عناصر الخطبة
1/مبادئ العلاقات بين الناس 2/ من صور المعاملة النبوية الحسنة 3/مفاهيم خاطئة عن صلة الأرحام 4/مشكلة التعامل بالمثل وعدم الإحسان 5/علاج مسألة المعاملة بالمثل 6/التغافل عن الزلات.اقتباس
هُناكَ مُشكِلةُ التَّعاملِ بِالمِثلِ، يَقولُ أحدُهم: يَزورُني أزورُه، يَعودُني أَعودُه، يُعطيني أُعطيه، يُحسِنُ إليَّ أُحسِنُ إليهِ، يُسَلِّمُ عَليِّ أُسَلِّمُ عَليهِ، يُشارِكُني في الأفراحِ أُشارِكُهُ في الأفراحِ، يُشارِكُني في الأحزانِ أُشارِكُهُ في الأحزانِ، والعَكسُ بالعَكسِ...
الخُطْبَة الأُولَى:
إن الحمد لله؛ نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فهو المهتد، ومن يضلل فلن تجد له وليًّا مرشدًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبدُ الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين وتابعيهم وسلم تسليمًا كثيرًا.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71].
أَمَّا بَعْدُ: فَقَانونُ العَلاقَاتِ بَينَ النَّاسِ يَقومُ عَلى ثَلاثةِ مَبادئ لا رَابعَ لَهم، إمَّا أَنْ تُعَامِلَ النَّاسَ بأحسَنَ مِمَّا يُعَامِلونَكَ بِهِ، أو تُعَامِلَهم بِالمِثْلِ، أو تُعَامِلَهم بالأَسوأ، وحَيثُ إنَّ نَبيَّنا -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ- هو سَيِّدُ البَشريَّةِ، وَصَاحبُ الأخلاق الزَّكيَّةِ، فَقَد اختَارَ لَهُ رَبُّهُ -عَزَّ وجَلَّ- خَيرَ المُعَامَلاتِ، فَقَالَ لَهُ -سُبحَانَهُ-: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[فصلت: 34- 35]، فَكَانَ هَذا ظَاهِراً في تَعامُلِهِ مَعَ النَّاسِ بالعَفوِّ والتَّغاضي والإحسانِ.
وَمِنْ صُوَرِ هَذهِ المُعَامَلةِ الحَسَنةِ، مَا حَدَثَ في فَتحِ مَكةَ، فَبَعدَ سِنينَ مِن التَّعذيبِ والاضطِهادِ، وإخراجِ المُسلِمينَ مِن خَيرِ البِلادِ، يَقِفُ النَّبيُّ -صَلَّى اللهُ عَليهِ وَسَلَّمَ- عَلى بَابِ الْكَعْبَةِ، وَقَد اجْتَمَعَ النَّاسُ فِي الْمَسْجِدِ، فَيَقولُ: "مَا تَرَوْنَ أَنِّي صَانِعٌ بِكُمْ؟"، قَالُوا: خَيْرًا، أَخٌ كَرِيمٌ وَابْنُ أَخٍ كَرِيمٍ، فَقَالَ -عَليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ-: "أَقُولُ كَمَا قَالَ يُوسُفُ لإخوَتِهِ: (لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ)، اذْهَبُوا فَأَنْتُمُ الطُّلَقَاءُ"، فَكَانَ نَتيجةُ هَذهِ المُعَاملةِ الحَسَنةِ أنْ دَخَلُوا فِي الإِسْلامِ، وَصَدقَ اللهُ -تَعالى-: (فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 35].
وَقَد أَوصَى -صلَّى اللهُ عليْه وسلَّمَ- أُمَّتَهُ بِخَيرِ التَّعَاملِ فَقَالَ: "اعْفُ عمَّنْ ظَلَمَكَ، وصِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وأحسنْ إلى مَنْ أساءَ إليكَ، وقُلْ الحقَّ ولَوْ على نفسِكَ"، وَقَالَ: "لَيْسَ الْوَاصِلُ بِالْمُكَافِئِ"، أَيْ: لَيسَ وَاصِلُ الرَّحِمِ هُو الذي يَصِلُ إذا وَصَلوهُ، فإنَّ هَذا مُكَافأةٌ ومُعَاوضةٌ، "وَلَكِنْ الْوَاصِلُ الَّذِي إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا"، أَيْ: إذا أَسَاءَ إليهِ أَقَاربُه أَحسَنَ إليهم ووَصَلَهُم، وهَكَذا تَكونُ المُعَاملةُ بالأحسَنِ.
قَالَ المُقَنَّعُ الكِنديُّ:
وَإِنَّ الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي *** وَبَينَ بَني عَمِّي لَمُختَلِفٌ جِدَّا
أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِنْ هُمُ *** دَعَوني إِلى نَصْرٍ أَتيتُهُم شَدَّا
وَإِن ضَيَّعوا غَيبي حَفظتُ غُيوبَهُم *** وَإِنْ هُمْ هَوَوا غَييّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا
فَإِن يَأكُلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم *** وَإِن يَهدِموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا
وَأمَّا اليَومَ فهُناكَ مُشكِلةُ التَّعاملِ بِالمِثلِ، يَقولُ أحدُهم: يَزورُني أزورُه، يَعودُني أَعودُه، يُعطيني أُعطيه، يُحسِنُ إليَّ أُحسِنُ إليهِ، يُسَلِّمُ عَليِّ أُسَلِّمُ عَليهِ، يُشارِكُني في الأفراحِ أُشارِكُهُ في الأفراحِ، يُشارِكُني في الأحزانِ أُشارِكُهُ في الأحزانِ، والعَكسُ بالعَكسِ...
حَتى أصبَحَ شِعَارُ الكَثيرِ قَولَ الشَّاعِرِ:
وَلَسْتُ بَهَيَّابٍ لمنْ لا يَهابُنِي *** وَلَستُ أَرى للِمَرءِ مَا لا يَرى لِيا
فَإنْ تَدنُ منِّي تَدنُ مِنْكَ مَودَّتي *** وإِنْ تَنأَ عَنِّي تَلْقَني عَنْكَ نَائيـا
كِلاَنا غَنِيٌّ عَنْ أخِيه حَيَاتَه *** وَنَحْنُ إذَا مِتْنَا أشَدُّ تَغَانِيَا
فَهَذا مُكافأةٌ ومُقَابلةٌ للإحسانِ بالإحسانِ، وَليسَ عَمَلاً مِمَّا يُبتَغى بِهِ وجهُ اللهِ -تَعالى-، فَالذي يَعملُ للهِ لا يَتَطلَّعُ إلى مُعَاوَضةِ النَّاسِ، ولا إلى شُكرِهم وثَنائهم، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا)[الإنسان: 9].
ومَا تَدري لَعلَّكَ بِزيارتِكَ أو مُشاركَتِكَ لَه في الأفراحِ والأحزانِ، تَكونُ سَببًا في إصلاحِ قَطيعَتِه، وكَسبِ مَوَدَتِهِ، وصَدَقَ اللهُ -تَعالى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيمِ، أقولُ قولي هذا وأستغفرُ اللهَ لي ولكم من كلِ ذنبٍ فاستغفروه إنه هو الغفورُ الرحيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدُ للهِ على إحسانِه، والشكرُ له على توفيقِهِ وامتِنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له تعظيمًا لشأنِه، وأشهدُ أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه، صلَّى اللهُ عليه وعلى آلِه وأصحابِه وسلَّمَ تسليمًا مزيدًا.
أما بعد: فَعِلاجُ المُعامَلةِ بِالمِثلِ هو أن تُحسِنَ الظَّنَّ بِأَخيكَ إذا لَم تَرهُ في مُناسَبَاتكَ، وكَما قِيلَ: "الغَائبُ عُذرهُ مَعهُ"، قَالَتْ بِنْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُطِيعٍ لِزَوْجِهَا طَلْحَةَ بْنِ عَبْدِ الرّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ الزّهْرِيّ، وَكَانَ أَجْوَدَ قُرَيْشٍ فِي زَمَانِهِ: "مَا رَأَيْت قَوْمًا أَلْأَمَ مِنْ إخْوَانِك. قَالَ: مَهْ، وَلِمَ ذَلِكَ؟، قَالَتْ: أَرَاهُمْ إذَا أَيْسَرْت لَزِمُوك، وَإِذَا أَعْسَرْتَ تَرَكُوك، قَالَ: هَذَا وَاَللَّهِ مِنْ كَرَمِهِمْ، يَأْتُونَنَا فِي حَالِ الْقُوَّةِ بِنَا عَلَيْهِمْ، وَيَتْرُكُونَنَا فِي حَالِ الضَّعْفِ بِنَا عَنْهُمْ".
يَقُولُ المَاورديُّ: "فَانْظُرْ كَيْفَ تَأَوَّلَ بِكَرْمِهِ هَذَا التَّأْوِيلَ حَتَّى جَعَلَ قَبِيحَ فِعْلِهِمْ حَسَنًا، وَظَاهِرَ غَدْرِهِمْ وَفَاءً، وَهَذَا مَحْضُ الْكَرَمِ وَلُبَابُ الْفَضْلِ، وَبِمِثْلِ هَذَا يَلْزَمُ ذَوِي الْفَضْلِ أَنْ يَتَأَوَّلُوا الْهَفَوَاتِ مِنْ إخْوَانِهِمْ، وصَدَقَ القَائلُ:
إذَا مَا بَدَتْ مِنْ صَاحِبٍ لَك زَلّةٌ *** فَكُنْ أَنْتَ مُحْتَالًا لِزَلّتِهِ عُذْرَا
ومَا أَجملَ قَولَ بَعضِهم: "مَا يَزالُ التَّغَافلُ عَن الزَّلاتِ مِن أَرقى شِيَمِ الكِرامِ؛ فإنَّ النَّاسَ مَجبولونَ عَلى الزَّلاتِ والأَخطاءِ، فَإنْ اهتَمَّ المرءُ بِكُلِّ زَلةٍ أَو خَطيئةٍ تَعبَ وأَتعَبَ، والعَاقِلُ الذَّكيُّ من لا يُدَقّق في كُلِّ صَغيرةٍ وكَبيرةٍ مِن أَهلِهِ وأَقَاربِهِ، وأَحبابِهِ وَجِيرانِهِ، وأَصحابِهِ وزُملائه، كِي تَحلوا مُجالَسَتُهُ، وتَصفو عِشرَتُهُ".
وإذا المُسيءُ جَنَى عَليكَ جِنايةً *** فَاقتُلهُ بِالمَعروفِ لا بِالمُنكَرِ
أَحسِنْ إليهِ إذا أَسَاءَ فَأَنتُمَا *** مِنْ ذِي الجَلالِ بِمَسمَعٍ وبِمَنظَرِ
اللهمَّ أَرِنا الحقَّ حَقًا وارزقنا اتباعَه، وأرِنا البَاطلَ بَاطلاً وارزقنا اجتنابَه، اللهمَّ اهدنا لأحسنِ الأخلاقِ لا يَهدي لأحسنِها إلا أَنتَ، واصرفْ عَنَّا سَيئَها لا يَصرفْ سَيئَها إلاّ أَنتَ، اللهمَّ استر عَوراتِنا، وآمنْ رَوعاتِنا، واحفظنا مِن بين أيدينا ومِن خَلفِنا، وعن أيمانِنا وعن شمائلنا ومِن فَوقِنا، ونَعوذُ بعظمتِك أنْ نُغتالَ مِن تَحتِنا.
اللهمَّ أَصلحنا وأَصلح أزواجَنا وأبناءَنا وبَناتِنا، اللهمَّ اهدِنا سُبُلَ السلامِ، وأَخرجنا مِن الظلماتِ إلى النورِ، وجَنبنا الفواحشَ والفِتنَ مَا ظَهرَ منها وما بَطنَ.
اللهمَّ نَوِّرْ عَلى أَهلِ القُبورِ قُبورَهم، واغفر للأحياءِ ويَسرْ أُمورَهم، اللهمَّ اغفر لآبائنا وأمهاتِنا، وارحمهم كَما رَبُّونا صِغاراً، واجعلْ بَلدنا هذا آمناً مُطمئناً سَخاءً رَخاءً وسَائرَ بلادِ المسلمينَ.
اللهمَّ ارفع عَنَّا الغَلاءَ والبَلاءَ والوَباءَ والزَلازلَ والمِحنَ، رَبَّنا آتِنا في الدُّنيا حَسنةً وفي الآخرةِ حَسنةً وقِنا عَذابَ النَّارِ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم