المسلمون على أبواب روما

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-12 - 1444/03/16

اقتباس

كانت روما أو رومية كما تذكرها المراجع العربية قد تعرضت عبر تاريخها الطويل للعديد من محاولات الغزو، فقد غزاها القوط والوندال واللومبارد، ومع ذلك ظلت روما محتفظة بهيبتها ومكانتها الروحية عند الأوروبيين النصارى منهم والوثنيين، حتى كانت سنة 231هـ عندما انطلقت حملة كبيرة من صقلية نحو الشمال بحذاء الشاطئ الإيطالي، ورست عند مصب نهر تكيري الذي يقع على ضفافه ثغر أوستيا وهو مفتاح روما وعلى طريقه تقع كنائس روما الشهيرة ومعابدها وهياكلها وقبورها.

 

 

 

 

 

 لمدينة روما عاصمة الكاثوليكية القديمة مكانة خاصة في العقلية والطموحات الإسلامية ذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بشر بفتح أكبر وأهم مدينتين في التاريخ القديم – القسطنطينية ورومية – الأول عاصمة الدولة البيزنطية، والثانية عاصمة أوروبا الغربية والكاثوليكية العالمية، وقد بشرنا رسول الله r بفتح المدينتين، وأن تكون القسطنطينية أولى المدينتين فتحًا، وهو ما تم بالفعل على يد العثمانيين أيام السلطان محمد الثاني الملقب بالفاتح سنة 857هـ، وما لم يعلمه غالبية الناس حتى المؤرخين منهم أن المسلمين قد حاولوا فتح روما عدة مرات، في مغامرات أسطورية غيرت من شكل روما القديمة وجغرافيتها.  

 

كان القرن الثالث الهجري الموافق للتاسع الميلادي هو عصر السيادة البحرية الإسلامية حيث كانت الأساطيل الإسلامية تمخر عباب البحر المتوسط من أقصاه إلى أقصاه وتسيطر على مضايقه وخلجانه وموانيه وثغوره وشواطئه، ولم تستطع أساطيل الدولة البيزنطية أن تجاري البحرية الإسلامية النظامية منها وغير النظامية، وفتح المسلمون معظم جزائر البحر الكبيرة مثل كريت وقبرص وصقلية ومالطة ورودس وجزر البليار الثلاثة وسردانية، وقامت على أرض تلك الجزر ممالك إسلامية قوية وحضارة مزدهرة.

 

تلك السيادة البحرية الإسلامية كان لغزاة البحر المتطوعين الفضل الأول فيها بعد إذن الله عز وجل، فالحكومات الإسلامية وأساطيلها النظامية كانت تقتصر في غالب الأحوال على حماية ثغور الدولة الإسلامية والدفاع عن شواطئها ضد الاعتداءات الخارجية وعادة ما تكون، في حين أن المتطوعين كانوا يعملون في حرية تامة لا تقيدهم حكومات ولا تحدهم اتفاقيات أو معاهدات، كما أن أغلبهم كانوا من الشباب الجريء الذي قضى معظم حياته على ظهر السفن، وكانت جزر البحر الكثيرة مثل صقلية وقبرص وكريت وسردانية وغيرها ملاذًا للعديد من عصابات المجاهدين الأبطال، ولكن لا ينفي ذلك وجود تنسيق بين حكومات الدول والممالك الإسلامية وهؤلاء المتطوعين من غزاة البحر، فلقد كانت تتمتع تلك الأساطيل المتطوعة بدعم معنوي ومادي من الحكومات الإسلامية، كما أن حكومات الدول الإسلامية كانت تفتح ثغورها وموانيها لتلك الأساطيل للتزود والاحتماء وقت اللزوم، كما إن تلك الأساطيل المتطوعة كانت تقوم بأدوار رائعة ومهمة للدول والممالك الإسلامية، حيث كانت تنهك بغاراتها الجريئة الدول المعادية خاصة الدولة البيزنطية، كما أنها كانت تأسر أعدادًا كبيرة من النصارى تستخدمهم الدولة الإسلامية في فداء أسرى المسلمين لدى البيزنطيين بطريق المبادلة المتعارف عليه في تلك الفترة.  

 

وكان لفتح جزيرة صقلية القريبة من السواحل الإيطالية سنة 213هـ أثر كبير في تطوير الغزو البحري الإسلامي لجنوب أوروبا وبحر الأرخبيل، حيث نشأت على سواحل صقلية الطويلة والمتعرجة الكثير من عصابات المجاهدين المتطوعين من أمهر وأقدر غزاة البحر المسلمين، هؤلاء المجاهدون سيقومون بواحدة من أروع وأجرأ الغزوات البحرية، وهي غزوة روما الأولى والثانية.

 

  أبطال الإسلام في جنوب فرنسا:

 

من مظاهر سيادة المسلمين في الحوض للبحر المتوسط خلال القرن الثالث الهجري قيام جماعة من غزاة البحر المسلمين بالنزول في دلتا نهر الرون المعروفة باسم (كمارج) وإنشاؤهم قاعدة عسكرية وقيامهم بشن الغارات منها في فرنسا وشمال إيطاليا وسويسرا، وقد بلغ النشاط البحري لغزاة البحر المتطوعين أوجه في منتصف القرن الثالث الهجري حيث استطاع الغزاة الأندلسيون الذين فتحوا كريت واشتركوا في فتح صقلية، أن يتوغلوا في خليج سان تروبيز على شاطئ بروفانس في جنوبي فرنسا، ويتحصنوا في جبل فراكسنيتوم المطل على الخليج، وهذا هو الموضع المعروف اليوم باسم جارد فرنييه.

 

توافد غزاة البحر المسلمون على تلك القاعدة الحصينة وجعلوها نقطة انطلاق للإغارة على مقاطعتي فالنتان وقيين ووصلوا إلى سفوح جبال الألب، وسيطروا على العديد من ممرات الجبال المؤدية إلى روما، وكانت تلك السيطرة الميدانية دافعًا لهؤلاء الأبطال الشجعان لئن يفكروا ويخططوا لغزو روما عاصمة العالم القديمة وقصر الكاثوليكية العالمية.

 

كانت روما أو رومية كما تذكرها المراجع العربية قد تعرضت عبر تاريخها الطويل للعديد من محاولات الغزو، فقد غزاها القوط والوندال واللومبارد، ومع ذلك ظلت روما محتفظة بهيبتها ومكانتها الروحية عند الأوروبيين النصارى منهم والوثنيين، حتى كانت سنة 231هـ عندما انطلقت حملة كبيرة من صقلية نحو الشمال بحذاء الشاطئ الإيطالي، ورست عند مصب نهر تكيري الذي يقع على ضفافه ثغر أوستيا وهو مفتاح روما وعلى طريقه تقع كنائس روما الشهيرة ومعابدها وهياكلها وقبورها.

 

كانت أسوار روما لا تشمل كل روما القديمة، بل إن الأماكن المقدسة عندهم كانت خارج الأسوار، وكان كل من غزا روما من قبل يتحاشى الاقتراب من تلك الأماكن خوفًا من اللعنات والعذاب على حد زعمهم، ولأن المسلمين أهل الدين الصحيح والعقيدة السليمة، فلا يهابون من تلك الأساطير شيئًا، فعندما انطلق المجاهدون عبر مياه نهر تفيري، وصلوا إلى تلك الأماكن، وانقضوا عليها بكل شجاعة وجردوا الهياكل والأصنام التي تعبد من دون الله من الحلى النفيسة والأموال الطائلة التي كانت تنذر لهم من دون الله، ثم ضربوا الحصار على مدنية القياصرة وكادوا أن يفتحوها، فاهتزت أوروبا بأسرها، وبادر الإمبراطور لويس الثاني ملك الفرنجة [فرنسا الآن] بإرسال حملة كبيرة لإنقاذ روما، اشتركت فيها قوات برية وأخرى بحرية، غير الذي أنقذ روما من السقوط بيد المسلمين هو خلاف الزعماء المسلمين فيما بينهم، فقد رأى فريق مواصلة الحصار حتى فتح المدينة وتحقيق موعود رسول الله r ونيل هذا الشرف الذي لا يعدله شرف، في حين رأى فريق آخر وكانوا الأغلبية ضرورة الانسحاب وإعادة الكرة مرة أخرى لضخامة قوات النجدة الأوروبية، وهو الأمر الذي استقر عليه المسلمون في النهاية.

 

ما إن رفع المسلمون حصارهم عن المدينة الشهيرة حتى تنبه كرسي البابوية بخطورة بقاء البقاع والكنائس المعظمة عندهم خارج أسوار المدينة ، في ظل ضعف دفاعات المدينة، فنشط الباب ليون الرابع في حملة لجمع الأموال اللازمة لبناء أسوار عالية حول الحي المقدس وكنيستي بطرس وبولس، ودعّم هذا الحي بتحصينات قوية وقد أطلق عليها من يومها حتى وقتنا الحالي اسم (المدينة الليونية) تخليدًا لاسمه وشكرًا لصنيعه، وقد أغلق ليون الرابع مصب نهر تغيري المؤدي لروما بسلسلة ضخمة من الحديد لمنع البحارة المسلمين من التوغل فيه.

 

كل هذه التدابير الدفاعية لم تكن لتمنع المسلمين من معاودة الكرة والتحضير لهجوم كبير على روما بغية فتحها نهائيًا، ففي سنة 256هـ نشط أمراء البحر المسلمون في ثغور تونس والأندلس من أجل تجهيز حملة كبيرة، وكان زعيم الأغالبة في ذلك الوقت محمد بن أحمد بن الأغلب [250هـ - 261هـ] قد نجح سنة 255هـ في فتح جزيرة مالطة، وكان أمير صقلية محمد بن خفاجة مشهورًا بغزواته البحرية الجريئة في المياه الإيطالية، فاجتمعت فرق المتطوعين في بعض ثغور جزيرة سودانية، ثم اتجهت نحو الشواطئ الإيطالية واجتاحت كل صور المقاومة حتى وصلت إلى مصب نهر تغيري على بعد 16 ميلاً من روما.

 

استنجد البابا يوحنا الثامن بالجمهوريات الإيطالية التجارية [نابولي – أمالفي – جايتا] ولم تكن إيطاليا قد توحدت في تلك الفترة، فأرسلت أسطولاً قويًا لنجدة روما وصد المسلمين، ونشبت معركة بحرية كبرى في مياه أوستيا على مشارف روما، وهبت عاصفة عاتية أطاحت بكلا الأسطولين، ومع ذلك واصل المسلمون حصارهم للمدينة وقد عزموا على فتحها، وفي النهاية اضطر البابا يوحنا الثامن الذي خلف ليون الرابع أن يفاوض المسلمين على الجلاء نظير دفع الجزية لهم، وقد تم الاتفاق على دفعها سنويًا بما يعادل خمسة وعشرين ألف مثقالا من الفضة بعد تقدير عدد سكان المدينة بالتقريب. وسُجل في التاريخ قيام بابا روما بدفع الجزية للمسلمين لأول مرة ، في واحدة من أمتع وأغرب مشاهد الجهاد البحري في تاريخ الأمة الإسلامية.

 

العجيب أن كل هذه الأحداث الضخمة والغزوات الرائعة كانت بسواعد المتطوعين من غزاة البحر المسلمين، وفكرة فتح روما كانت فكرتهم وحدهم، في حين كانت الدول والممالك الإسلامية النظامية تعاني من مشاكل داخلية كثيرة جعلتها تنصرف نحو حلها، تاركة شئون الغزو والجهاد في سبيل الله ونشر الدعوة الإسلامية لأبطال البحر المتطوعين يبنوا وحدهم قواعد المجد الإسلامي عبر القارات والبحار.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات