى آخر فقيل له: قل: لا إله إلا الله! فقال: لا أستطيع، لا أستطيع، لا أستطيع أن أقولها".
نعم يا عبد الله، هذه الكلمة "لا إله إلا الله " الكثير لا يستطيع أن يقولها عند الموت؛ لماذا؟ لأنه عاش على غير مقتضاها.
ذكر بعض العلم الثقات الفضلاء أنه جيء إليه بأحد المحتضرين وكان مدمناً على شرب الدخان، قال: فقلت له: قل: لا إله إلا الله! فجعل يقول: بشر شارب النار بالنار. والعياذ بالله!.
يقول ابن القيم -رحمه الله-: "أتي إلى إنسان في ساعة الاحتضار وكان يشرب المسكرات فقيل له قل: لا إله إلا الله! فجعل يقول: ناولوني الكاس .. ناولوني الكاس، ومات وهو يرددها ولا حول ولا قوة إلا بالله" نسأل الله العفو والعافية.
إن الكثير من المسلمين اليوم على خطر عظيم، فهذه أموال الربا قد أُكِلت، وهذه الخمور قد شُربت، وهذه الأمانات قد ضُيعت، وصار همّ أغلبنا في المآكل والمشارب، فبالله عليكم! كيف سيكون حال آكل الربا إذا نزل به الموت؟ كيف سيكون حاله وهو عاش حياته يحارب الله ورسوله؟! كيف سيكون حال بائع الخمر وهو عاش حياته يدمر المسلمين، ويشتت شملهم؟ كيف سيكون حال من عاش يحارب الله ورسوله بالمقالات الكاذبة، وبالتحريض والتشهير بالمسلمين؟ كيف سيكون حال من عاش حياته يصف سنة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالرجعية والجمود؟ كيف سيكون حال من عاشت متبرجة تعرض مفاتنها آناء الليل وأطراف النهار؟ كيف سيكون حال من عاش متخلفا عن الصلوات في المساجد نائما عن صلاة الفجر؟.
فلا تسأل عن حالهم وأخبارهم! فلو أذن لأحدهم أن يتكلم لقال: (يَا حَسْرَتَى علَى مَا فَرَّطتُ فِي جَنبِ اللَّهِ) [الزمر:56].
فليس لنا من حل سوى أن نتوب إلى الله توبة صادقة تحل عقدة الإصرار.
تَتُوبُ مِنَ الذنوبِ إذا مَرِضْتَا *** وتَرْجِـعُ للذنـوبِ إذا بَرِيتَا
إذا ما الضُرُّ مَسَّكَ أنتَ بَاكٍ *** وأَخْبَثُ ما تَكُونُ إذا قَـوِيتَا
فكـمْ مِنْ كُـرْبَةٍ نَجَّاك مِنْها *** وكـمْ كَشَفَ البلاءَ إذا بُلِيتَا
وكَمْ غَطَّـاكَ في ذَنْبٍ وعَنْهُ *** مَـدَى الأيامِ جَهْراً قد نُهِيتَا
أمـا تَخْشى بأنْ تأتي المنايا *** وأنت على الْخَطَايا قد دُهِيتَا
وتَنْسَى فَضْلَ ربٍ جَادَ فضلاً *** عليك فلا ارْعَوَيتَ ولا خشيتا
وكَمْ عاهدتَّ ثُمَّ نقضتَّ عَهْدَاً *** وأنتَ لِكُلِّ مَعروفٍ نَسِيتا
فدارِكْ قَبْلَ نَقْلِكَ عَنْ دِيارِكْ *** إلى قبرٍ إليه قد نُعِيتا
كان يزيد الرقاشي -رحمه الله- وهو من أكابر السلف، كان يقول لنفسه: "ويحك يا يزيد! من يصوم عنك؟ من يصلي عنك بعد الموت؟ ومن ذا يترضى لك ربك من بعد الموت؟ ثم يقول: يا معشر الناس، ألا تبكون وتنوحون عَلَى أنفسكم باقي حياتكم مَن الموت موعده، والقبر بيته، والثرى فراشه، والدود أنيسه، وهو مع ذا ينتظر الفزع الأكبر"، ثم يبكي حتى يسقط مغشيا عليه.
اللهم أصلح أحوالنا، واجعل بطاعتك انشغالنا، وإلى الخيرات مآلنا، جعلني الله وإياكم ممن ذكر فنفعته الذكرى، وأخلص لله عمله سرا وجهرا؛ آمين! آمين! والحمد لله رب العالمين.
الخطبة الثانية:
الحمد لله المحيي المميت، المبديء المعيد، الفعال لما يريد، القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير. وأشهد أن لا إله إلا الله سبق بالآجال علمه، ونفذت فيها إرادته.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
معاشر الصالحين: لنترك الكلمة لسيد الأولين والآخرين، لنترك الكلمة للصادق المصدوق الذي لا ينطق عن الهوى، لنترك الكلمة لإمامنا وحبيبنا سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-، لنترك له الكلمة ليصف لنا حالة الاحتضار والموت والقبر.
وقبل أن نترك له -صلى الله عليه وسلم- الكلمة، أدعوكم أن تتأملوا جميعا هذا الوصف، وأن تعلموا جميعا أنه حق لا مرية فيه، وأننا جميعا سنعيش هذه اللحظات.
قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مَلَائِكَةٌ مِنْ السَّمَاءِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمْ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ عَلَيْهِ السَّلَام حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ".
قَالَ: "فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ".
قَالَ: "فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ يَعْنِي بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الْأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى".
قَالَ: "فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللَّهُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الْإِسْلَامُ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-، فَيَقُولَانِ لَهُ: وَمَا عِلْمُك؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنْ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ".
قَالَ: "فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ ".
قَالَ: "وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ! هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ! فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ! فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ؛ فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمْ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي".
قَالَ: "وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ -وفي رواية الفاجر- إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنْ الدُّنْيَا وَإِقْبَالٍ مِنْ الْآخِرَةِ نَزَلَ إِلَيْهِ مِنْ السَّمَاءِ مَلَائِكَةٌ سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمْ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنْ اللَّهِ وَغَضَبٍ".
قَالَ: "فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنْ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلَا يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلَإٍ مِنْ الْمَلَائِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلَانُ بْنُ فُلَانٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ".
ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- "(لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ)، فَيَقُولُ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا".
ثُمَّ قَرَأَ -صلى الله عليه وسلم-: "( وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ)، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولَانِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي! فَيَقُولَانِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ هَاهْ هَاهْ لَا أَدْرِي! فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنْ السَّمَاءِ أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُواَ لَهُ مِنْ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلَاعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ قَبِيحُ الثِّيَابِ مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ هَذَا يَوْمُك الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ! فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لَا تُقِمْ السَّاعَةَ" رواه الإمام أحمد.
فيا لها من لحظات ما أخطرها! ويا لها من مواقف ما أعظمها! ولا سبيل لمواجهتها إلا بالأعمال الصالحة، لا سبيل للنجاة منها إلا بالاقتداء والسير على طريقة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.
الزموا رحمكم الله بيوت الله، حافظوا على الصلوات، فإنها آخر وصية لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وهو على فراش الموت، يقول: "الصلاةَ الصلاةَ! وما ملكت أيمانكم!".
دوروا مع الإسلام حيث دار، لا تغرنكم الحياة ببهرجها وزخرفها فإن الخطب جسيم، والموقف عظيم، الزموا هدي المصطفى فسنسأل عنه في قبورنا.
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال، قال -صلى الله عليه وسلم-: "إِذَا قُبِرَ الْمَيِّتُ -أَوْ قَالَ: أَحَدُكُمْ- أَتَاهُ مَلَكَانِ أَسْوَدَانِ أَزْرَقَانِ، يُقَالُ لأَحَدِهِمَا الْمُنْكَرُ وَالآخَرُ النَّكِيرُ، فَيَقُولَانِ: مَا كُنْتَ تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ؟ فَيَقُولُ مَا كَانَ يَقُولُ: هُوَ عَبْدُ اللَّهِ وَرَسُولُهُ، أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ هَذَا، ثُمَّ يُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ سَبْعُونَ ذِرَاعًا فِي سَبْعِينَ، ثُمَّ يُنَوَّرُ لَهُ فِيهِ، ثُمَّ يُقَالُ لَهُ: نَمْ، فَيَقُولُ: أَرْجِعُ إِلَى أَهْلِي فَأُخْبِرُهُمْ، فَيَقُولَانِ: نَمْ كَنَوْمَةِ الْعَرُوسِ الَّذِي لا يُوقِظُهُ إِلا أَحَبُّ أَهْلِهِ إِلَيْهِ حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ".
"وَإِنْ كَانَ مُنَافِقًا قَالَ: سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ فَقُلْتُ مِثْلَهُ لا أَدْرِي. فَيَقُولَانِ: قَدْ كُنَّا نَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُولُ ذَلِكَ، فَيُقَالُ لِلأَرْضِ: الْتَئِمِي عَلَيْهِ، فَتَلْتَئِمُ عَلَيْهِ، فَتَخْتَلِفُ فِيهَا أَضْلاعُهُ، فَلا يَزَالُ فِيهَا مُعَذَّبًا حَتَّى يَبْعَثَهُ اللَّهُ مِنْ مَضْجَعِهِ ذَلِكَ" صححه الألباني.
عباد الله: هل هناك أكرم أو أحب عند الله من سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فقد ذاق -فداه أبي وأمي- سكرات الموت، فلو أن أحدا سينجو من سكراته لنجا منها -صلى الله عليه وسلم- سيد الأنبياء وإمام الأتقياء.
لما حضرته الوفاة كانت بين يديه ركوة فيها ماء، فجعل يُدْخِل يده فيها ويمسح بها وجهه ويقول: "لا إله إلا الله! إن للموت لسكراتٍ! اللهم أعني على سكرات الموت!".
فجعلت فاطمة -رضي الله عنها- تبكي وتقول: "وا كرباه على أبتي!" فيقول لها المصطفى -صلى الله عليه وسلم-: "لا كَرْبَ عَلَى أَبِيكِ بَعْدَ الْيَوْمِ"، صلى الله عليه وسلم.
لما حضرت أبا بكر الوفاة قالوا له: نحضر لك طبيبا ينظر إليك؟ قال: "قد نظر إلي طبيبي، وقال إني فعال لما أريد!".
مَاءُ الحَيَاةِ بِذِي الدُّنْيَا وَإِنْ عَذُبَا *** أَخُو السَّرَابِ فَلاَ يَغْرُرْكَ مَنْ شَرِبَا
فَمَا تَطِيبُ كُؤُوسٌ مِنْ مُعَتَّقَةٍ *** مَا دَامَ كَأْسُ المَنَايَا صَاحِ مُقْتَرِبَا
فَاعْمَلْ لِتَلْقَى الذِّي تَسْرُرْكَ طَلْعَتُهُ *** وَقَدِّمَنْ صَالِحَ الأَعْمَالِ وَالقُرَبَا
فَلَيْسَ يُذْكَرُ بَعْدَ اللَّحْدِ مِنْ نَشَبٍ *** إِلاَّ بِصَالِحَةٍ تَسْتَصْلِحُ النَّشَبَا
عباد الله: لقد شغلتنا مباهج الحياة، وألهتنا زينة الدنيا، وغرتنا أموالنا وأهلونا ومناصبنا عن تذكر الموت الذي لا بد من لقائه، والكأس الذي لا مناص من شربه، والثوب الذي لا مفر من لبسه.
لقد أصبحنا اليوم نضيق ذرعا بمن يذكرنا الموت، ويحذرنا الفناء، ويخوفنا مرارة اللقاء.
نحمل الميت على أكتافنا ونحن في غفلة عن هذا المصير، فيد تحمل النعش، والأخرى تتصل بالجوال وتتابع الأعمال، وبعضهم يمشون في الجنازة وهم يحسبون الحسابات، ويستبشرون بالتركات.
لقد بلينا في هذا الزمن بما لم يبتل به غيرنا, ولم يعرفه سوانا من الأمم السابقة، من مغريات لا تحصى، وملهيات لا تحصر، وشهوات لا تنقطع، ومهلكات لا ترتدع؛ شاشات مدمرات، وقنوات هابطة، يمسي البيت مؤمنا فيصبح معها فاسقا، وتنام الأسرة عفيفة شريفة فتستيقظ معها على فضيحة، فلا حول ولا قوة إلا بالله!.
عباد الله: لو لم يكن في الموت إلا أنه يفرق الأحباب لكان ذلك كافيا في إظهار خطورته ومرارته، أقول هذا ونحن نحس بالمرارة لفقد عزيز كان بالأمس معنا فجاءه أجله المحتوم ولا مفر مما قدر.
وعجبا للنفس! الموت مؤئلها، والقبر منزلها، واللحد مدخلها، ثم يسوء عملها!.
كم قاطع زمانه بالتسويف، بائع دينه بالحبة والرغيف، مشتر للويل بتطفيف الطفيف، يتمنى العود إذا رأت نفسه ما يذهلها! (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا) [المنافقون:11].
كم مشغول بالقصور يعمرها، لا يفكر في القبور ولا يذكرها، يبيت الليالي في فكر الدنيا يسهرها، يجمع الأموال إلى الأموال يثمرها، وقع في أشراك المنايا وهو لا يبصرها، أف لدنيا هذا آخرها! وآه لأخرى هذا أولها! (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا).
آه لساعات شديدة الكربات! فيها غمرات ليست بنوم ولا سبات، تتقطع فيها الأفئدة باللوم على الفوات، وتبكي عين الأسف لما مضى من هفوات، والمريض ملقى على فراش الحرقات، فآه ثم آه من جبال حسرات يحملها! (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا).
لقد صاح بك الصائح، بأخذ غاد وسلب رائح، يكفي ما مضى من قبائح، فاقبل اليوم هذه النصائح؛ فإن المحروم من يهملها، (وَلَن يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَا).
اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة! اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة! اللهم إنا نسألك حسن الخاتمة! اللهم إنا نسألك أن تهون علينا سكرات الموت.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم