الملحد ودعواه أن الإسلام يبيح الكذب

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات:

د. ربيع أحمد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم المرسلين وعلى أصحابه الغر الميامين، وعلى من اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.

 

وبعد:

فقد انتشر في عصرنا مرض الإلحاد، وهو أحد الأمراض الفكرية الفتاكة؛ إذ يفتك بالإيمان، ويعمي الحواس عن أدلة وجود الخالق الرحمن، وتجد المريض يجادل في البديهيات، ويجمع بين النقيضين ويفرق بين المتماثلين، ويجعل من الظن علمًا ومن العلم جهلاً، ومن الحق باطلاً ومن الباطل حقًّا.

 

ومن عوامل انتشار هذا المرض الجهل بالدين وضعف العقيدة واليقين والاسترسال في الوساوس الكفرية والسماع والقراءة لشبهات أهل الإلحاد دون أن يكون لدى الإنسان علم شرعي مؤصل.

 

وشبهات أهل الإلحاد ما هي إلا أقوال بلا دليل وادعاءات بلا مستند، ورغم ضعفها وبطلانها فإنها قد تؤثر في بعض المسلمين؛ لقلة العلم وازدياد الجهل بالدين، ولذلك كان لا بد من كشف شبهات ومغالطات ودعاوي أهل الإلحاد؛ شبهة تلو الأخرى، ومغالطة تلو المغالطة، ودعوى تلو الدعوى؛ حتى لا ينخدع أحدٌ بكلامهم وشُبَههم.

 

وفي هذا المقال سنتناول بإذن الله دعوى بعض الملاحدة أن الإسلام يبيح الكذب.

 

أدلة الملاحدة على هذا الزعم

استدل الملاحدة - هداهم الله - بقوله تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106]، وقالوا الآية تجيز الكذب من أجل الحفاظ على الحياة فإذا اضطروك للكذب وإنكار الإيمان فأفعل.

 

واستدلوا أيضًا بقول النبي صلَّى الله عليه وسلَّم: ((ليس الكذَّاب الَّذي يصلح بين النَّاس، ويقول خيرًا ويَنمي خيرًا))؛ قال ابن شهابٍ: ولم أسمع يرخَّص في شيءٍ ممَّا يقول النَّاس كذبٌ إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين النَّاس، وحديث الرَّجل امرأته وحديث المرأة زوجها[1]، وقال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصُّور[2].

 

واستدلوا أيضًا بقصة قتل كعب ابن الأشرف؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن لِكَعب بنِ الأشرف؟ فإنَّه قد آذى الله ورسوله))، فقال محمَّد بن مسلمة: يا رسول الله، أتحبُّ أن أقتُله؟ قال: ((نعم))، قال: ائذن لي، فلأقل، قال: ((قل))، فأتاه، فقال له، وذكَر ما بينهما، وقال: إنَّ هذا الرَّجل قد أراد صدقةً، وقد عنَّانا، فلمَّا سمعه قال: وأيضًا والله، لتمَلُّنَّه، قال: إنَّا قد اتَّبعناه الآن، ونكره أن ندعه حتى ننظر إلى أيِّ شيءٍ يَصير أمره، قال: وقد أردتُ أن تُسلفني سلفًا، قال: فما تُرهنني؟ قال: ما تريد؟ قال: ترهنني نساءكم، قال: أنت أجمل العرب، أنرهنُك نساءنا؟ قال له: ترهنوني أولادكم، قال: يُسبُّ ابن أحدنا، فيُقال: رُهِن في وسقين من تمرٍ، ولكن نُرهنك اللَّأمة - يعني السِّلاح - قال: فنعَم، وواعده أن يأتيَه بالحارث، وأبي عبس بن جبرٍ، وعبَّاد بن بِشرٍ، قال: فجاؤوا فدعَوه ليلاً، فنزل إليهم، قال سفيان: قال غير عمرٍو: قالت له امرأته: إنِّي لأسمع صوتًا كأنَّه صوت دمٍ، قال: إنَّما هذا محمَّد بن مسلمة، ورضيعه، وأبو نائلة، إنَّ الكريم لو دُعي إلى طعنةٍ ليلاً لأجاب، قال محمَّدٌ: إني إذا جاء فسوف أمدُّ يدي إلى رأسه، فإذا استمكنتُ منه فدونَكم، قال: فلما نزل نزَل وهو متوشِّحٌ، فقالوا: نجد منك ريح الطِّيب، قال: نعم، تحتي فلانة؛ هي أعطرُ نساء العرب، قال: فتأذن لي أن أشمَّ منه، قال: نعم فشمَّ، فتناول فشمَّ، ثم قال: أتأذن لي أن أعود، قال: فاستمكن من رأسه، ثمَّ قال: دونكم، قال: فقتلوه[3].

 

واستدلوا بقصة قتل خالد بن سفيان الهذليِّ؛ قال عبد الله بن أنيسٍ: بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خالد بن سفيان الهذلي، وكان نحو عُرنة وعرفاتٍ، فقال: ((اذهَب فاقتله))، قال: فرأيته وحضرتُ صلاة العصر، فقلت: إني أخاف أن يكون بيني وبينه ما إن أؤخِّر الصلاة، فانطلقتُ أمشي وأنا أصلِّي أومئ إيماءً، نحوه، فلمَّا دنوت منه، قال لي: من أنت؟ قلت: رجلٌ من العرب بلغني أنَّك تجمع لهذا الرجل، فجئتك في ذاك، قال: إني لفي ذاك، فمشيت معه ساعةً حتى إذا أمكنني علوته بسيفي حتَّى برد[4].

 

وقال البعض: لا يصح أن يُبيح الإسلام بعضَ الكذب؛ لأن الكذب في أمر يؤدي إلى الكذب في باقي الأمور، ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقُه بعد ذلك ولا مصداقيَّةَ له.

 

وقال البعض: أنتم أيها المسلمون تدَّعون كمال ربكم فكيف يكون كاملاً، ويجيز لكم الكذب؟ وإن قلتم: الكذب حرام فكيف يجيز الكذب ويحرمه في نفس الوقت؟!

 

وقد وجدتُ جلَّ ما استدل به الملاحدة موجودًا بالنص في العديد من مواقع التنصير!

 

مفهوم الكذب

الكذب هو الإخبار عن الشَّيء بخلاف ما هو؛ عمدًا كان أو سهوًا أو غلطًا[5]، لكن لا يأثم في الجهل وإنما يأثم في العمد[6]، فالمخطئ غير مأثوم بالإجماع[7].

 

الأصل في الكذب الحرمة

الكذب في الإسلام الأصل فيه الحرمة، والدليل على ذلك الكتاب والسنة والإجماع:

أما الكتاب فمنه قوله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119]، والآية فيها الأمر بالتحلي بالتقوى والصدق، والأمر يُفيد الوجوب ما لم تأت قرينةٌ صارفة، فالتحلي بالتقوى والصدق واجب مما يدل على حرمة التخلق بالفسوق والعصيان والكذب.

 

وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ﴾ [النحل: 105]، وقد دلت الآية أن الكذب مِن صفات الكفار، وعليه فلا يجوز أن يتخلَّق به المؤمن.

 

وأما السنة فمنها قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((عليكم بالصِّدق، فإنَّ الصدق يهدي إلى البرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدق، حتى يُكتب عند الله صدِّيقًا، وإيَّاكم والكذب، فإنَّ الكذب يَهدي إلى الفجور، وإنَّ الفجور يهدي إلى النَّار، وما يزال الرجل يكذب ويتحرَّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذَّابًا))[8]، والحديث نصٌّ في وجوب الصدق وحرمة الكذب.

 

وعن أبي هريرة، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: ((آية المنافق ثلاثٌ: إذا حدَّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان))[9]، والحديث دل أن الكذب من صفات المنافقين، وعليه فلا يجوز أن يتخلق به المؤمن.

 

وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ويلٌ للَّذي يُحدِّث فيَكذب ليُضحك به القوم، ويلٌ له، ويلٌ له))[10]، وإذا كان من يكذب بنيَّة إضحاك الناس تُوعِّد بالويل - والويل هو كلمة للدعاء بالعذاب أو الهلاك، أو الويل هو واد في جهنم - فكيف بمن يَكذِب للإضرار بإنسان؟!

 

وأما الإجماع فقد قال النووي رحمه الله: "إجماع الأمة منعقدٌ على تحريمه - أي: الكذب -" [11]، وقال ابن حزم رحمه الله: "واتّفقوا على تحريم الكذب في غير الحرب، وغير مداراة الرجل امرأته، وإصلاحٍ بين اثنين، ودفع مظلمة"[12].

 

بطلان دعوى أن الإسلام يجيز الكذب

من تدليسات الملاحدة والمنصِّرين دعواهم أن الكذب في الإسلام مُباح، وهذه فِريةٌ يُغني فَسادها عن إفسادها، ويُغني بطلانها عن إبطالها؛ إذ الكذب محرم في الإسلام، ونصوص الكتاب والسنة متضافرةٌ على حرمة الكذب، وقد أجمع العلماء على تحريمه.

 

واستند الملاحدة والمنصِّرون في دعواهم إلى بعض النصوص التي ترخِّص في بعض حالات الكذب، وهي ثلاث حالات: الكذب في الحرب، والكذب للإصلاح بين الناس، والكذب بين الزوجين، وما في معنى هذه الحالات كإنقاذ نفسٍ مِن ظالم.

 

وهذه الرُّخص من باب رفع الحرج والمشقة عن الناس ولدفع أعلى المفسدتين، وارتكاب أخفِّ الضررين، ومحل جواز الكذب في هذه الحالات إذا لم يفوِّت حقًّا للمكذوب عليه وإلا حَرُم، وهذه الحالات ما هي إلا رُخَص؛ أي: استثناء من أصل، وليست قاعدة عامة.

 

وإخراج بعض أفراد العام عن حكم العام لا يُلغي عمومية العام، فلو سرَق طبيبٌ لا نقول: إن الأطباء سُرَّاق، ولو ارتشى مستشار لا نقول: إن المستشارين مرتشون، والحكم على البعض ليس حكمًا على الكل، فمِن الجهل إطلاقُ القول بإباحة الكذب بناءً على الترخُّص في بعض أفراده، وهذه الرخص لحالاتٍ معيَّنة يجوز فيها الكذب، فكيف ندَّعي عموميتها؟!

والكلام وسيلةٌ إلى المقاصد، فكلُّ مقصودٍ محمودٍ يمكن تحصيلُه بغير الكذب - يَحرُم الكذب فيه، وإن لم يمكن تحصيله إلاَّ بالكذب جاز الكذب. ثمَّ إن كان تحصيل ذلك المقصود مباحًا كان الكذب مباحًا، وإن كان واجبًا كان الكذب واجبًا، فإذا اختفى مسلمٌ من ظالمٍ يريد قتله، أو أخذ ماله، وأُخفي ماله، وسُئل إنسانٌ عنه، وجب الكذب بإخفائه، وكذا لو كان عنده وديعةٌ، وأراد ظالمٌ أخذها، وجب الكذب بإخفائها، والأحوط في هذا كلِّه أن يورِّي، ومعنى التَّورية: أن يَقصد بعبارته مقصودًا صحيحًا ليس هو كاذبًا بالنِّسبة إليه، وإن كان كاذبًا في ظاهر اللَّفظ، وبالنِّسبة إلى ما يفهمه المخاطب، ولو ترك التَّورية وأطلق عبارة الكذب، فليس بحرامٍ في هذا الحال[13].

 

من محاسن الشريعة ترخيصها للكذب في بعض الحالات

إن ترخيص الشريعة للكذب في بعض الحالات يعدُّ من محاسن الشريعة، ودليل على مرونتها وعدالتها وموافَقتِها للعقل.

 

وإباحةُ الكذب عند الاضطرار لجلبِ منفعة لا يُستغنى عنها، أو لدفع مضرة لا يمكن أن تدفع إلا بالكذب - فيه مراعاةُ حال المضطر، وتكليفُه بما يَستطيع ويقدر عليه، وهذا دليلٌ على عدالة الشريعة الإسلامية؛ فلم تُلزِم الإنسان بما لا يستطيع تحمله، ولم تلزمه بما لا يمكن فعله.

 

وإباحة الكذب عند الاضطرار موافقٌ لحكم العقل؛ فالعقل يَقضي بدفع الضَّرر والفرار منه وجلبِ ما فيه السلامةُ والنجاة، ودفع أعلى المفسدتين بارتكاب أخفِّهما.

 

والعقل يَقضي بجواز الكذب في بعض الحالات؛ من باب ارتكاب أخف الضررين ودفع أعلى المفسدتين، وهذه أمثلةٌ من هذا القبيل:

مثال 1: لو فرَّ رجلٌ مظلوم من ظالم يريد قتله، ورأيتَ هذا الرجل المظلوم يختبئ في مكان تَعرفه، وسألك الظالم: هل رأيت هذا الرجل؟ هل تعلم أين اختبأ؟

وهنا نحن أمام مفسدتين: مفسدة الكذب، وهي صُغرى بالنسبة لمفسدة قتلِ مظلوم، فهل من العقل والمنطق والأخلاق أن تَدلَّه على مكان الرجل المظلوم ليقتله؟! وهل من العقل والمنطق والأخلاق أن تقول للظالم: نعم رأيتُ هذا الرجل، وهو في المكان الفلاني؟! أم ستكذب ليتمكَّن المظلوم من الهرب، وبذلك تكون قد أنقذتَ روح رجل من الموت؟

 

مثال 2: لو أراد مجرمٌ أن يَبطِش بأخيك فسألَك عن مكانه وأنت تَعلمه.

وهنا نحن أمام مفسدتين: مفسدة الكذب، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة البطش بأخيك، فهل ستَقول الصدق، وتقول: هو في المكان الفلاني، وبذلك تدله على مكان أخيك ليقتلَه، أم ستكذب؟

 

مثال 3: ماذا لو وقعتَ في يد رجل ظالم يَقتل كلَّ مَن هو من بلدة معينة، وأنت مِن هذه البلدة، فسألك: هل أنت من هذه البلدة؟

وهنا نحن أمام مفسدتين: مفسدة الكذب، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة قتل الظالم لك، فهل من العقل أن تقول له: نعم أنا من هذه البلدة، أم ستكذب لتنجو بنفسك؟

 

مثال 4: ماذا لو وقع بعض الجنود في الأسر وأخذ العدوُّ يسألهم عن جيشهم وعدَّتهم وعتادهم.

وهنا نحن أمام مفسدتين مفسَدة الكذب، وهي صغرى بالنسبة لمفسدة الإدلاء بمعلومات عن جيشهم وعدتهم وعتادهم، فهل من العقل أن يُخبروهم عن جيشهم وعدتهم وعتادهم، ويصبحون خوَنة لبلدهم أم سيكذبون؟!

 

مثال 5: ماذا لو كنت طبيبًا وتعلم أن مريضًا معينًا في حالة خطرة، ولو علم المريضُ بخطورة حالته ستَسوء صحته، وربما لا يتحمل هذا الخبر فيموت، وسألك هذا المريض: هل حالتي خطرة يا دكتور؟ اصدقني يا دكتور؟

وهنا نحن أمام مفسدتين: مفسدة الكذب، وهي صغرى بالنسبة لمفسَدة ازدياد سوء صحة المريض، فهل من العقل والمنطق والأخلاق أن تقول له: نعم حالتك خطرة، وبذلك تكون ساعدتَ في ازدياد سوء صحته، أو ساعدت في موته أم ستكذب وتخبره أن حالته جيدة وتتحسن؟!

 

مثال 6: ضابط يريد القبض على تجار مخدرات متلبسين بالجريمة، فاضطر للكذب وادِّعاء أنه يريد العمل معهم؛ حتى يتمكَّن من مُراقبتهم والقبض عليهم، فهل العقل والمنطق يُجيز مثل هذا العمل أم لا؟

 

مثال 7: رجل تهيَّأَت له زوجته، وتصنَّعَت وتعطرَت، وأعدَّت له أحسن الطعام والشراب، ولبست له أحسن الثياب، إلا أن الزوج رأى في تصنُّعها شيئًا يكرهه، ثم سألته الزوجة: ما رأيك هل ترى شيئًا تكرهه؟ فهل من الذوق والأدب أن يقول لها: نعم أرى منك كذا أكرهه، أم يُداريها ويقول لها: لا أرى منك إلا الخير والجمال! ما شاء الله، تبارك الخلاق... وكلمات من هذا القبيل؟

 

والصدق مع المرأة في بعض الحالات قد يؤدِّي إلى إيذاء العلاقة بين الزوجين، والإضرار بها؛ كاعتراف الزوج بأمور تجرح مشاعر المرأة، وتجعلها حزينة وغير قادرة على استمرار العلاقة معه في الكثير من الأحيان، مع أن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الجميلة، والمحاسن التي يحبها، غضَّ الطرف عن صفاتها التي لا تعجبه، وبذلك تدوم العشرة والألفة بين الزوجين.

 

نظرات في استدلالات الملاحدة

استدل الملاحدة - هداهم الله - بقوله تعالى: ﴿ مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ ﴾ [النحل: 106].

 

وقالوا: الآية تجيز الكذب من أجل الحفاظ على الحياة، فإذا اضطروك للكذب وإنكار الإيمان فافعل.

 

وإباحة الكذب عند الاضطرار للحفاظ على النفس من الهلاك من محاسن الشريعة، ودليلٌ على مراعاتها الأحوال المختلفة للناس، فلا تعامِلُ المضطر معاملةَ غيره.

 

والأمور التي يكذب فيها الإنسان لدفع ضرر محقق عن نفسه أو عِرضه لا يُدفع إلا بالكذب - هي في أصلها ممنوعة، ولكن الله أباحها للضرورة؛ إذ الضرورات تبيح المحظورات، ويجوز دفعُ أعلى المفسدتين بارتكاب أخفِّهما، وما يدل على ذلك قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 173].

 

ودفعُ الإنسانِ الضررَ عن نفسه من باب المحافظة على النفس، ولا يجوز للإنسان أن يُضرَّ بنفسه؛ قال تعالى: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾ [البقرة: 195].

 

واقتضَت حكمة الله رفْعَ الضَّرر عن المكلَّفين ما أمكَن؛ فإن لم يُمكِن رفعُه إلا بضررٍ أعظمَ منه، بقَّاه على حاله، وإن أمكن رفعُه بالتزام ضررٍ دونه رفَعه به[14].

 

واستدل الملاحدة - هداهم الله - بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ليس الكذَّاب الَّذي يصلح بين النَّاس، ويقول خيرًا وينمي خيرًا))؛ قال ابن شهابٍ: ولم أسمع يرخَّص في شيءٍ ممَّا يقول النَّاس كذبٌ إلا في ثلاثٍ: الحرب، والإصلاح بين الناس، وحديث الرَّجلِ امرأتَه وحديث المرأة زوجها[15]، وقال القاضي: لا خلاف في جواز الكذب في هذه الصُّور[16]، وترخيص الكذب في هذه الحالات من سماحة وعدالة الشريعة، ودليل على مرونة الشريعة ومراعاتها لأحوال الناس المختلفة.

 

ومفسدة الكذب تعتبر مفسدةً صغرى إذا قورنت بمفسدة فَساد ذات البين ومفسدة العَداوة بين الناس، ومفسدة الكذب تعتبر مفسدة صغرى إذا قورنت بمفسدة إفشاء أسرار الدولة وخيانة الدولة.

 

ومفسدة الكذب بين الزوجين تعتبر مفسدةً صغرى إذا كان الغرَضُ المحافظةَ على الحياة الزوجية، ومنع هدمها، ولحصول الألفة بين الزوجين؛ بشرط ألاَّ يترتَّب على هذا الكذب إضاعةُ حق، فإذا سأل الزوج زوجته: هل تحبه؟ فعليها أن تجيبه بنعم، وإن كانت تكرهه؛ محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية، وإذا سألت الزوجةُ زوجها: هل تحبني؟ فعليه أن يجيبها بنعم وإن كان يكرهها؛ محافظة على بقاء الأسرة واستمرارية الحياة الزوجية، وهذا من باب الملاطفة والمؤانسة وحسن العشرة.

 

واستدل الملاحدة بقصة قتل كعب ابن الأشرف، ومن المعلوم أن كعبًا كان شاعرًا، فهَجا رسولَ الله صلى الله عليه وسلم وأصحابَه، وشبَّب بنسائهم، وبكى على قتلى بدر، وحرَّض المشركين بالشعر على رسول الله صلى الله عليه وسلم[17].

 

وهذه الأسباب استحقَّ بسببها القتل جزاءً وفاقًا؛ فقد هجا نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، وهجا أصحابه، وتغزَّل بنساء المسلمين ووصَف جمالهن، وحرَّض المشركين على قتال نبي الأمة صلى الله عليه وسلم، ولو أن رجلاً سبَّ رئيس دولة وأهلَ دولة معينة فقتَلوه لما تكلم أحد، ولو أن رجلاً حرَّض على حرب دولة فأمسَك أهلها به وقتلوه لما تكلم أحد، وما فعله محمد بن مسلمة ما هو إلا حيلةٌ لقتل مَن يستحق القتل بأمرٍ من حاكم الدولة الإسلامية.

 

وهل يريد الملحد أن يترك من يهين دولته ويسبُّ أهلها ويحرض على حربها؟!

واستدلوا بقصة قتل خالد بن سفيان الهذليِّ، وخالد بن سفيان الهذليُّ كان يجمِّع العرب في بطن عرنة لقتال النبي صلى الله عليه وسلم[18]، فاستحقَّ بسبب ذلك القتلَ جزاءً وفاقًا، ولو أن رجلاً جمع بعض الناس لقتال قريةٍ من القرى فأمسك أهلُها به وقتلوه لما تكلَّم أحد، وما فعله عبدالله بن أُنيس ما هو إلا حيلة لقتلِ مَن يستحق القتل بأمرٍ من حاكم الدولة الإسلامية.

 

وهل يريد الملحد أن يترك من يحرض على حرب بلاده، ويجمع الناس لتدمير بلاده؟!

أيها الإخوة، إن الملحد يمدح كذِبَ أحد رجال الشرطة على سفَّاح أو مجرم؛ ليتمكَّن منه ويقتله، أو يُسلِمَه للدولة فتعدمه؛ ليستريح منه الناس، لكن عندما يفعل مثلَ هذا أحدُ المسلمين بأمر من حاكم الدولة الإسلامية يشنِّع الأمر، وهذا تناقض.

 

وقال البعض: لا يصح أن يُبيح الإسلامُ بعضَ الكذب؛ لأن الكذب في أمرٍ يؤدِّي إلى الكذب في باقي الأمور، ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك ولا مصداقية له.

 

والجواب: حقًّا من يكذب في أمر يكذب في باقي الأمور، ومن يكذب في أمر لا يمكن تصديقه بعد ذلك، لكن هذا في حق غيرِ المضطرِّ وغير المجبَر وغير المكرَه؛ فمَن كذب لينجو من بطش ظالم - وليس له سبيل للنجاة إلا الكذب - لا يقال: إنه كذاب، أو سيكذب في باقي الأمور، أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك، ومَن كذب لأخذ حقِّه، وليس له سبيل لأخذ حقه إلا بالكذب لا يقال: إنه كذاب، أو سيكذب في باقي الأمور، أو لا يمكن تصديقه بعد ذلك.

 

وقال البعض: أنتم أيها المسلمون تدَّعون كمال ربِّكم، فكيف يكون كاملاً ويُجيز لكم الكذب؟ وإن قلتم: الكذب حرام فكيف يجيز الكذب ويحرمه في نفس الوقت؟

والجواب: أن ترخيص الكذب في بعض الحالات من كمال عدل الله، ومِن كمال علمه؛ فهو يَعلم أن المضطرَّ والمكرَه والمجبر لا يَقدر على الصِّدق في هذه الحالات، فأجاز له الكذب حتى تَزول ضرورته؛ رحمة به ولعلمه بحاله.

 

أما قولهم: إن قلتم: الكذب حرام فكيف يجيز الكذب ويحرمه في نفس الوقت؟

فالجواب: مَوردُ النهي ليس مورد الإباحة؛ فالجهة منفكَّة، فالنهي في حالة عدم الاضطرار وفي حالة حرية الاختيار، أما الإباحة فهي في حالة الاضطرار وعدم الاختيار.

 

هذا، والحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات.

 

مراجع المقال:

1- المنتظم في تاريخ الأمم والملوك؛ لابن الجوزي.

2- المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج؛ للنووي.

3- الأذكار؛ للنووي.

4- إعلام الموقعين عن رب العالمين؛ لابن القيم.

5- سنن أبي داود.

6- سنن الترمذي.

7- سنن الدارمي.

8- صحيح البخاري.

9- صحيح مسلم.

10- رياض الصالحين؛ للنووي.

11- مراتب الإجماع؛ لابن حزم.

12- مستدرك الحاكم.

13- فتح الباري؛ لابن حجر.

[1] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692، ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم.

[2] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/ 158.

[3] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 4037 ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 1801 واللفظ لمسلم.

[4] رواه أبو داود في سننه حديث رقم 1249 والحديث سكت عنه أبو داود فهو صالح للاحتجاج، لكن الألباني ضعفه في صحيح وضعيف سنن أبي داود، ثم تراجع عن ذلك وصححه في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2981.

[5] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 1/ 94.

[6] الأذكار للنووي ص 582.

[7] فتح الباري لابن حجر 1/ 201.

[8] رواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2607.

[9] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 33 ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 59.

[10] رواه أبو داود في سننه حديث رقم 4990، ورواه النسائي في سننه حديث رقم 11061، ورواه الحاكم في المستدرك حديث رقم 142، ورواه الدارمي في سننه حديث رقم 2744، ورواه الطبراني في المعجم الكبير حديث رقم 951، ورواه البيهقي في السنن الكبرى حديث رقم 20825، وحسنه الألباني في صحيح وضعيف سنن أبي داود، وقال الترمذي في سننه: هذا حديث حسن 4/ 135 حديث رقم 2315.

[11] الأذكار للنووي ص 377.

[12] مراتب الإجماع لابن حزم ص 157.

[13] رياض الصالحين للنووي ص 439.

[14] إعلام الموقعين عن رب العالمين لابن القيم 2/ 92.

[15] رواه البخاري في صحيحه حديث رقم 2692،ورواه مسلم في صحيحه حديث رقم 2605 واللفظ لمسلم.

[16] المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج للنووي 16/ 158.

[17] المنتظم في تاريخ الأمم والملوك لابن الجوزي 3/ 158.

[18] انظر تاريخ الإسلام للذهبي 2/ 198، والبداية والنهاية لابن كثير 4/ 160.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات