عناصر الخطبة
1/ الحل الأمثل لكلل النفوس ومللها 2/ منهج الإسلام في المزاح 3/ ضوابط المزاح وآدابه 4/ أهم ضوابط المزاح المحمود والمذموم 5/ عواقب المزاح المذموم 6/ بعض صور المزاح المذموم شرعًا 7/ أخطاء الناس في المزاحاقتباس
شريعة الإسلام ومنهجيته لم تترك أمر المزاح والترويح سدًى يسير فيه الناس على غير هدى، كلا بل سنَّت ضوابط وآداب تكفينا شرور المزاح وآفاته. ولجهل الناس وبعدهم عن تعاليم الدين وضعف الإيمان والتهاون في مثل هذه الأمور أصبح الرائي يرى خللاً في مفهوم المزاح وكيفيته، مما يجعل الحديث ملحّاً والكلام مهماً عن منهج الإسلام في المزاح، وكيف كان -صلى الله عليه وسلم- يمزح وكذا أصحابه؟ وآداب المزاح، وأخطاء الناس فيه، لاسيما في هذا الزمان التي أصبحت فيه بعض الطرف تشرى وتباع، وتقام لها مجالس وبرامج والله المستعان.
الخطبة الأولى:
الحمد لله شرع فيسّر، وحكم فقدّر، وملك فدبّر، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له أبان الحق وأظهر، وأشهد أن محمداً عبدُه ورسوله خير البشر، والشافع المشفّع في المحشر، بلّغ وذكّر، وحذّر وأنذر، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وأصحابه الميامين الغرر، ومن تبعهم بإحسان وحسن اقتفاء إلى يوم المآب والمستقر.
أما بعد: فمصباح الظلام، ودليل الأنام، وطريق الجنة دار السلام هي والذي نفسي بيده، في القرب من العظيم وتقواه، وحسن عبادته واتباع كتابه وسنة نبيه والاهتداء بهداه، فالزموها، وامتثلوها، رزقنا الله وإياكم إياها.
عباد الله: النفوس تمل، والقلوب تكل، ما بين ضجيج الحياة وأعبائها، ومنغصات الدنيا وأدوائها، لذا تجد الناس من بين هذه وهذه يبحثون عن ما يروِّح النفوس ويسعدها، ويشرح القلوب ويفرحها، يبحثون عن ذلك في البسمة، والدعابة، والطرفة، والنكتة، والملحة، بها يملحون مجالسهم، وبحديثها يؤانسون بعضهم، ويخففون همومهم وغمومهم.
ومن عظم هذا الدين وروعته، وكمال منّته، وجزيل نعمته، أنه لم يهمل هذا الجانب، ألا وهو جانب الترويح عن النفس، فكان -صلى الله عليه وسلم- يمازح أهله وأصحابه مزاحاً طيباً.
أثبتته كتب السنة، وحفلت به دواوين الحديث، في دعابة خفيفة، وطرفة لطيفة، مع ما كانت حياته -صلى الله عليه وسلم- مليئة بالأعمال العظام، والمهام الجسام.
وشريعة الإسلام ومنهجيته، لم تترك أمر المزاح والترويح سدًى يسير فيه الناس على غير هدى، كلا بل سنَّت ضوابط وآداب تكفينا شرور المزاح وآفاته.
ولجهل الناس وبعدهم عن تعاليم الدين وضعف الإيمان والتهاون في مثل هذه الأمور أصبح الرائي يرى خللاً في مفهوم المزاح وكيفيته، مما يجعل الحديث ملحّاً والكلام مهماً عن منهج الإسلام في المزاح، وكيف كان -صلى الله عليه وسلم- يمزح وكذا أصحابه؟ وآداب المزاح، وأخطاء الناس فيه، لاسيما في هذا الزمان التي أصبحت فيه بعض الطرف تشرى وتباع، وتقام لها مجالس وبرامج والله المستعان.
ولننظر يا رعاكم الله إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- وأصحابه كيف كانوا يمزحون؟
فعن أنس -رضي الله عنه- أن رجلاً من أهل البادية كان اسمه زاهراً، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يحبه وكان ذميماً فأتاه النبي -صلى الله عليه وسلم- يوماً وهو يبيع متاعه فاحتضنه من خلفه، وهو لا يبصره فقال زاهر: أرسلني! من هذا؟ فالتفت فعرف النبي -صلى الله عليه وسلم- فجعل لا يألوا ما ألصق ظهره بصدر النبي -صلى الله عليه وسلم- حين عرفه، وجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من يشتري العبد؟" قال: يا رسول الله، إذاً تجدني كاسداً، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لكن عند الله لست بكاسد"، وقال: "لكن أنت عند الله غالٍ" (رواه أحمد).
وأخرج الترمذي وأبو داود عن أنس أن رجلاً أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله احملني، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "إنا حاملوك على ولد الناقة"، قال: وما أصنع بولد الناقة، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وهل تلد الإبل إلا النوق".
وذات يوم ركب الحسن والحسين على ظهره وهو يصلي، فأطال الصلاة وهو إمام، ثم اعتذر للصاحبة عن الإطالة.
وكان يخرج لسانه للحسن بن علي فيرى حمرة لسانه.
ويقول محمود بن الربيع: "عقلت من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- مجِّةً مجَّها في وجهي من دلو من بئر كانت في دارنا وأنا ابن خمس سنين".
وسابق عائشة فسبقها مرة وسبقته مرة.
وروى الحاكم من حديث عمرة قالت: سألت عائشة -رضي الله عنها- كيف كان رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إذا خلا مع نسائه، قالت: "كان أكرم الناس وألين الناس، ضحّاكاً بسّاماً".
وهكذا الصحابة -رضوان الله عليهم- والسلف الصالح، يقول أبو الدرداء: "إني لأستجمَّ قلبي بشيء من اللهو ليكون أقوى لي على الحق".
وروى البخاري في الأدب المفرد: "كان أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- يتبادحون بالبطيخ فإذا كانت الحقائق كانوا هم الرجال".
والمعنى أنهم كانوا يتحاذفون بقشر البطيخ الأصفر اللين الذي لا يؤذي كما قال ذلك بعض أهل العلم.
وهذا عبدالله بن عمر يمازح مولاة له فيقول: "خلقني خالق الكرام، وخلقك خالق اللئام"، فتغضب وتصيح وتبكي ويضحك عبدالله بن عمر.
وجاء رجل إلى أحد السلف الفقهاء وقال: "إني تزوجت امرأة ووجدتها عرجاء فهل لي أن أردها إلى أهلها؟ فقال له: إن كنت تريد أن تسابق بها فردها".
وهكذا كان مزاحهم ومداعبتهم.
ومما مضى نستنبط ضوابط المزاح وآدابه ومنها:
1) الصدق: فلا بأس بالمزاح إذا كان صدقاً خالياً من الكذب، وهذا أبو هريرة قال: يا رسول الله إنك تداعبنا، قال-رضي الله عنه-: "إني لا أقول إلا حقاً أو صدقاً".
والصدق من أعظم الأخلاق.
2) عدم الأذية: فلا بأس بالمزاح إذا لم يكن فيه أذى للناس أو تجريح لمشاعرهم، لأن الأذية محرمة بأي الأشكال كانت، والله يقول: (وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً) [الأحزاب: 58].
3) عدم الإفراط فيه والمداومة عليه؛ لأن ذلك يؤدي إلى كثرة الضحك التي تميت القلب وتقسيه، وكثير من الناس مع الأسف يستغرقون الساعات الطوال في المزاح وهذا من الخطأ، أفلا علموا أن العبد مسئول عن عمره فيما أفناه.
وما كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يمزح عامة وقته، ولكن كالملح في الطعام.
4) أن يكون المزاح في وقته: فهناك أوقات لا بأس بالمزاح فيها لقطع السأم وإبعاد الملل والترويح عن النفس بعد العناء، ولكن بعض الناس يمزحون في أوقات الجد، فلا يهمهم شرف الزمان فيغرقون في المزاح حتى في أوقات العبادات كالحج وغيره.
5) ألا يكون المزاح مع كل أحد من الناس، فالأحمق مثلاً ينبغي أن يتجنب المزاح معه لئلاً يؤدي إلى شيء غير مرضي، وكذلك السفيه، ولذا قال الحكماء: لا تمازح الأحمق فيتجرأ عليك وتفقد هيبتك.
إخوة الإسلام: تكاد تكون هذه أهم ضوابط المزاح المحمود، أما المزاح المذموم فهو الذي لم ينضبط بالضوابط السابقة، ولا شك أن عواقب المزاح المذموم ليست حميدة شرعاً ولا عرفاً بين الناس، فما أحرانا أن نعود إلى شرع الله، ونعرض أفعالنا وأعمالنا على ميزان الشرع، فالشرع حكيم والشارع عليم، وما ترك الدين خيراً إلا دلنا عليه، وما ترك شراً إلا حذرنا منه، (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا) [الحشر: 7].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم...
الخطبة الثانية:
الحمد لله أحصى كل شيء عددًا، وأحاط بكل شيء علماً، ووسع خلقه رحمة وحلماً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الهدى، ونبي التقى، صلى الله عيه وعلى أصحابه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:
بعد هذا التأصيل الشرعي الذي تبين لنا فيه شيئاً من وقائع مزاحه -صلى الله عليه وسلم- وآثار السلف في ذلك، والضوابط والآداب الشرعية للمزاح، نعرض واقعنا، وما فيه من الخلل، لنأخذ بالأيدي لتلامس مواقع الزلل، فتحذر وتجانب الخطأ والخطل، فمن صور المزاح المذموم شرعاً:
1) الكذب: ولاشك في حرمته سواء كان الإنسان فيه جاداً أو مازحاً، وبعض الناس يرون أن الكذب إذا كان مزاحاً يسمى كذباً أبيض، وهذا خطأ فالكذب هو الكذب والشريعة لم تقسم إلى أبيض وأسود، ومن الكذب ما يتداوله الناس ويتسلون به من الطرائف المكذوبة والنكت المصطنعة والمواقف الخيالية فهي محرمة في شريعتنا، قال-صلى الله عليه وسلم- : "ويل لمن كذب الكذبة ليضحك بها القوم، ويل له، ويل له".
وللأسف أن هذه الأكاذيب هي ديدن كثير من مجالسنا اليوم واجتماعاتنا ومنتدياتنا وبيوتنا.
ومن الكذب في المزاح ما يفعله بعض الناس حيث ينادي الطفل الصغير ويقول له: تعال أعطيك ما في يدي، فيفرح الصغير ويأتي إليه ولا يجد شيئاً، وقد نص -صلى الله عليه وسلم- في موقف كهذا أن هذه تكتب كذبة، كما أنه درس عملي في الكذب يتربى عليه الطفل.
ومن صور الكذب في المزاح أيضاً: ما يفعله الكبار مع بعضهم فيتكلمون بكلام كذب بغير الإثارة من المستمع وإعجابه، ثم بعد هذا يقول له: لا ليس بصحيح كنت أمزح عليك.
ألا فلنتق الله ولا يغرنا كثرة الهالكين وقلة السالكين.
ومن صور المزاح المذموم:
2) الترويع والتخويف، وهذا مما نهى عنه الشرع وحذّر منه، وكم سمعنا من القصص التي اختل فيها عقل أناس، بل وماتوا بسببها، والسبب هو المزاح الذي ليس في محله.
ومن ذلك إشارة المسلم على أخيه بالسلاح، قال عليه الصلاة والسلام: "لا يشير أحدكم إلى أخيه بالسلاح، فإنه لا يدري لعل الشيطان ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار".
ومثله الترويع بالسكين والعصا والحديدة وغيرها.
ومن ذلك أن يعمد بعض الناس على سبيل المزاح إلى أخذ متاع أحد أصحابه كنعال أو مفاتيح أو غيرها فيخفيها عنه قال -صلى الله عليه وسلم-: "لا يأخذنّ أحدكم متاع أخيه لا عباً ولا جاداً، ومن أخذ عصا أخيه فليردها".
ومن ذلك الاختفاء في بعض زوايا البيت، وتخويف أهله لبعضهم بعضاً، وكذا إذا نام بعضهم في رحلة مثلاً ونحوها، كل هذا من الترويع المحرم الذي لا يجوز.
ومن صور المزاح المذموم:
3) الكلمات والحركات السيئة، فبعض الناس لسانه بذيء، وفيه وقاحة، فيصرّح بما يستحي منه العقلاء، وتجد كلامه دائماً في مجالات تدور حول الفروج والشهوات، هي همه وغايته، ويتفوه بأقذع العبارات وأوسخ الكلمات، أفلا عفّ لسانه وعرف أن اللسان هو عنوان الإنسان. ويتجاوز فحش وقبح بعضهم إلى الحركات الخبيثة من غمز باليد ونحوها في مواضع لا تحل ولا تجوز.
4) الاستهزاء أو السخرية: وما أكثر هذا في الناس مع أنهم يسمعون قول الله تعالى: (لَا يَسْخَرْ قَومٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْراً مِّنْهُمْ) [الحجرات: 12]، تجد بعضهم قد يسخر بأهل الدين والصلاح، والعلماء والمصلحين، وهذا والله خطر عظيم، وبعضهم يستهزئ في مزاحه ونكته وطرائفه ببعض الجنسيات أو البلدان ونحوها مما يأخذ وزره من جهة أنه سخرية واستهزاء، ومن جهة أنه غيبة، حتى وإن لم يخص أحداً بعينه فهو قد اغتاب القوم كلهم، وباء بإثمهم، وأخذوا من حسناته، فليتق الله هذا الجاهل ويوزع حسناته على الناس.
ومن صور الاستهزاء: الاستهزاء بخلق الله في أشكال الناس وكلامهم ونحو ذلك.
5) السب واللعن: فبعض الناس وخاصة الشباب يسبون بعضهم بكلمات لا تليق، ويلعنون آبائهم وأمهاتهم بطريقة سيئة، ويعدون ذلك مزاحاً ويعتاده بعضهم فاللعن على لسانه، والوصف بالحيوانات ديدنهم في بعضهم، فأين هؤلاء من كلام النبي -صلى الله عليه وسلم-: "لعن المؤمن كقتله".
وبعضهم يسب الدهر والزمان فيقول مازحاً: يلعن يومك، أو الله يلعن الساعة التي رأيتك فيها. وهذا محرم.
العبث: وما أوسع بابه، وما أسوأ آثاره، ويحصل هذا غالباً عند بعض الشباب، ومن ذلك ما يفعله بعضهم من اللعب بالسيارات، فيمارسون التفحيط والسرعة، وبعضهم يتجه بسيارته نحو صاحبه ليمزح معه، ومن العبث ما يفعله حدثاء السن من الكتابة على الجدران من العبارات الساقطة، وبعضهم يعبثون بالنار، ويؤذون الآخرين، ويسدون الطرق ويتعرضون للعمال ونحوهم مما يسوء ويحزن.
وكل هذا وذاك ناتج من سوء التربية، وغياب الرقيب من الآباء والأولياء، ومن العبث هذه النكت التي يغلب عليها السخف ويتبادلها الناس عبر رسائل الجوال، إسراف أموال، وتفاهات عقول يترفع عنها العقلاء، ومن العبث التلاعب بأمور النكاح والطلاق والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "ثلاث جدهنّ جد وهزلهنّ جد: النكاح والطلاق والرجعة".
وفي ختام هذه الخطبة إليك رسالتان أحسب أنهما مهمتان في هذا الباب:
الأولى: احفظ لسانك واعلم أن لسانك من أعظم أبواب الهلاك في المزاح وآفاته.
والثانية: لا تكن مكثاراً في المزاح، فإن الغفلة تدبّ في قلبك، وإن دمعة الخشية تجف من عينك.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم