المسجد الأقصى في عقيدة المسلمين

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2023-11-20 - 1445/05/06
التصنيفات:

الشيخ محمد صفوت نور الدين

 

هذه فقرات من أقوال أهل السنة في المسجد الأقصى غالبها من أقوال شيخ الإسلام ابن تيمية، نسوقها بيانًا لما ينبغي أن يعتقده المسلم في شأن المسجد الأقصى.

 

والمسجد الأقصى اسم لجميع المسجد الذي بناه سليمان - صلى الله عليه وسلم -، وقد صار بعض الناس يسمي الأقصى المصلى الذي بناه عمر بن الخطاب رضي الله عنه في مقدمه، والصلاة في المصلى الذي بناه عمر للمسلمين أفضل من الصلاة في سائر المسجد، فإن عمر بن الخطاب لما فتح بيت المقدس، وكان على الصخرة زبالة عظيمة؛ لأن النصارى كانوا يقصدون إهانتها مقابلة لليهود الذين يصلون إليها، فأمر عمر رضي الله عنه بإزالة النجاسة عنها، وقال لكعب الأحبار: أين ترى أن نبني مصلى المسلمين، فقال: خلف الصخرة، فقال: يا ابن اليهودية خالطتك يهودية، بل أبنيه أمامها، فإن لنا صدور المجالس، ولهذا كان أئمة الأمة إذا دخلوا المسجد أدوا الصلاة في المصلى الذي بناه عمر.

 

اتفق علماء المسلمين على استحباب السفر إلى بيت المقدس للعبادة المشروعة فيه، كالصلاة والدعاء والذكر وقراءة القرآن، والاعتكاف؛ لحديث الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا».

 

وقد روى الحاكم في صحيحه أن سليمان - صلى الله عليه وسلم - سأل ربه ثلاثة: «ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده، وسأله حكمًا يوافق حكمه، وسأله أن لا يؤم أحد هذا البيت لا يريد إلا الصلاة فيه إلا غفر له» ولهذا كان ابن عمر رضي الله عنه يأتي إليه فيصلي فيه ولا يشرب فيه ماء، لتصيبه دعوة سليمان، لقوله: «لا يريد إلا الصلاة فيه». فإن هذا يقتضي إخلاص النية في السفر إليه ولا يأتيه لغرض دنيوي ولا بدعة.

 

والمسجد الحرام أفضل المساجد، ويليه مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم -، ويليه المسجد الأقصى، وقد ثبت في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلا المسجد الحرام»، ولهذا لا يجوز تغير واحد من هذه المساجد الثلاثة من موضعه، وأما سائر المساجد ففضيلتها من أنها مسجد لله، وبيت يصلى فيه، وهذا قدر مشترك بين المساجد.

 

و العبادات المشروعة في المسجد الأقصى هي من جنس العبادات المشروعة في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - وغيره من سائر المساجد إلا المسجد الحرام، فإنه يشرع فيه زيادة على سائر المساجد الطواف بالكعبة، واستلام الركنين اليمانيين، وتقبيل الحجر الأسود، وأما مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسجد الأقصى، وسائر المساجد فليس فيها ما يطاف به، ولا فيها ما يتمسح به، ولا ما يقبل، فلا يجوز لأحد أن يطوف بحجرة النبي - صلى الله عليه وسلم -، ولا بغير ذلك من مقابر الأنبياء والصالحين، ولا بصخرة بيت المقدس، ولا بغير هؤلاء كالقبة التي فوق جبل عرفات وأمثالها، بل ليس في الأرض مكان يطاف به كما يطاف بالكعبة.

 

ومن اعتقد أن الطواف بغيرها مشروع فهو شر ممن يعتقد جواز الصلاة إلى غير الكعبة، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما هاجر من مكة إلى المدينة صلى بالمسلمين ثمانية عشر شهرًا إلى بيت المقدس، فكانت قبلة المسلمين هذه المدة، ثم إن الله حوَّل القبلة إلى الكعبة، وأنـزل الله في ذلك القرآن، كما ذكر في سورة البقرة، وصلى النبي - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون إلى الكعبة، وصارت هي القبلة، وهي قبلة إبراهيم وغيره من الأنبياء.

 

فمن اتخذ الصخرة اليوم قبلة يصلي إليها فهو كافر مرتد يستتاب فإن تاب وإلا قتل، مع أنها كانت قبلة ولكن الله نسخ ذلك، فكيف بمن يتخذها مكانًا يطاف به كما يطاف بالكعبة، والطواف بغير الكعبة لم يشرع بحال، وكذلك من قصد أن يسوق إليها غنمًا أو بقرًا ليذبحها هناك، ويعتقد أن الأضحية فيها أفضل، وأن يحلق فيها شعره في العيد أو أن يسافر إليها يوم عرفة، فهذه الأمور التي يشبه بها بيت المقدس بالبيت الحرام بمكة في الوقوف، والطواف، والذبح، والحلق من البدع والضلالات، ومن فعل شيئًا من ذلك معتقدًا أن هذا قربة إلى الله فإنه يستتاب فإن تاب وإلا قتل كما لو صليت إلى الصخرة معتقدًا أن استقبالها في الصلاة قربة كاستقبال الكعبة، ولهذا بنى عمر بن الخطاب مصلى المسلمين في مقدم المسجد الأقصى.

 

و أما الصخرة فلم يصل عندها عمر رضي الله عنه، ولا الصحابة، ولا كان على عهد الخلفاء الراشدين عليها قبة، بل كانت مكشوفة في خلافة عمر وعثمان وعلي ومعاوية ويزيد ومروان، وأما أهل العلم من الصحابة والتابعين لهم بإحسان فلم يكونوا يعظمون الصخرة، فإنها قبلة منسوخة كما أن يوم السبت كان عيدًا في شريعة موسى - صلى الله عليه وسلم - ثم نسخ في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - بيوم الجمعة، فليس للمسلمين أن يخصوا يوم السبت ويوم الأحد بعبادة كما تفعل اليهود والنصارى، وكذلك الصخرة إنما يعظمها اليهود، وبعض النصارى.

 

وما ذكره بعض الجهال من أن هناك أثر قدم النبي - صلى الله عليه وسلم - وأثر عمامته وغير ذلك فكله كذب، وأكذب منه من يظن أنه موضع قدم الرب تعالى الله عما يقول الظالمون علوًا كبيرًا، وكذلك المكان الذي يذكر أنه مهد عيسى - صلى الله عليه وسلم - كذب، وإنما كان معمودية للنصارى، وكذلك من زعم أن هناك الصراط والميزان، أو أن السور الذي يضرب به بين الجنة والنار هو ذلك الحائط المبني شرقي المسجد.

 

وليس في بيت المقدس مكان يقصد للعبادة سوى المسجد الأقصى، فمن زار قبور الموتى، وسلم عليهم، وترحم عليهم كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يعلِّم أصحابه فحسن، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان يعلم أصحابه إذا زاروا القبور أن يقول أحدهم: (السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمؤمنات، وإنا شاء الله بكم لاحقون، ويرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم لا تحرمنا أجرهم، ولا تفتنا بعدهم، واغفر لنا ولهم).

 

و ليس ببيت المقدس مكان سمى حرمًا ولا بتربة الخليل. ولا بغير ذلك من البقاع إلا ثلاثة أماكن أحدها هو حرم باتفاق المسلمين، وهو حرم مكة شرفها الله تعالى، والثاني حرم عند جمهور العلماء، وهو حرم النبي - صلى الله عليه وسلم - من عير إلى ثور، بريد في بريد، فإن هذا فيه أحاديث صحيحة مستفيضة عن النبي - صلى الله عليه وسلم -، والثالث (وج) وهو وادي بالطائف لما روى فيه حديث عند أحمد في المسند وليس في الصحاح وهذا حرم عند الشافعي لاعتقاده صحة الحديث وليس حرمًا عند أكثر العلماء وأحمد ضعف الحديث المروي فيه فلم يأخذ به، وأما ما سوى هذه الأماكن الثلاثة فليس حرمًا عند أحد من علماء المسلمين فإن الحرم ما حرم الله صيده ونباته ولم يحرم الله صيد مكان ونباته خارجًا عن هذه الأماكن الثلاثة.

 

وزيارة بيت المقدس مشروعة في جميع الأوقات، ولكن لا ينبغي أن يؤتى في الأوقات التي يتعمدها أهل الضلال، مثل وقت عيد النحر، فإن كثيرًا من الضلال يسافرون إليه ليقفوا هناك والسفر إليه لأجل التعرف به، معتقدًا[1] أن هذا قربة، بل هو محرم بلا ريب وينبغي ألا يتشبه بهم ولا يكثر سوادهم.

 

و ليس السفر إليه مع الحج قربة، وقول القائل: قدس الله حجتك، قول باطل لا أصل له كما يروي: من زارني وأبي في عام واحد ضمنت له الجنة، فإن هذا كذب باتفاق أهل المعرفة بالحديث.

 

و المرابطة بالثغور أفضل من المجاورة في المساجد الثلاثة كما نص على ذلك أئمة الإسلام عامة، وقد قال تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * الَّذِينَ آَمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ * يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ * خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ﴾ [التوبة: 19 - 22].

 

و السفر إلى البقاع المعظمة هو من جنس الحج، ولكل أمة حج، فالمشركون من العرب كانوا يحجون إلى اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى وغير ذلك من الأوثان.

 

و المشركون في هذه الأزمان من الهند وغيرهم يحجون إلى آلهتهم، وكذلك النصارى يحجون إلى(القمامة) كنيسة القيامة حاليًا وبيت لحم وغير ذلك من كنائسهم التي بها الصور التي يعظمونها ويدعونها ويستشفعون بها.

 

وكان أبرهة قد بنى كنيسة بأرض اليمن وأراد أن يصرف حج العرب إليها فدخل رجل من العرب فأحدث في الكنيسة فغضب لذلك أبرهة وسافر إلى الكعبة ليهدمها حتى جرى ما جرى. قال تعالى: ﴿ أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ ﴾ [الفيل: 1- 5].

 

ومعلوم أنه إنما يفعل فيها ما يفعل في كنائس النصارى فدل على أن السفر إلى الكنائس عندهم هو من جنس الحج عند المسلمين، وأنه يسمى حجًا ويضاهي به البيت الحرام، وإن من قصد أن يجعل بقعة للعبادة فيها كما يسافر إلى المسجد الحرام فإنه قصد ما هو عبادة من جنس الحج، والنبي - صلى الله عليه وسلم - نهى أن يحج أحد أو يسافر إلى غير المساجد الثلاثة.

 

و الصحابة كابن عمر وأبي سعيد وأبي بصرة وغيرهم فهموا من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: «لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد» أن الطور الذي كلم الله عليه موسى، وسماه الوادي المقدس، والبقعة المباركة داخل في النهي، وقد نهوا الناس عن السفر إليه، ولم يخصوا النهي بالمساجد.

 

وقد صح عن سعيد بن المسيب أنه قال: من نذر أن يعتكف في مسجد إلياء[2] فاعتكف في مسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - بالمدينة أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف في مسجد المدينة فاعتكف في المسجد الحرام أجزأ عنه، ومن نذر أن يعتكف على رؤوس الجبال فإنه لا ينبغي له ذلك وليعتكف في مسجد جماعة، وهذا الذي نهى عنه سعيد بن المسيب متفق عليه عند عامة العلماء، وإن قدر أن الرجل لا يسمى ذلك اعتكافًا فمن فعل ما يفعل المعتكف في المسجد فهو معتكف في غير المسجد وذلك منهي عنه بالاتفاق.

 

والمقصود هنا أن السفر إلى غير المساجد الثلاثة من قبر وأثر نبي ومسجد وغير ذلك ليس بواجب ولا مستحب بالنص والإجماع.

 

والمسجد الأقصى أفضل المساجد بعد المسجد النبوي، وببيت المقدس من قبور الأنبياء مالا يحصيه إلا الله فهل يقول عاقل أن فضيلته لأجل القبور.

 

والمسجد الأقصى صلت فيه الأنبياء من عهد الخليل، وصلى فيه من أولياء الله ما لا يحصيه إلا الله، وسليمان بنى هذا البناء وسأل ربه ثلاثًا كما سبق.

 

ولهذا كان ابن عمر يأتي من الحجاز فيدخل فيصلي فيه. ثم يخرج ولا يشرب فيه ماء لتصيبه دعوة سليمان، وكان الصحابة ثم التابعون يأتون ولا يقصدون شيئًا مما حوله من البقاع، ولا يسافرون إلى قرية الخليل ولا غيرها.

 

[1] أي الوقوف به يوم عرفة.

[2] هو مسجد الأقصى.

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات