المسؤولية (2)

عبد العزيز بن عبد الله السويدان

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ أهمية المسؤولية 2/ المسؤولية درجات وأنواع 3/ أركان المسؤولية 4/ نماذج من أحوال السلف تبين صدق تحملهم المسؤولية 5/ المسؤولية تكليف لا تشريف 6/ المسؤولية حسرة يوم القيامة لمن لا يحسن تحملها

اقتباس

فالمسؤولية شرف واللامسؤولية نقص، ولذلك كلما كانت مسؤوليات الإنسان أوسع وأكبر كلما ارتفعت مكانته وقيمته في عرف المجتمع؛ فالمسؤولية تتزايد وتتسع بحسب مركز كل إنسان ومستواه العلمي والاجتماعي والسياسي، حتى نصل إلى رأس الهرم في الدولة، ولي الأمر، فنجده هو صاحب أكبر مسؤولية فيها؛ لأن مصير المجتمع كله معلق في رقبته، وبالتالي فإن مسؤوليته ثقيلة جدا، ومساءلته يوم القيامة عسيرة وطويلة ..

 

 

 

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلَّى الله عليه وعلى آله وسلم.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء:1].

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الأحزاب:70].

أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد -صلى الله عليه وسلم-، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

تقدم الحديث عن الركن الأول من أركان المسؤولية، وهو السائل، ونستعرض الآن الركن الثاني، وهو المسؤولية ذاتها.

معاشر الأخوة: إن مما يحدد قيمة أهمية المسؤولية مدى صلتها بالله -تعالى- بشكل مباشر، أي بنص واضح، ومن ذلك العبادات، ويأتي على رأسها الصلاة، ثاني أركان الإسلام التي يستهين بها الكثيرون؛ أليست على رأس قائمة ما سيُسأل عنه كل مسلم؟ ونتذكر قوله -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه أنس: "أول ما يحاسب به العبد يوم القيامة الصلاة، فإن صلحت صلح له سائر عمله، وإن فسدت فسد سائر عمله".

ولذلك جاء في صحيح الجامع بإسناد حسن من حديث عبادة بن الصامت قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أحسن الرجل الصلاة فأتمَّ ركوعها وسجودها قالت الصلاةُ: حفِظَك الله كما حفظتني! فتُرفع، وإذا أساء الصلاة فإن لم يتم ركوعها وسجودها قالت الصلاة: ضيَّعك الله كما ضيعتني! فتُلَفّ كما يلف الثوب الخلق فيضرب بها وجهه" أسأل الله العافية.

فالصلاة أمانة، وسيسأل عنها كل مسلم، وإذا ضيعها صاحبها دعَت عليه بالضياع، فينبغي أن يُنظر إلى العبادات من حيث كونُها مسؤولية يسأل عنها كل واحد منها، وليس في الصلاة فقط، بل الزكاة والصيام... وهكذا.

وأما الواجبات الأخرى كالوفاء بالعهد، أو أداء الأمانة، أو مسؤولية الحكم، أو مسؤولية رعاية البيت والزوج والأولاد، فمن أعظم وآخر المسؤوليات، لأنه كلما كانت المسؤولية صلتها بالله مباشرة منصوص عليها في الكتاب أو السنة وكانت واجبة، كانت أهم وأكبر قيمة؛ ولقد قال تعالى في الحديث القدسي الصحيح: "وما تقرب إليَّ عَبْدِي بشيءٍ أحبّ إليَّ مما افترضتُ عليه".

والمسؤولية على درجات، فما يتعلق منها بحقوق الناس أهم بذات نفسه، وما يتعلق بها بالدين أهم بما يتعلق بما دونه، فلْينظر كل منا في حياته، ولْيُرتِّبْ عنايته بمسؤولياته على هذا الأساس، يقدم من المسؤوليات ما هو متعلق بالله تعالى قبل غيره.

عباد الله: حرص الإسلام على حفظ المال والعناية به، المال مسؤولية كبيرة، والقائم على المال العام مبتلى، وهو مسؤول عن الحفاظ عليه من النهب والسرقة، ففتنة الأمة -أمة محمد- المال، كما أخبر -صلى الله عليه وسلم-.

ونحن نرى الفضائح المالية التي كشفت في الدنيا قبل الآخرة للأكابر وأصحاب السلطة والأعوان في بلاد حولنا، وهذا يدل بشكل صارخ أن المسلمين فيما يتعلق بضوابط حفظ المال العام من الأيدي الناهبة بعيدون عن الإسلام -للأسف!-، ربما ليسو بعدين نظريا، ولكن حتما بعيدون بشكل عملي، والدليل ما ترى لا ما تسمع.

إن مبدأ إفصاح المسؤول عن ثروته قبل توليه منصبه الكبير فيما يسمى بإعلان الذمة المالية هو مبدأ مبكر في تاريخ الإسلام منذ اتساع رقعة البلاد وتنصيب الولاة، فها هو عمر الفاروق يقول لاثنين كبار مسؤولين: "اكتبا لي كل مال لكما".

نعم، جاء في كتاب فضائل الصحابة للإمام أحمد عن نافع قال: كتب عمر إلى خالد بن الوليد أمير أمراء الشام، ومعاوية بن أبي سفيان واليه على دمشق، وعمرو بن العاص واليه على فلسطين، إن رضيتم بالرزق الأول، وإلا فاعتزلوا عملنا؛ فأما معاوية وعمرو فرضيا، وأما خالد فاعتزل، فكتب إليهما عمر أن اكتبا لي كل مال هو لكما، ففعلا؛ فجعل لا يقدر لهما بعد على مال -أي على مال يزيد عما أعلن عنه مما يملكانه- إلا أخذه فجعله في بيت المال.

هذه مطالبة صريحة للإفصاح عن الوضع المالي للمسؤول، بل إن عمر كان يأخذ ما زاد في ثروة المسؤول ويرسله للمال العام.

بل حتى قبل ذلك كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يسأل ويسائل ولاته وعماله، ففي صحيح البخاري عن أبي حمُيد الساعدي قال: "استعمل رسول الله ‏-صلى الله عليه وسلم- ‏رجلا من ‏ ‏الأزد ‏ ‏على صدقات ‏بني سليم ‏‏يدعى ‏‏ابن الأتبية‏ ‏فلما جاء حاسبه (محاسبة: ماذا قبضتَ؟ ماذا صرفت؟) قال: هذا مالُكُم، وهذا هديَّة. فقال رسول الله ‏-صلى الله عليه وسلم-: "‏‏فهلا جلستَ في بيت أبيك وأمك حتى تأتيك هديتك إن كنت صادقا؟".

ثم خطبنا (إعلان للناس) فحمِد اللهَ وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد، فإني أستعمل الرجل منكم على العمل مما ولاني الله فيأتي فيقول هذا مالكم وهذه هدية أُهدِيَتْ لي؛ أفلا جلس في بيت أبيه وأمه حتى تأتيه هديته إن كان صادقا؟ والله! -يقول عليه الصلاة والسلام- لا يأخذ أحد منكم منها شيئا بغير حقه إلا لقي الله تعالى يحمله يوم القيامة، فلَأعْرِفَنَّ أحداً منكم لقي اللهَ يحملُ بعيرا له ‏ ‏رغاء، ‏أو بقرة لها ‏ ‏خوار، ‏ ‏أو شاة ‏ ‏تيعر"،‏ ‏ثم رفع يديه حتى رئي بياض إبطيه، ثم قال: "اللهم هل بلغت؟!".

ألا يخاف المسؤولون المستغِلون لنفوذهم وصلاحياتهم في أكل المال الحرام، ألا يخافون من يوم يُقال لهم فيه: من أين لك هذا؟ بلى والله! سيأتي ذلك اليوم، إن لم يكن في الدنيا فقطعا ويقينا في الآخرة.

وقد صح في السنن من حديث بن مسعود أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "لا تزول قدم ابن ادم يوم القيامة من عند ربه حتى يسأل عن خمس..." ومنها: "عن ماله، من أين اكتسبه؟ وفيم أنفقه؟".

يقول أبو سعيد فيما صح في السنن: صلَّى بنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صلاة العصر بنهاره، ثم قام خطيباً، فلم يدع شيئا يكون إلى يوم القيامة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه.

وكان فيما قال: "إن الدنيا حلوة خضرة، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون، فاتقوا الدنيا، واتقوا النساء". وكان فيما قال: "ألا لا يمنعن رجلا هيبةُ الناس أن يقول بِحَقٍّ إذا علِم". قال: فبكى أبو سعيد. فقال: قد والله رأينا أشياء فهِبْنا! فكان فيما قال: " ألا إنه يُنصَب لكل غادر ‏ ‏لواء ‏ ‏يوم القيامة بقدر غدرته (بقدر خيانته) ولا غدرة أعظم من غدرة إمام عامة يركز ‏ ‏لواؤه ‏ ‏عند ‏‏استه". أسأل الله السلامة. فالمسؤولية ركن كبير يجب معرفة حجمها وأهميتها من خلال قواعد الدين.

الركن الثاني مما يحدد قيمة وأهمية المسؤولية: المسؤول. والمسؤول لفظ يوحي بالأهمية، فعندما يُقال هذا إنسان مسؤول فإنه تعبير يُشْعِرُ بالأهمية والقيمة الذاتية، وفي المقابل يُقال هذا إنسان غير مسؤول، أي لا مُبالٍ، مستهتر، سفيه، قليل القيمة، لا مسؤول.

فالمسؤولية شرف واللامسؤولية نقص، ولذلك كلما كانت مسؤوليات الإنسان أوسع وأكبر كلما ارتفعت مكانته وقيمته في عرف المجتمع؛ فالمسؤولية تتزايد وتتسع بحسب مركز كل إنسان ومستواه العلمي والاجتماعي والسياسي، حتى نصل إلى رأس الهرم في الدولة، ولي الأمر، فنجده هو صاحب أكبر مسؤولية فيها؛ لأن مصير المجتمع كله معلق في رقبته، وبالتالي فإن مسؤوليته ثقيلة جدا، ومساءلته يوم القيامة عسيرة وطويلة، وحتى لو لم يجرؤ على مساءلته أحد في الدنيا فسوف يحاسبه الله تعالى يوم القيامة، وقد تقدم قوله -صلى الله عليه وسلم-: "ما من والٍ يلي رعية من المسلمين فيموت وهو غاشٌّ لهم إلا حرم الله عليه الجنة".

وصح في السنن من حديث أبي مريم: "مَن وَلَّاهُ اللهُ -عز وجل- شيئا من أمر المسلمين فاحتجب دون حاجتهم وخُلَّتِهم وفقرهم احتجب الله عنه دون حاجته وخلته وفقره".

فالمسؤول يختلف بحسب ما يتحمله من مسؤوليات، والحاصل أن المسؤولية ترفع قيمة الإنسان الاجتماعية، بل إن المسؤولية من علامات تكريم الإنسان، كما تقدم في عرض الأمانة: (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ...) [الأحزاب:72]. فالسموات والأرض والجبال أبين أن يتحملن مسؤولية الأمانة فكُرِّم الإنسان بإعطائه حرية الاختيار.

هذه هي أركان المسؤولية: السائل، والمسؤولية، والمسؤول.

معاشر الأخوة: الأصل في المسؤولية أنها ثقيلة على النفس، لكن هل يتخلف هذا الأصل فتصبح المسؤولية مرغوبة ومحبوبة ومتطلع إليها؟.

أسأل الله لنا ولكم الهداية والرشد، وأستغفر الله فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

 

 

 

الخطبة الثانية:

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد:

فالمسؤوليات أنواع: منها ما ينتفع منه المسؤول شديداً، تجد المسؤولية تمنحه من المصالح الدنيوية والهيئات والوجاهه الشيء الكثير، ولذلك تجده يستميت لعدم فقدانها والتمسك بها، كمسؤولية الولايات والمناصب الكبيرة.

والصالحون عندما يقبلون بمثل هذه المسؤوليات يُبتلون في صدق نيتهم، والثبات على الدين ومبادئه، فليس أشد خطراً على دين المرء من حرصه على المال والجاه الاثنين؛ والمال والجاه يفسدان دين المرء كإفساد ذئبين جائعين لغنم مأسورة في زريبة لا قدرة لها على الهروب، فكيف يفعلان؟.

هذا ما وصفه -صلى الله عليه وسلم- عندما قال فيما يرويه الذهبي في صحيح الترغيب والترهيب من حديث أبي هريرة: "ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان، بأسرعَ فيها فساداً من حُبِّ المال والشرف في دين المسلم".

إذاً فحب المال والشرف أو الجاه يفسدان الدين أسرع مما يفسد ذلك الذئبان الجائعان الغنم، وبالتالي فإن إعلان السرور والابتهاج بالجاه والمنصب الكبير إذا تقلده المسلم بإظهار الفرح الكبير، واستقبال التهاني، وإقامة الولائم والمآدب والحفلات، وصرْف المنتفعين المبالغ الطائلة لإعلانات التهنئة بذلك المنصب الكبير في الجرائد والصحف، هذا ليس عملا سديداً.

فالموضوع هنا ابتلاء، الموضوع ليس مجرد جاه ومسؤوليات وصلاحيات وامتيازات؛ بل هو موضوع نية خالصة، وقلب صادق، يحذر ويخاف من الانزلاق في متاهة الدنيا، وما تجرُّه إليها من شهواتها من تنازلات دينية وأخلاقية، وبيع للدين بلعاعة من الدنيا.

هذا من جانب، والجانب الآخَر ما تبعث في نفسه من فوقية على الناس وعُلُوٍّ وكِبْر، والجانب الأخيرُ حُسْنُ القِيامِ بالمسؤولية، أداءً لتلك الأمانة؛ ولذلك لما ولي عمر بن عبد العزيز دخلت عليه زوجته فإذا هو في مُصَلَّاه ويده على خده، سائلة دموعه، فقالت: يا أمير المؤمنين! ألِشيءٍ حدَث؟ فقال: يا فاطمة، إني تقلدتُ أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فتفكرت في الفقير الجائع، والمريض الضائع، والعاري المجهود، والمظلوم المقهور، والغريب المأسور، وذي العيال في أقطار الأرض، فعلمت أن ربي سيسألني عنهم؛ فبكى -رحمه الله-.

هذا هو هَمُّ المؤْمِن، ليس الفرح والنشر في الجرائد والمجَلَّات، ولذلك جاءت الأحاديث بالنهي عن طلب الإمارة، والنهي عن الحرص عليها والسعي ورائها؛ فقد صح في البخاري ومسلم من حديث عبد الرحمن بن سمرة أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "يا عبد الرحمن، ‏لا تَسْأل الإمارة؛ فإنك إن أتتك عن مسألة وُكلت إليها، وإن أتتك عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها".

وصح عنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "إنكم ستحرصون على الإمارة، وستكون ندامة يوم القيامة، فنعم المرضعة (أي الدنيا)، وبئست الفاطمة (أي الآخرة)".

وفي صحيح البخاري عن أبي موسى -رضي الله عنه- قال دخلت على النبي -صلى الله عليه وسلم- أنا ورجلان من قومي، فقال أحد الرجلين: أَمِّرْنا يا رسولَ الله. وقال الآخَر مثله، فقال: "إنا لا نولى هذا من سأله، ولا من حرص عليه".

ولذلك قال النووي في الإمارة "إن في الدخول فيها خطر عظيم؛ ولذلك امتنع الأكابر منها"، ويحضرنا في هذا مشاعر عتبة بن غزوان -رضي الله عنه- عندما عيَّنه أمير المؤمنين عمر واليا على البصرة، وكان في نفسه خائفا وجِلاً من ذلك المنصب على نفسه، وطلب من عمر أن يعفيه، فأبى عمر، فصعد ذات جمعة على المنبر في البصرة ليبوح على الناس ما يختلج في صدره من ثقل المسؤولية التي يقتضيها منصبه الرفيع.

ففي صحيح مسلم عن خالد بن عمير العدوي يقول: خطبنا عتبة بن غزوان، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: "أما بعد: فإن الدنيا قد آذنت بصرم (أي بانقطاع) وولت حذَّاءَ (أي بسرعة) ولم يبق منها إلا صُبابة كصبابة الإناء (الصبابة الباقية في قعر الإناء) يتصابُّها صاحبها (أي هذه الدنيا أصبحت هكذا).

وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها، فانتقلوا بخير ما بحضرتكم؛ فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوى فيها سبعين عاما لا يدرك لها قعرا، ووالله! لتملأن! أفعجبتم؟ ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة، وَلَيَأْتِيَنَّ عليها يومٌ وهو كظيظ من الزحام.

ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- (وهنا الشاهد) ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقطت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك (سعد بن أبي وقاص) فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها، فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيما، وعند الله صغيرا"، مشاعر إيمانية رقيقة، تحمل معانيَ عظيمة.

إذاً، هذا النوع من المسؤوليات النفعية ينبغي التعامل معه بحذر، وإذا أتت من غير مسألة فينبغي الاستعانة بالله، وسؤاله الثبات، فإنه سيعين العبد عليها إن صدق، وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: "إنها أمانة، وإنها يوم القيامة خزي وندامة، إلا مَن أخذها بحقِّها، وأدَّى الذي عليه فيها".

ومن المسؤولية الثقيلة، لكن ليس فيها مصالح دنيوية مميزة أو كبيرة، مسؤولية الطبيب، المهندس، المعلم، فهي -وإن كانت كذلك- فإن الواجب على مَن تحمَّلَها أن يحسن القيام بها، ويحتسب ويستعد للسؤال يوم القيامة أيضا، فإن لها من الله طالبا.

ولقد جاء في عموم المساءلة قوله -صلى الله عليه وسلم- من حديث أبي برزة الأسلمي: "لا تزولُ قَدَمَا عَبْدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسألَ عنْ أربعٍ: عنْ عُمُرِهِ فيما أفناهُ، وعنْ جسدِه فيما أبْلاهُ، وعنْ مالهِ مِنْ أيْنَ أخذهُ وفيما أنْفَقَهُ، وعنْ عِلمِهِ ماذا عَمِلَ بهِ". أخرجه مسلم.

بل حتى النوايا يسأل عنها المسلم يوم القيامة، روى أبوخزيمة: يقول أبو هريرة -رضي الله عنه- حدثني رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن الله -تبارك وتعالى- إذا كان يوم القيامة ينزل بين العباد ليقضى بينهم، وكل أمة جاثية، فأول من يدعونه رجل جامع القرآن، ورجل يقاتل فى سبيل الله، ورجل كثير المال.

فيقول الله للقارئ: ألم أعلمك ما أنزلت على رسولي؟ قال: بلى يا رب! قال: فماذا عملت فيما علمت؟ قال: كنت أقوم به آناء الليل وآناء النهار. فيقول الله له: كذبت. وتقول الملائكة له كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال إن فلانا قارئ، فقد قيل ذلك.

ويؤتى بصاحب المال، فيقول له: ألم أوسِّع عليك حتى لم أدعك تحتاج إلى أحد؟ قال: بلى يا رب! قال: فما عملت فيما آتيتك؟ قال: كنت أصل الرحم، وأتصدق؛ فيقول الله له: كذبت، وتقول له الملائكة: كذبت، ويقول الله تعالى: بل أردتَّ أن يقال: فلان جواد، فقد قيل ذاك.

فيؤتى بالذي قُتل في سبيل الله، فيقول الله تعالى له: فبماذا قُتلت؟ فيقول: أمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت، فيقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جرئ، فقد قيل ذلك".

يقول أبو هريرة: ثم ضرب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على ركبيته فقال: "يا أبا هريرة، أولئك الثلاثة أول خلق الله تُسعَّر بهم النار يوم القيامة".

أحد رواة الحديث، واسمه شوفي الأصلي، دخل على معاوية في خلافته، وأخبره بالحديث، فلما انتهى قال معاوية: قد فُعل بهؤلاء هذا، فكيف بمن بقي من الناس؟ ثم بكي معاوية بكاءً شديدا حتى ظننا أنه هالِك، وقلنا: قد جاءنا هذا الرجل بشَرٍّ، ثم أفاق معاوية ومسح عن وجهه وقال: صدق الله ورسوله، ثم تلا قوله تعالى (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ * أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [هود:15-16]. فالنوايا مرصودة، ولها مقام عظيم يوم الحساب.

أخيراً، أسأل الله تعالى أن يعيننا وإياكم على جميع ما حملنا من مسؤوليات، وأن نلقى الله تعالى وهو علينا راض. اللهم أَعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين.

 

 

 

 

 

المرفقات

(2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات