المرجعية غير المعصومة (1) العقل وحدوده

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-06-30 - 1444/12/12 2023-07-30 - 1445/01/12
عناصر الخطبة
1/حدود العقل ومجالاته وضوابطه 2/مظاهر خروج العقل البشري عن حدوده وآثار ذلك.

اقتباس

وَمِنْ مَظَاهِرِ خُرُوجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ عَنْ حُدُودِهِ: تَنْزِيلُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ مَنْزِلَةَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَجَعْلُ نُصُوصِ الشَّرْعِ تَابِعَةً لَهُ، أَوْ مُعَطَّلَةً مَعَهُ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الْعَقْلَ هِبَةٌ عَظِيمَةٌ، وَنِعْمَةٌ جَسِيمَةٌ، وَمِنَّةٌ كَرِيمَةٌ، وَهَبَهَا اللهُ -تَعَالَى- لِلْإِنْسَانِ لِتَكُونَ مَنَاطًا لِتَكْلِيفِهِ بِدِينِهِ، وَنُورًا لِلْإِنْسَانِ لِمَعْرِفَةِ مَصَالِحِ دُنْيَاهُ.

 

وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى قِيمَةِ الْعَقْلِ: كَثْرَةُ ذِكْرِهِ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ بِأَلْفَاظٍ شَتَّى، وَهِيَ: الْأَلْبَابُ، وَالنُّهَى، وَالْحِجْرُ، مُبَيِّنًا بِذَلِكَ أَنَّ الَّذِينَ اسْتَعْمَلُوا عُقُولَهُمُ اسْتِعْمَالًا صَحِيحًا هُمُ الَّذِينَ اسْتَفَادُوا مِنَ الْآيَاتِ الْمَسْطُورَةِ وَالْآيَاتِ الْمَنْشُورَةِ هِدَايَةً وَعِلْمًا، قَالَ تَعَالَى: (قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ)[آل عمران:118]، وَقَالَ: (وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُوْلُوا الأَلْبَابِ)[آل عمران:7]، وقال: (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُوْلِي النُّهَى)[طه:54]، وَقَالَ: (هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ)[الفجر:5].

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ لَمَّا كَانَ بِهَذِهِ الرُّتْبَةِ فَإِنَّهُ غَدَا مَرْجِعِيَّةً لِلْإِنْسَانِ يَصِيرُ إِلَيْهِ فِي بَعْضِ الْأَشْيَاءِ؛ فَالْعَقْلُ يَتَدَبَّرُ وَيَتَأَمَّلُ فِي نُصُوصِ الْوَحْيِ، وَفِي مَخْلُوقَاتِ اللهِ –تَعَالَى-؛ لِيَكُونَ ذَلِكَ طَرِيقًا إِلَى اعْتِبَارِ الْإِنْسَانِ وَاتِّعَاظِهِ، وَإِقْبَالِهِ عَلَى طَاعَةِ اللهِ، وَانْكِفَافِهِ عَنْ مَعَاصِيهِ.

 

وَالْعَقْلُ يَنْظُرُ فِي هَذَا الْعَالَمِ الْمَحْسُوسِ "فَيَسْتَخْرِجُ مَكْنُونَاتِه، وَيَرْبِطُ بَيْنَ أَسْبَابِهِ وَعِلَلِهِ، وَمُقَدِّمَاتِهِ وَنَتَائِجِهِ، فَيَكْشِفُ وَيَخْتَرِعُ، وَيَتَبَحَّرُ فِي الْعُلُومِ النَّافِعَةِ فِي مُخْتَلَفِ مَيَادِينِ الْحَيَاةِ، وَتَسْيِيرِ عَجَلَةِ التَّقَدُّمِ الْبَشَرِيِّ إِلَى الْأَمَامِ"[الرسل والرسالات].

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُ: إِنَّ "الْعَقْلَ نُورٌ جَعَلَهُ اللهُ فِي قَلْبِكَ لِيَكْشِفَ لَكَ عَنِ الْأَشْيَاءِ الْمَوْجُودَةِ وَالْحَقَائِقِ الْوَاقِعَةِ؛ وَلِتَفْهَمَ بِهِ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ، هَذِهِ وَظِيفَةُ الْعَقْلِ؛ فَلَوْ أَرَدْتَ مِنْهُ أَنْ يُرِيَكَ كُلَّ مَا تُحِبُّهُ وَتَتَخَيَّلُهُ مِنَ الْمَعْدُومَاتِ فَلَا يَجِدُ إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا، اللَّهُمَّ إِلَّا إِذَا كَانَ عَلَى سَبِيلِ الْوَهْمِ وَالْخَيَالِ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: وَإِذَا كَانَ الْعَقْلُ مَرْجِعِيَّةً لِلْإِنْسَانِ، لَكِنَّهُ لَيْسَ مَرْجِعِيَّةً فِي كُلِّ شَيْءً، بَلْ هُنَاكَ حُدُودٌ يَقِفُ عِنْدَهَا، وَضَوَابِطُ مُحَدَّدَةٌ يَنْضَبِطُ بِهَا فِي مَجَالَاتِهِ الصَّحِيحَةِ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

أَلَّا يَقِفَ فِي مَوْقِفِ الْمُعَارِضِ لِلنُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ رَادًّا لَهَا، وَكَارِهًا إِيَّاهَا، أَوْ سَاخِرًا مِنْهَا، بِحُجَّةِ أَنَّهَا تُخَالِفُ الْعَقْلَ؛ فَإِذَا وَصَلَ الْعَقْلُ الْبَشَرِيُّ إِلَى هَذَا الْحَدِّ فَإِنَّهُ لَا يَكُونُ مَرْجِعًا، بَلِ الْمَرْجِعُ النَّصُّ الشَّرْعِيُّ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ غَيْرُ مَعْصُومٍ، وَنَصُّ الْوَحْيِ مَعْصُومٌ، وَلَنْ يَصِلَ أَحَدٌ إِلَى رَدِّ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ بِعَقْلِهِ إِلَّا لِقُصُورٍ فِي ذَلِكَ الْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجَدُ تَعَارُضٌ بَيْنَ الْعَقْلِ الصَّرِيحِ وَالنَّقْلِ الصَّحِيحِ، غَيْرَ أَنَّ هُنَاكَ قَوْمًا أَوْقَدُوا مَعْرَكَةً وَهْمِيَّةً بَيْنَ الْعَقْلِ وَالنَّقْلِ، وَالْأَصْلُ أَنَّهُ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا وَلَا تَصَادُمَ، بَلْ بَيْنَهُمَا تَكَامُلٌ وَتَوَاؤُمٌ؛ لِيُحْدِثُوا بِهَذِهِ الْمَعْرَكَةِ الْمُفْتَعَلَةِ شَرْخًا فِي الْفِكْرِ، فَانْقَسَمَ النَّاسُ بِهِ إِلَى فِرَقٍ شَتَّى لَهَا أَفْكَارُهَا وَلَهَا أَعْمَالُهَا. قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ -رَحِمَهُ اللهُ-: "وَلَكِنْ مَا عُلِمَ بِصَرِيحِ الْعَقْلِ لَا يُتَصَوَّرُ أَنْ يُعَارِضَهُ الشَّرْعُ أَلْبَتَّةَ، بَلِ الْمَنْقُولُ الصَّحِيحُ لَا يُعَارِضُهُ مَعْقُولٌ صَرِيحٌ قَطُّ.

وَقَدْ تَأَمَّلْتُ ذَلِكَ فِي عَامَّةِ مَا تَنَازَعَ النَّاسُ فِيهِ، فَوَجَدْتُ مَا خَالَفَ النُّصُوصَ الصَّحِيحَةَ الصَّرِيحَةَ شُبُهَاتٍ فَاسِدَةً يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ بُطْلَانُهَا، بَلْ يُعْلَمُ بِالْعَقْلِ ثُبُوتُ نَقِيضِهَا الْمُوَافِقِ لِلشَّرْعِ"[درء تعارض العقل والنقل].

 

إِنَّ سَلَفَنَا الصَّالِحَ -رَحِمَهُمُ اللهُ- كَانُوا يُحَذِّرُونَ تَحْذِيرًا شَدِيدًا مِنْ مُعَارَضَةِ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ بِإِمْلَاءَاتِ الْعُقُولِ وَآرَاءِ النُّفُوسِ؛ فَعَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "لَا تَمْنَعُوا النِّسَاءَ مِنَ الْخُرُوجِ إِلَى الْمَسَاجِدِ بِاللَّيْلِ"، فَقَالَ ابْنٌ لِعَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ: لَا نَدَعُهُنَّ يَخْرُجْنَ فَيَتَّخِذْنَهُ دَغَلًا. قَالَ: فَزَبَرَهُ ابْنُ عُمَرَ، وَقَالَ: أَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَتَقُولُ: لَا نَدَعُهُنَّ![رواه البخاري ومسلم وابن ماجه وغيرهم].

أَرَأَيْتُمْ كَيْفَ تَعَامَلَ ابْنُ عُمَرَ مَعَ مَنْ عَارَضَ النُّصُوصَ بِعَقْلِهِ وَرَأْيِهِ؟

 

وَمِنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَضَوَابِطِهِ: أَلَّا يُقَدَّمَ الْعَقْلُ عَلَى النَّصِّ، فَبَعْضُ النَّاسِ يَرَى قَدَاسَةَ النَّصِّ الشَّرْعِيِّ؛ فَلَا يَرُدُّهُ وَلَا يَكْرَهُهُ وَلَا يَسْتَهْزِئُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ يَرَى فِي بَعْضِ الْقَضَايَا أَنَّ الْعَقْلَ يُقَدَّمُ عَلَيْهِ فِيهَا، وَهَذَا خَطَأٌ فَادِحٌ أَيْضًا، فَمَا قَدْرُ عُقُولِنَا الْقَاصِرَةِ نَحْنُ -الْبَشَرَ- أَمَامَ نُصُوصِ الْوَحْيِ الْمَعْصُومَةِ؟! إِنَّ مَثَلَ الْوَحْيِ مَعَ الْعَقْلِ كَمَثَلِ نُورِ الشَّمْسِ مَعَ نُورِ الْعَيْنِ، وَشَتَّانَ شَتَّانَ بَيْنَ النُّورَيْنِ، فَكَيْفَ يُقَدَّمُ ضَوْءُ الْبَصَرِ عَلَى ضَوْءِ الشَّمْسِ، بَلْ كَيْفَ يُقَدَّمُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمَدْلُولِ، وَالْفَرْعُ عَلَى الْأَصْلِ؟ فَالْعَقْلُ دَلِيلٌ إِلَى فَهْمِ النُّصُوصِ الَّتِي هِيَ الْمَدْلُولُ، وَالْعَقْلُ كَذَلِكَ فَرْعٌ وَالنُّصُوصُ هِيَ الْأَصْلُ، فَإِذَا أَخَلَّ الْمُسْلِمُ بِهَذَا التَّرْتِيبِ -يَا عِبَادَ اللهِ- فَإِنَّ عَقْلَهُ سَيَتَخَبَّطُ فِي مَتَاهَاتِ الْحَيْرَةِ وَالضَّلَالِ، وَسَيَكُونُ نَصِيبَهُ الْعَجْزُ وَالْكَلَالُ.

 

وَاقْرَأُوا -رَعَاكُمُ اللهُ- عَنْ أُولَئِكَ الَّذِينَ قَدَّسُوا الْعَقْلَ زَمَنًا ثُمَّ رَزَقَهُمُ اللهُ الْهِدَايَةَ بَعْدَ الْغَوَايَةِ؛ مَاذَا قَالُوا؟ قَالَ بَعْضُهُمْ:

نِهَايَةُ إِقْدَامِ الْعُقُولِ عِقَالُ***وَغَايَةُ سَعْيِ الْعَالَمِينَ ضَلَالُ

وَأَرْوَاحُنَا فِي وَحْشَةٍ مِنْ جُسُومِنَا***وَحَاصِلُ دُنْيَانَا أَذًى وَوَبَالُ

وَلَمْ نَسْتَفِدْ مِنْ بَحْثِنَا طُولَ عُمْرِنَا***سِوَى أَنْ جَمَعْنَا فِيهِ: قِيلَ وَقَالُوا!  

 

وَمِنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَضَوَابِطِهِ: أَلَّا يَخْرُجَ عَنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ إِلَى عَالَمِ الْغَيْبِ؛ فَالْغَيْبِيَّاتُ لَيْسَتْ مِنْ مَجَالَاتِ الْعَقْلِ حَتَّى يَلِجَ فِيهَا وَيَتَحَكَّمَ عَلَيْهَا فَيُعَطِّلَهَا أَوْ يُؤَوِّلَهَا أَوْ يَزِيدَ عَلَيْهَا أَوْ يَنْقُصَ مِنْهَا، وَإِنَّمَا مَجَالُهُ عَالَمُ الْحِسِّ بِمَا تُدْرِكُهُ حَوَاسُّهُ الَّتِي وَهَبَهَا اللهُ لَهُ.

 

فَهَلْ عُقُولُنَا -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- تَسْتَطِيعُ أَنْ تُدْرِكَ حَقَائِقَ الْأُمُورِ الْغَيْبِيَّةِ أَوْ تَقِفُ عَلَى كُنْهِهَا؟!

فَعُقُولُ الْبَشَرِ جُزْءٌ مِنَ الضَّعْفِ الْعَامِّ الَّذِي خُلِقَ عَلَيْهِ الْإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: (وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا)[النساء:28].

 

وَمِنْ حُدُودِ الْعَقْلِ وَضَوَابِطِهِ: عَدَمُ وُجُودِ النَّصِّ الشَّرْعِيِّ فِي مَسْأَلَةٍ مَا؛ فَفِي هَذِهِ الْحَالِ يُعْمِلُ الْعُقَلَاءُ عُقُولَهُمْ فِي مَعْرِفَةِ الْقَضِيَّةِ، وَيَسْتَخْرِجُونَ الْحُكْمَ بِمَا لَا يُخَالِفُ الشَّرِيعَةَ، وَلَكِنَّ هَذَا الْأَمْرَ لَيْسَ لِكُلِّ أَحَدٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ لِمَنْ مَلَكَ الْأَدَوَاتِ الْكَافِيَةَ لِلْحُكْمِ مِنْ مَعْرِفَةٍ عِلْمِيَّةٍ، وَدِرَايَةٍ لُغَوِيَّةٍ، وَغَيْرِ ذَلِكَ.

وَلَيْسَ لِلْجُهَلَاءِ فِي هَذَا الْمَجَالِ نَصِيبٌ؛ لِكَوْنِهِمْ فَاقِدِينَ لِلْآلَاتِ الْمُعِينةِ عَلَى مَعْرِفَةِ الصَّوَابِ فِي الْأَمْرِ، وَهَذَا لَا شَكَّ أَنَّهُ مِنَ الْمُجَادَلَةِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، قَالَ تَعَالىَ: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْم...).

 

وَلَكُمْ أَنْ تَعْجَبُوا الْيَوْمَ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ الْكِرَامُ- مِنْ قَوْمٍ يَجْهَلُونَ عِلْمَ الدِّينِ وَعِلْمَ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، تَرَوْنَهُمْ يَجْعَلُونَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ مُجْتَهِدِينَ يُطْلِقُونَ الْأَحْكَامَ، وَيَتَكَلَّمُونَ بِاسْمِ الشَّرْعِ فِي قَضَايَا مُسْتَجَدَّةٍ لَوْ كَانَتْ فِي عَهْدِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ لَجَمَعُوا لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارَ لِمَعْرِفَةِ الْحُكْمِ فِيهَا!

 

وَيَتَصَدَّرُ بَعْضُ أُولَئِكَ الْجَهَلَةِ مِنَصَّاتِ الْبَيَانِ وَيَقُولُ: عَقْلِي يَقُولُ كَذَا، وَالْعَقْلُ يَحْكُمُ بِكَذَا!

 

لِمِثْلِ هَذَا يَذُوبُ الْقَلْبُ مِنْ كَمَدٍ***إِنْ كَانَ فِي الْقَلْبِ إِسْلَامٌ وَإِيمَانُ!

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِمَّن يَعْرِفُ حُدُودَ عَقْلِهِ، فَلَا يُضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ الْوَاحِدِ الْأَحَدِ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ مَظَاهِرُ لِخُرُوجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ عَنْ حُدُودِهِ، مِنْهَا:

رَدُّ بَعْضِ الْأَحَادِيثِ النَّبَوِيَّةِ بِدَعْوَى أَنَّ الْعَقْلَ يَأْبَاهَا، وَلَا تَتَوَافَقُ مَعَهُ، وَالْوَاقِعُ يَدْفَعُهَا، مِثْلُ حَدِيثِ: "إِذَا وَقَعَ الذُّبَابُ فِي إِنَاءِ أَحَدِكُمْ فَلْيَغْمِسْهُ؛ فَإِنَّ فِي أَحَدِ جَنَاحَيْهِ دَاءً وَفِي الْجَنَاحِ الثَّانِي الدَّوَاءَ"[رواه البخاري].

 

وَمَعَ ذَلِكَ جَاءَ الْعِلْمُ الْحَدِيثُ لِيُثْبِتَ صِحَّةَ مَا ذَكَرَهُ النَّبِيُّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَنِ الذُّبَابِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ، وَلَوْ لَمْ يَذْكُرِ الطِّبُّ الْحَدِيثُ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَى عُقُولِنَا أَنْ تَقْبَلَ مَا ذَكَرَهُ رَسُولُنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-؛ لِأَنَّهُ (لَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).

 

إِنَّ النُّفُوسَ الَّتِي تَعْرِضُ أَحَادِيثَ الصَّادِقِ الْمَصْدُوقِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى عُقُولِهَا فَمَا وَافَقَتْهَا قَبِلَتْهُ وَمَا خَالَفَتْهَا رَدَّتْهُ؛ هِيَ عُقُولٌ لَمْ تَتَرَبَّ عَلَى مَائِدَةِ الْقُرْآنِ، وَصَفَاءِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنَّمَا تَرَبَّتْ عَلَى مَوَائِدَ أُخْرَى تُنَاهِضُ دِينَنَا الْحَنِيفَ، فَاعْرِفُوهَا تَعْرِفُوا مَشَارِبَهَا الَّتِي اسْتَقَتْ مِنْهَا.

 

فَإِيَّاكَ -أَيُّهَا الْمُسْلِمُ- أَنْ تَسْمَعَ لِهَذِهِ الدَّعْوَى الْمَارِقَةِ الَّتِي تُرِيدُ أَنْ تَحُولَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وَبَيْنَ نُصُوصِ الْوَحْيَيْنِ.

 

وَمِنْ مَظَاهِرِ خُرُوجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ عَنْ حُدُودِهِ: تَنْزِيلُ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ مَنْزِلَةَ الْحَاكِمِ الْأَوَّلِ عَلَى الْأَفْعَالِ وَالْأَقْوَالِ، وَجَعْلُ نُصُوصِ الشَّرْعِ تَابِعَةً لَهُ أَوْ مُعَطِّلَةً.

 

وَتَبْرُزُ خُطُورَةُ هَذَا الْمَظْهَرِ بِاعْتِقَادِ قَدَاسَةِ الْعَقْلِ، أَوْ سُلْطَانِ الْعِلْمِ، وَهِيَ دَعْوَى تَبَنَّتْهَا الْعَقْلِيَّةُ الْفَلْسَفِيَّةُ قَدِيمًا وَالْعَقْلِيَّةُ الْغَرْبِيَّةُ حَدِيثًا، وَحَمَلَهَا مَنْ تَأَثَّرَ بِهِمَا أَوْ أَحَدِهِمَا. وَيُرِيدُ أَهْلُهَا بِهَا التَّجَرُّدَ عَنْ مَفَاتِيحِ الْمَعْرِفَةِ الْأَصِيلَةِ الَّتِي هِيَ الْكُتُبُ الْمُنَزَّلَةُ مِنَ السَّمَاءِ، وَأَقْوَالُ الْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ- فِي الْأَرْضِ، وَلَكِنْ (يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[التوبة:32].

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الَّذِينَ حَكَّمُوا عُقُولَهُمْ وَخَرَجُوا بِهَا عَنْ حُدُودِهَا قَدْ نَتَجَ عَنْ فِعْلِهِمْ ذَلِكَ آثَارٌ سَيِّئَةٌ، مِنْهَا:

امْتِهَانُ نُصُوصِ الشَّرِيعَةِ الْمَعْصُومَةِ الَّتِي جَاءَتْ عَنِ اللهِ وَرَسُولِهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ قَالَ تَعَالَى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ...).

 

وَمِنْهَا: حُصُولُ الْحَيْرَةِ وَالشَّكِّ فِي دِينِ اللهِ، مِنْ قِبَلِ أُولَئِكَ الشَّاطِّينَ بِعُقُولِهِمْ، أَوْ مِنْ قِبَلِ الْمُتَأَثِّرِينَ بِهِمُ الْقَارِئِينَ لِغُثَائِهِمْ؛ فَحُرِمُوا بِهَذَا الشَّطَطِ بَرْدَ الْيَقِينِ، وَالِاطْمِئْنَانَ بِهَذَا الدِّينِ؛ (وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ)[آل عمران:117].

 

وَصَارَتِ الْحَالُ كَمَا قَالَ أَحَدُهُمْ:

لَقَدْ طُفْتُ فِي تِلْكَ الْمَعَاهَدِ كُلِّهَا***وَسَيَّرْتُ طَرْفِي بَيْنَ تِلْكَ الْمَعَالِمِ

فَلَمْ أَرَ إِلَّا وَاضِعًا كَفَّ حَائِرٍ***عَلَى ذَقَنٍ أَوْ قَارِعًا سِنَّ نَادِمِ

 

وَمِنْ آثَارِ خُرُوجِ الْعَقْلِ الْبَشَرِيِّ عَنْ حُدُودِهِ: حُصُولُ الضَّلَالِ وَالْفَسَادِ، فَلَمْ تَرَوْا-أَيُّهَا الْفُضَلَاءُ-أَحَدًا قَدَّمَ عَقْلَهُ عَلَى شَرْعِ اللهِ وَعَارَضَهُ بِهِ إِلَّا مِنْ أَضَلِّ النَّاسِ وَأَفْسَدهِمْ وَأَرَقِّهِمْ دِيَانَةً، قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ- مُبَيِّنًا حَالَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُوَفَّقِينَ بَيْنَ النَّقْلِ وَالْعَقْلِ: "فَمَا وَجَدُوا -بِحَمْدِ اللهِ- الْعَقْلَ الصَّرِيحَ يُفَارِقُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ أَصْلًا، بَلْ هُوَ خَادِمُهُ وَصَاحِبُهُ وَالشَّاهِدُ لَهُ، وَمَا وَجَدُوا الْعَقْلَ الْمُعَارِضَ لَهُ إِلَّا مِنْ أَفْسَدِ الْعُقُولِ وَأَسْخَفِهَا وَأَشَدِّهَا مُنَافَاةً لِصَرِيحِ الْعَقْلِ وَصَحِيحِهِ"[الصواعق المرسلة].

 

فَيَا عِبَادَ اللهِ: اعْرَفُوا نِعْمَةَ الْعَقْلِ وَقَدْرَهُ وَحُدُودَهُ، وَاسْتَعْمِلُوهَا فِيمَا يُرْضِي الْمُنْعِمَ بِهَا، وَاعْلَمُوا أَنَّ لِلْعُقُولِ حُدُودًا لَا يَنْبَغِي لَهَا تَجَاوُزُهَا.. وَفِي الْمُقَابِلِ يَجِبُ أَنْ نُعْمِلَ الْعَقْلَ فِي مَجَالَاتِهِ الْمَشْرُوعَةِ، وَكَوْنُ الشَّرْعِ قَيَّدَ الْعَقْلَ بِالضَّوَابِطِ لَا يَعْنِي تَجْمِيدَهُ عَنِ الْفَهْمِ وَالتَّفْسِيرِ وَالتَّفْكِيرِ؛ فَالْعَقْلُ السَّلِيمُ لَا يُعَارِضُ النَّقْلَ الصَّحِيحَ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦].

المرفقات

المرجعية غير المعصومة (1) العقل وحدوده.doc

المرجعية غير المعصومة (1) العقل وحدوده.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات