اقتباس
1- الشوق والحنين إلى الجنة، من خلال كثرة الابتلاءات والأحزان في هذه الدنيا، التي لا يمكن إلا أن يذوق الإنسان المسلم بعضا من كدرها وألمها، مما يزيده حبا وتعلقا بالآخرة التي لا كدر فيها ولا نصب ويرغبه فيها. وأنى لمسلم أن يشتاق إلى الجنة وهو يتقلب في نعيم الدنيا، ولم يذق بعض مرارتها وكدرها، وهذا ليس يأسا من الحياة أو تمنينا للموت لشدة أوكرب، وإنما...
أيها القارئ الكريم الذي يرى ما ينزل بالمسلمين من شدة وكرب وبلاء كل يوم، لا تيأسن أبدا من رحمة الله - تعالى -، ولا تظنن بالله ظن السوء أبدا، فما بعد المحنة إلا المنحة، وما بعد العسر إلا يسرين.
الابتلاء سنة إلهية ماضية في الناس، لا تتبدل ولا تتغير، وقد نبهنا القرآن الكريم لهذه السنة الإلهية كثيرا لنفهم حقيقة الدنيا التي نعيش فيها، فلا نتخيلها خالية من الأكدار والأحزان والابتلاءات، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك: 2]، وقال تعالى: (أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ . وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ) [العنكبوت: 2، 3].
وقد ورد في الخبر: "إنَّ هذه الدنيا دار الْتِواء لا دار اسْتِواء، ومنزِل تَرَحٍ لا منزل فرح، فَمَن عرفَها لم يفْرَح لِرَخاء، ولم يحْزن لِشَقاء، جعلها الله دار بلْوى، وجعل الآخرة دار عُقبى، فجَعَلَ بلاء الدنيا لِعَطاء الآخرة سببًا، وجعل عطاء الآخرة من بلْوى الدنيا عِوَضًا، فيأخُذ لِيُعْطي ويبْتلي ليُجْزي" (أخرجه الديلمي عن ابن عمر).
لقد عاش العالم العربي الإسلامي فترة من الأمن والأمان والاطمئنان ركن فيها كثير من الناس إلى الدنيا وزخرفها، ونسوا الآخرة وحقوقها، ونأى بهم المال والمتاع عن فهم الدنيا على حقيقتها، فظنوا أنها قد صفت لهم، وتجاهلوا المادة التي تكونت منها الدنيا، من الابتلاء والشدائد والأحزان. والحقيقة أن الدنيا برخائها وشقائها ابتلاء وامتحان، يفوز فيه المؤمن الشاكر على الرخاء الصابر على البلاء، ويخسر فيه الجاحد للنعمة المتأفف في المحنة، فالإسلام في الحقيقة قائم على الشكر والصبر كما نعلم، قال صلى الله عليه وسلم: "عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ فَكَانَ خَيْرًا لَهُ" (مسلم: 7692).
فمن الحقائق التي لا بد أن يعلمها المسلمون، أن الله لا يقضي لخلقه إلا الخير، وإن بدت في الظاهر والصورة شر، فليس عند الله شر محض، وإنما قد يكون الشر لخير يعقبه ويخلفه، قال تعالى: (وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) [البقرة: 216].
وحتى لا يتسلل الظن السيئ بالله إلى قلوب بعض المسلمين، وحتى لا يشككوا في محبته ولطفه بخلقه وعباده، كان لا بد أن يتعرف المسلم على فوائد الابتلاءات، حتى يعلم كل واحد منا عظيم فضل الله - تعالى - ورحمته به، ويوقن بأن يعلموا أن المنحة تصاحبها المنحة، ومن هذه الفوائد والمنح التي تصاحب المحنة وتعقبها:
1- الشوق والحنين إلى الجنة، من خلال كثرة الابتلاءات والأحزان في هذه الدنيا، التي لا يمكن إلا أن يذوق الإنسان المسلم بعضا من كدرها وألمها، مما يزيده حبا وتعلقا بالآخرة التي لا كدر فيها ولا نصب ويرغبه فيها. وأنى لمسلم أن يشتاق إلى الجنة وهو يتقلب في نعيم الدنيا، ولم يذق بعض مرارتها وكدرها، وهذا ليس يأسا من الحياة أو تمنينا للموت لشدة أوكرب، وإنما شوقا إلى دار ليس فيها ذلك العنت الذي في الدنيا.
2- الابتلاء يكشف معادن الرجال، ويميز الصفوف، ويهتك الستر عن المنافقين، ويظهر إيمان المؤمنين، قال تعالى: (مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) [آل عمران: 179]؛ يقول سيد قطب تعليقا على هذه الآية: "ويقطع النص القرآني بأنه ليس من شأن الله سبحانه وليس من مقتضى ألوهيته، وليس من فعل سنته، أن يدع الصف المسلم مختلطاً غير مميز، يتوارى المنافقون فيه وراء دعوى الإيمان، ومظهر الإسلام، بينما قلوبهم خاوية من بشاشة الإيمان، ومن روح الإسلام؛ فقد أخرج الله الأمة المسلمة لتؤدي دورا كونيا كبيرا، وهذا الدور الكبير يقتضي التجرد والصفاء والتميز والتماسك، ويقتضي ألا يكون في الصف خلل، ولا في بنائه دخل وكل هذا يقتضى أن يصهر الصف ليخرج منه الخبث، وأن يضغط لتتهاوى اللبنات الضعيفة".
3- الابتلاء يكفر الذنوب والمعاصي، ويكون بمثابة الشدة التي توقظ الغافل وتنبه الناسي، وتعيد البعيد عن الله إلى رحابه وفسيح عفوه ومغفرته، جاء في الحديث الصحيح عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَا يُصِيبُ الْمُسْلِمَ مِنْ نَصَبٍ وَلَا وَصَبٍ وَلَا هَمٍّ وَلَا حُزْنٍ وَلَا أَذًى وَلَا غَمٍّ حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ » (البخاري: 5641). وكم كان للشدة والابتلاء الذي نزل بأهل الشام وغيرها من بلاد الإسلام في الآونة الأخيرة، من أثر كبير في عودة الكثير من الشاردين عن الله - تعالى - إلى رحابه، وتنبيه الكثير من الشباب الضائعين إلى عظمة الإسلام وشعائره، فحققت تلك الشدائد والابتلاءات في شباب الأمة ورجالها ونسائها ما لم تحققه ماكينة الدعوة الإسلامية البشرية على مدى عقود من الزمان خلت فيها.
4- الابتلاءات تظهر عجز الإنسان وافتقاره دائما لخالقه ومولاه، وهي بهذا المعنى تزيد من قوة عقيدة المسلم، وترفع من درجة يقينه وتوكله على ربه، وهو أمر في غاية الأهمية. فكم من الأمراض أعجزت الأطباء وحيرتهم، وكم من الأزمات والمعضلات أعادت المسلمين إلى التوكل الخالص على الله - تعالى - ، بعد أن كانوا متعلقين بالأغيار، ممن لا يملك لهم ضرا ولا نفعا. ولعل ما يجري في العالم العربي والإسلامي الآن، خير برهان على ذلك، فالابتلاءات تنزل تترا على المسلمين، لتزيل عنهم كل اعتماد أو توكل على غير الله - تعالى - ، ولتطهر نفوسهم من التعلق الشديد بالأسباب المادية التي قصروا في الأصل في الأخذ بها، فكانت هذه الابتلاءات كشفا للتقصير في كلا الجانبين، الأخذ بالأسباب وإعداد العدة قدر الاستطاعة، ثم التوكل والاعتماد التام على الله - تعالى - .
أيها القارئ الكريم الذي يرى ما ينزل بالمسلمين من شدة وكرب وبلاء كل يوم، لا تيأسن أبدا من رحمة الله - تعالى - ، ولا تظنن بالله ظن السوء أبدا، فما بعد المحنة إلا المنحة، وما بعد العسر إلا يسرين، والله أصدق القائلين: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشرح: 5-6].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم