المظاهرات

مبارك بن عبد العزيز بن صالح الزهراني

2022-10-05 - 1444/03/09
عناصر الخطبة
1/ توجيهات نبوية بعدم الخروج على الحكام الظالمين 2/ وجوب مناصحة الحكام والصبر على ذلك 3/ المفاسد الضخمة المترتبة على الخروج على الحكام 4/ الثورة ضد الخليفة الراشد عثمان وآثارها إلى اليوم 5/ عدم تمرد الصحابة والتابعين على الحكام المختلفين

اقتباس

واعلموا أن بنا متربصين حاقدين يبغون بهذا البلد الدوائر، ويريدون به المعاثر، ويتَقَصَّدونه بالمكايد والمدابر؛ ووالله! لا يكفُّهم إلا الله تعالى! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ)؛ فعليكم -عباد الله- بسؤال الله تعالى، والتضرع إليه أن يكُفَّ عنا البأس، ويدفع عنا البلاء والفتن ..

 

 

 

 

أما بعد: أيها المسلمون: إنَّ من الأصول الشرعية الكبرى أن الله تعالى قد أتمَّ لنا الدين، وأوضح لنا في كتابه السبيل، وما يقع من شيء في الدنيا إلاَّ ونبؤه في كتاب الله تعالى، وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، عرفه مَن عرفه، وجهله من جهله.

ألَا وإنَّ مما أخبر به النبي -صلى الله عليه وسلم- أمته وكرر عليها حديثه، وأعاد فيها نبأه، الفتنَ التي ستكون في أمته من بعده إلى قيام الساعة، وبما أننا نعيش وقتاً عصيباً، وظرفاً عاصفاً بشأن ما يشاع من إرادة بعض الناس أن يقوموا بمظاهرات في أرجاء هذا البلد الآمن المبارك الذي يأتيه رزقه رغداً من كل مكان، وجب التحذير من هذه المظاهرات، وبيان ما تجره من ويلات.

أيها المسلمون: إنّ من يقرأ سنة النبي -صلى الله عليه وسلم- لا يجد فيها حرفاً واحداً يوصي فيه صحابته -رضي الله عنهم- بمثل هذه المظاهرات والثورات بل جعلها -صلى الله عليه وسلم- فتنة؛ بل لا نجد إلاَّ الأمر بالصبر على جورهم وظلمهم، وعدم منازعتهم أمرهم، مع نصحهم.

وهل -يا عباد الله- أحد من الخلق أغيَرُ على الحقوق من النبي؟ لا وَرَبِّي! ها هو -صلى الله عليه وسلم- يعلم ما سيكون من أكل الحقوق من بعض الولاة، ثم يأمر أصحابه بالصبر عليهم!.

وهل أحد من الخلق أرأف بأمته، وأرحم بها، وأحفظ لحقوقها من النبي -صلى الله عليه وسلم-؟ لا وربي! وهل أحد من الخلق أشرف وأكرم من صحابة رسول الله -صلى الله عليه وسلم-؟ فهاهي حقوقهم يأكلها رعاع من ولاة بني أمية كيزيدَ بنِ معاوية، وزياد بن أبيه، والحجاج، ونحوهم من الظالمين؛ والصحابةُ هم الذين جالدوا الفرس والروم، وفتحوا مصر، وجلبوا غنائمهم إلى الخليفة الراشدي عمر، وعثمان -رضي الله عنهم-، ثم نرى من جاء من بعدهم يأخذون هذه الغنائم ويستأثرون بها دون الصحابة، بل ويضرب بعض الصحابة ويُهان من هؤلاء الولاة! ومع ذلك كله ينكرون عليهم، وينصحونهم، ولكن لم يخرجوا عليهم في مظاهرة سلمية، وإنما اعتصموا بالصبر الذي وصاهم به النبي -صلى الله عليه وسلم-، وعَهِدَ به إليهم.

وها هو الإمام أحمد، وقد أؤذي أشدّ الإيذاء حتى جُلد ما يربو على عشرة آلاف جلدة، يقول في نصحٍ صادق، لم يُخرجه عن الحق ما ذاق من بلاء وتعذيب، يقول: "والجمعة والعيدان، والحج مع السلطان، وإن لم يكونوا بررة، ودفع الصدقات والخراج، والأعشار والفيء والغنائم إلى الأمراء، عدلوا فيها أم جاروا، والانقياد إلى مَن ولَّاهُ الله أمركم، لا تنزع يداً من طاعته، ولا تخرج عليه بسيفك، حتى يجعل الله لك فرجاً ومخرجاً". الله أكبر!.

وأخبر النبي صحابته بأن الولاة سيكونون ممن دونهم، وعليهم في ذلك السمع والطاعة، وأن يكفوا عن المنازعة، فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه- أنَّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "اسْمَعوا وأطِيعوا وإِن استُعمِلَ عليكم عبدٌ حَبشيٌّ، كأنَّ رأسَهُ زَبيبَةٌ، مَا أقَامَ فيكُم كِتَابَ الله".

وأخبرهم أن أمراء يأخذون حقوقهم -يا الله! يأخذون حقوق الصحابة-، ويبغون على أموالهم، فأمرهم بالصبر لا غير؛ فعن وائل بن حُجر -رضي الله عنه- قال: سَألَ سَلَمَةُ بْنُ يَزِيدٍ الجُعفيُّ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا نَبيَّ اللهِ، أرَأيتَ إنْ قَامَتْ علينا أُمرَاءُ يَسألُونَا حَقَّهم، ويَمنعونَا حَقَّنا، فما تَأْمُرنا ؟ فأعْرَضَ عنه، ثم سأله، فَأعرَضَ عَنْه، ثم سأله في الثانية -أو في الثَّالِثَةِ- فَجَذَبَهُ الأشعَثُ بنُ قَيسٍ، فقال: "اسْمعوا وأطِيعُوا، فإنَّما عليهم مَا حُمِّلُوا، وعليكم ما حُمِّلْتُم".

وأخبرهم باستئثار أقوام من بعدهم عليهم بالمال والغنيمة والحكم، فأمرهم بالصبر؛ فعن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّها ستكُونُ بعدي أَثَرَةٌ، وَأُمُورٌ تُنكِرُونَها" قالوا: يا رسولَ الله، كيفَ تَأْمُرُ مَنْ أَدْرَكَ ذلك مِنّا؟ قال: "تُؤدُّونَ الحَقَّ الذي عليكم، وتَسألُونَ اللهَ الذي لكم". أخرجه البخاري ومسلم.

وأخبرهم بولاةٍ من بعدهم يُبغضونهم ويلعنونهم، وما أمرهم إلا بالصبر والطاعة، فعن عوف بن مالك - رضي الله عنه -: قال: سمعتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "خِيَارُ أَئِمَّتِكُمْ الذين تُحبُّونَهُمْ ويُحبونَكُمْ، وَتُصَلُّونَ عليهم، ويُصَلُّونَ عليكم؛ وَشِرارُ أَئِمَّتِكُمُ الَّذِينَ تُبْغِضُونَهُمْ، وَيُبْغِضُونَكمْ، وتَلْعَنُونَهُم، وَيلْعَنُونَكم" قال: قُلنا: يا رسول الله، أفَلا نُنابِذُهم (عند ذلك؟)، قال: "لا، ما أقاموا فيكم الصلاةَ. لا، ما أقاموا فيكم الصلاةَ. ألا مَنْ وَلِيَ عليهِ وَالٍ، فرآهُ يَأْتي شَيئا مِنْ مَعصيةِ اللهِ، فليكره ما يأتي من معصية الله، ولا يَنْزِعَنَّ يَدا من طَاعَةٍ". أخرجه مسلم.

وعن أم سلمة - رضي الله عنها - أنَّ رَسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّهُ يُسْتَعْمَلُ عليكُمْ أُمَرَاءُ، فَتعرِفُونَ وَتُنْكِرُونَ، فَمَنْ كَرِهَ فَقد بَرِئ، وَمَن أَنْكَرَ فقد سَلِمَ؛ ولكن مَنْ رَضي وتَابَعَ"، قالوا: أفَلا نُقَاتِلُهمْ؟ قال: "لا، مَا صَلُّوا" أي: مَنْ كَرِهَ بِقَلْبه، وأنكر بقلبه.

وفي حديثٍ جامعٍ عن عبد الله بن عباس - رضي الله عنهما- أنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ كَرِهَ مِنْ أمِيرِهِ شَيْئا فَلْيَصبِرْ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِن السُّلطانِ شِبرا مَاتَ مِيتَة جَاهِليَّة".

وهذه المظاهرات، أليست تجعل أمر المسلمين عائما بلا والٍ ولا راعٍ ولا بيعةٍ؟! فماذا يصنعون؟! وهذه المظاهرات قائمة على مطالبة بحقوق دنيوية فإن أعطوها رضوا واستقاموا، وإلا خرجوا وتظاهروا، وهذا ما حذر منه النبي -صلى الله عليه وسلم- وتوعد صاحبه بوعيد شديد، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثَةٌ لا يُكلِّمُهُمُ اللَّهُ يومَ القِيَامَةِ، ولا يُزَكِّيهم، ولهم عَذَابٌ أليم: رجلٌ بايعَ إمَاما، فَإِن أعطَاهُ وَفَى لَهُ، وإن لم يُعْطِهِ، لم يَفِ لَهُ".

بل أخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- بأن هؤلاء الولاة ليس فقط يأكلون الحقوق، بل سيؤخرون الصلاة عن وقتها، والصلاة عمود الدين، فهل أمر أصحابه بالخروج عليهم مع أنهم يؤخرون الصلاة عن وقتها؟ كلا. روى أبو ذر الغفاري -رضي الله عنه- قال: قال لي رسولُ الله: "كيف أنتَ إذا كانت عليك أمراءُ يميتُون الصلاةَ؟" أو قال: "يؤخِّرُونَ الصلاةَ عن وقتها؟" قلت: ما تأمرني؟ قال: "صلِّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَها معهم فصلِّ، فإنها لك نافلة، ولا تقل: إني قد صلَّيتُ فلا أُصلِّي".

وعن أبي العالية قال: أخَّر زياد الصلاةَ، فأتاني عبد الله بنُ الصامت، فألقيتُ له كرسيا فجلس عليه، فذكرتُ له صُنْعَ زياد فعضَّ على شَفَتيهِ، وضرب على فخذي، وقال: إني سألتُ أبا ذر كما سألتني؟ فضربَ فخذي كما ضربتُ فخذكَ، وقال: إني سألتُ رسولَ الله -صلى الله عليه وسلم- كما سألتني؟ فضرب فخذي كما ضربتُ فخذك فقال -صلى الله عليه وسلم-: "صلَّ الصلاةَ لوقتها، فإن أدركتَ معهم فصلِّ،، ولا تقُلْ: إني قد صلَّيتُ، فلا أُصلِّي". هل رأيتم كيف دل النبي – صلى الله عليه وسلم- صحابته على التعامل مع اختلاف الولاة؟!.

أيها المسلمون: إنَّ أول مظاهرة خرجت في تاريخ الإسلام تطالب بعزل الولاة وتصحيح الأحوال كانت على عثمان -رضي الله عنه- الخليفة الراشدي الثالث، وكانت تلك المظاهرة أول مسمار دُقَّ في نعش الخلافة الراشدة حتى آلت إلى ملك عضوض، وقتل فيها عثمان -رضي الله عنه-، وماجت الأمة بعده حتى اقتتل الصحابة بينهم، وقتل فيها علي -رضي الله عنه-، وكثر السفك في الدماء، وظهرت فرق الشيعة والخوارج، كل ذلك بسبب هذه المظاهرة من الموتورين الحاقدين الذين يزعمون أنهم يطالبون بحقوقهم.

وقد استمرت هذه الفتنة من سنة ثلاثين إلى سنة واحد وأربعين من الهجرة، يا الله! أحد عشر عاما والأمة في قتال بينها، وكلما خمدت فتنة جاءت أخرى، وكل ذلك بسبب مظاهرة!.

ولم يكد يمر على الأمة في القرون المفضلة أشد ظلما وطغيانا من الحجاج، فلذا خرج عليه جماعة، وكان الحسن معتزلا نهيا لهم عن الخروج، قال حميد خادم الحسن: كنت عند الحسن يوماً فجاءه رجل وخلا وشاوره في الخروج من ابن الأشعث على الحجاج فقال: اتق الله يا ابن أخي ولا تفعل، فإن ذلك محرم عليك وغير جائز لك. فقلت:أصلحك الله! لقد كنت أعرفك سيئ القول في الحجاج، غير راضٍ عن سيرته، فقال لي: يا أبا الحسن! وايم الله إني اليوم لأسوأ فيه رأياً، وأكثر عليه عتباً، وأشد ذماً، ولكن لتعلم -عافاك الله- أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تُتَّقَى وتُسْتَدْفَعُ بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب، إنَّ نِقَم الله متى لُقيت بالسيوف كانت هي أقطع. ولقد حدثني مالك بن دينار أن الحجاج كان يقول: اعلموا أنكم كلما أحدثتم ذنباً أحدث الله في سلطانكم عقوبة.

ويقول ابن القيم -رحمه الله تعالى-: تأمل حكمته تعالى في أن جعل ملوك العباد وأمراءهم وولاتهم من جنس أعمالهم، بل كأن أعمالهم ظهرت في صور ولاتهم وملوكهم، فإن استقاموا استقامت ملوكهم، وإن عدلوا عدلت عليهم، وإن جاروا جارت ملوكهم وولاتهم، وإن ظهر فيهم المكر والخديعة فولاتهم كذلك، وإن منعوا حقوق الله لديهم وبخلوا بها منعت ملوكهم وولاتهم ما لهم عندهم من الحق وبخلوا بها عليهم، وإن اخذوا ممن يستضعفونه مالا يستحقونه في معاملتهم أخذت منهم الملوك مالا يستحقونه وضربت عليهم المكوس والوظائف، وكلما يستخرجونه من الضعيف يستخرجه الملوك منهم بالقوة، فعمالهم ظهرت في صور أعمالهم، وليس في الحكمة الإلهية أن يولى على الأشرار الفجار إلا من يكون من جنسهم، ولما كان الصدر الأول خيار القرون وابرها كانت ولاتهم كذلك، فلما شابوا شابت لهم الولاة؛ فحكمه الله تأبى أن يولي علينا في مثل هذه الأزمان مثل معاوية وعمر بن عبد العزيز، فضلا عن مثل أبي بكر وعمر، بل ولاتنا على قدرنا، وولاة من قبلنا على قدرهم، وكل من الأمرين موجب الحكمة ومقتضاها.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

إن هذه المظاهرات لا ينتهي شأنها حتى يقع علينا بسببها قول ربنا: (أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ) [الأنعام:65]، فنهايتها قتال بين أبناء الوطن الواحد، والأمة الواحدة.

أيها المسلمون: إنَّ الله تعالى قد علمنا في كتابه رَدَّ الأمر إلى أهله مهما كان شأنه، وذلك أسلم لنا، وأتم في أمننا، وأكمل في حياتنا، فقال تعالى: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا) [النساء:83]، فما بالُ أقوام منا اليوم يأبون إلا متابعة قنوات غير تقية ولا راشدة؟ وتقليد مَن لا دين له؟ ويعرضون عن قبول قول أهل العلم، ورد الأمر إليهم؟.

وهذه المظاهرات التي يراد لها أن تقع في بلادنا ليس من بعدها سوى زعزعة الأمن، وانتشار الفوضى، وتقويض الوحدة العظيمة التي مَنَّ الله تعالى بها علينا، وتعطيل مصالح الأمة الدينية والتعليمية والاقتصادية والاجتماعية، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) [آل عمران:103].

واعلموا -عباد الله- أن بنا متربصين حاقدين يبغون بهذا البلد الدوائر، ويريدون به المعاثر، ويتقصدونه بالمكايد والمدابر، ووالله! لا يكفهم إلا الله تعالى! (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) [المائدة:11]؛ فعليكم -عباد الله- بسؤال الله تعالى، والتضرع إليه أن يكف عنا البأس، ويدفع عنا البلاء والفتن.

ويقول الإمام الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ: "ولم يدر هؤلاء المفتونون أن أكثر ولاة أهل الإسلام من عهد يزيد بن معاوية -حاشا عمر بن عبد العزيز ومن شاء الله من بني أمية- قد وقع منهم من الجراءة، والحوادث العظام، والخروج والفساد في ولاية أهل الإسلام؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة الأعلام، والسادة العظام معهم معروفة مشهورة، لا ينزعون يداً من طاعة فيما أمر الله به رسوله من شرائع الإسلام، وواجبات الدين.

وأضرب لك مثلاً بالحجاج بن يوسف الثقفي، وقد اشتهر أمره في الأمة بالظلم والغشم، والإسراف في سفك الدماء، وانتهاك حرمات الله، وقتْل مَن قَتَل من سادات الأمة، كسعيد بن جبير؛ وحاصَر ابنَ الزبير وقد عاذ بالحرم الشريف، واستباح الحرمة، وقتل ابن الزبير، مع أن ابن الزبير قد أعطاه الطاعة، وبايعه عامة أهل مكة والمدينة واليمن، وأكثر سواد العراق؛ والحجاج نائب عن مروان، ثم عن ولده عبد الملك، ولم يعهد أحد من الخلفاء إلي مروان، ولم يبايعه أهل الحل والعقد، ومع ذلك لما توقف أحد من أهل العلم في طاعته والانقياد له فيما تسوغ طاعته فيه من أركان الإسلام وواجباته، وكان بن عمر ومَن أدرك الحجاج من أصحاب رسول الله لا ينازعونه، ولا يمتنعون من طاعته فيما يقوم به الإسلام، ويكمل به الإيمان.

وكذلك مَن في زمنه من التابعين، كابن المسيب، والحسن البصري، وابن سيرين، وإبراهيم التيمي، وأشباههم ونظرائهم من سادات الأمة.

واستمر العمل على هذا بين علماء الأمة من ساداتها وأئمتها، يأمرون بطاعة الله ورسوله والجهاد في سبيله، مع كل إمام بر أو فاجر، كما هو معروف في كتب أصور الدين والعقائد.

وكذلك بنو العباس استولوا على بلاد المسلمين قهراً بالسيف، لم يساعدهم أحد من أهل العلم والدين، وقتلوا خلقاً كثيراً وجمعاً غفيراً من بني أمية وأمرائهم ونوابهم، وقتلوا ابن هبيرة أمير العراق، وقتلوا الخليفة مروان، حتى نُقل أن السفاح قتل في يوم واحد نحو الثمانين من بني أمية، ووضع الفرش على جثثهم وجلس عليها، ودعا بالمطاعم والمشارب؛ ومع ذلك فسيرة الأئمة كالأوزاعي، ومالك، والزهري، والليث بن سعد، وعطاء بن أبي رباح، مع هؤلاء الملوك لا تخفي على من لهم مشاركة في العلم والاطلاع.

والطبقة الثانية من أهل العلم، كأحمد بن حنبل، ومحمد بن إسماعيل، وحمد بن إدريس، واحمد بن نوح، واسحق بن راهويه، وإخوانهم، وقع في عصرهم من الملوك ما وقع من البدع العظام، وإنكار الصفات، ودُعوا إلي ذلك، وامتُحِنوا فيه، وقُتل مَن قتل، كأحمد بن نصر، ومع ذلك، فلا يعلم أن أحداً منهم نزع يداً من طاعة، ولا رأي الخروج عليهم". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات