المرجعية المعصومة (3) الإجماع

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-07 - 1444/12/19 2023-07-29 - 1445/01/11
عناصر الخطبة
1/متى يرجع إلى الإجماع؟ 2/لماذا الرجوع إلى إجماع أهل العلم؟ 3/حجية إجماع العلماء 4/ حكم الرجوع إلى إجماع العلماء 5/مكاسب الرجوع إلى إجماع العلماء.

اقتباس

هُنَاكَ قَضَايَا قَدْ نَخْتَلِفُ فِيهَا نَحْنُ -الْمُسْلِمِينَ- وَلَمْ نَجِدْ فِيهَا نَصًّا قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَلِمَاذَا لَا نَرْجِعُ إِلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ كِبَارُ أُمَّتِنَا، لِنَأْخُذَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى قَضِيَّةٍ مِنَ الْقَضَايَا يَدُلُّ عَلَى صَوَابِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ...

الْخُطْبَةُ الْأُولَى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ للهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آل عمران:102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء:1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الأحزاب:70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: هُنَاكَ نُجُومٌ يُسْتَنَارُ بِنُورِهَا إِذَا غَابَ بَدْرُ السَّمَاءِ، وَيُسْتَأْنَسُ بِضِيَائِهَا فِي دَيَاجِي الظَّلْمَاءِ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَ ضَوْؤُهَا وَتَكَامَلَ، وَتَتَامَّ نُورُهَا فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْآفَاقِ؛ فَيَا بُشْرَى السَّارِينَ! وَيَا أَمَانَ السَّالِكِينَ!

 

وَإِنَّ رَسُولَنَا الْكَرِيمَ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَدْ أَتَاهُ مَا أَخْبَرَهُ بِهِ رَبُّهُ فِي قَوْلِهِ: ( إِنَّكَ مَيِّتٌ)[الزمر:30]. فَمَاتَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَتَرَكَ وَرَاءَهُ وَرَثَةً يَقُومُونَ بِدِينِ اللهِ مِنْ بَعْدِهِ، أَلَا وَهُمُ الْعُلَمَاءُ، كَمَا قَالَ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-: "وَإِنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ"[رواه أبو داود والترمذي].

 

فَلَمَّا انْقَطَعَ الْوَحْيُ بِمَوْتِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- احْتَاجَ النَّاسُ إِلَى مَرْجِعِيَّةٍ، وَالْمَأْمُورُونَ بِالْقِيَامِ بِتَبْلِيغِ دِينِ اللهِ وَدَعْوَةِ النَّاسِ إِلَيْهِ هُمُ الْعُلَمَاءُ؛ لِيَقُومُوا مَقَامَ الرَّسُولِ فِي تَبْلِيغِ دِينِهِ وَالدِّفَاعِ عَنْ شَرِيعَتِهِ؛ فَيَدْعُونَ مَنْ ضَلَّ إِلَى الْهُدَى، وَيَنْهَوْنَهُ عَنِ الرَّدَى، وَيُحْيُونَ بِكِتَابِ اللهِ الْمَوْتَى، وَبِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَهْلَ الْجَهَالَةِ وَالرَّدَى.

وَحَتَّى يَكُونَ كَلَامُ أَهْلِ الْعِلْمِ مَرْجِعِيَّةً لَا بُدَّ مِنْ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى الْمَسَائِلِ الَّتِي لَمْ تَتَعَرَّضْ لَهَا نُصُوصُ الْوَحْيَيْنِ؛ فَإِنَّ اجْتِمَاعَهُمْ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ حُجَّةٌ.

 

وَلِسَائِلٍ أَنْ يَسْأَلَ: مَا تَعْرِيفُ الْإِجْمَاعِ؟

وَالْجَوَابُ: مَا ذَكَرَهُ الْعَلَّامَةُ ابْنُ عُثَيْمِينَ -رَحِمَهُ اللهُ-؛ فَقَالَ هُوَ: اتِّفَاقُ مُجْتَهِدِي هَذِهِ الْأُمَّةِ بَعْدَ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى حُكْمٍ شَرْعِيٍّ.

 

وَلِلْإِجْمَاعِ صُوَرٌ كَثِيرَةٌ وَمَظَاهِر مُتَعَدِّدَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ: إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ، وَإِجْمَاعُ السَّلَفِ الصَّالِحِ، وَإِجْمَاعُ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَمَكَانٍ.

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ نُصُوصَ الشَّرِيعَةِ مُتَنَاهِيَةٌ، وَمَعَ تَنَاهِيهَا فَفِيهَا أَدِلَّةٌ مُجْمَلَةٌ وَأُخْرَى تَفْصِيلِيَّةٌ، وَأَمَّا حَوَادِثُ النَّاسِ وَمُجْرَيَاتِ حَيَاتِهِمْ فَإِنَّهَا غَيْرُ مُتَنَاهِيَةٍ، بَلْ تَتَجَدَّدُ بِتَجَدُّدِ الْأَزْمَانِ وَالدُّهُورِ وَالْبِيئَاتِ؛ فَإِذَا مَا عَرَضَتْ لِلنَّاسِ حَادِثَةٌ وَأَرَادُوا مَعْرِفَةَ حُكْمِ اللهِ فِيهَا -وَالْعُلَمَاءُ هُمُ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ الْبَحْثَ عَنِ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ لَهَا-؛ فَإِنْ وَجَدُوا ذَلِكَ فِي كِتَابِ اللهِ أَوْ سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ قَضَوْا بِهِ، وَإِلَّا نَظَرُوا فِيمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ السَّابِقُونَ فَأَفْتَوْا بِهِ، وَهَذَا الَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ يُسَمَّى بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ دَلِيلٌ مِنْ أَدِلَّةِ الشَّرْعِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا؛ وَيَلِي الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ فِي الْقُوَّةِ وَالِاحْتِجَاجِ.

 

وَقَدْ كَانَ أَبُو بَكْرٍ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- إِذَا وَرَدَ عَلَيْهِ الْخَصْمُ نَظَرَ فِي كِتَابِ اللهِ؛ فَإِنْ وَجَدَ فِيهِ مَا يَقْضِي بَيْنَهُمْ قَضَى بِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْكِتَابِ، وَعَلِمَ مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ سُنَّةً قَضَى بِهِ؛ فَإِنْ أَعْيَاهُ أَنْ يَجِدَ فِيهِ سُنَّةً مِنْ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- جَمَعَ رُؤُوسَ النَّاسِ وَخِيَارَهُمْ فَاسْتَشَارَهُمْ؛ فَإِذَا اجْتَمَعَ رَأْيُهُمْ عَلَى أَمْرٍ قَضَى بِهِ[سنن الدارمي].

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ هُنَاكَ قَضَايَا قَدْ نَخْتَلِفُ فِيهَا نَحْنُ -الْمُسْلِمِينَ- وَلَمْ نَجِدْ فِيهَا نَصًّا قَاطِعًا لِلنِّزَاعِ فِي الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، فَلِمَاذَا لَا نَرْجِعُ إِلَى مَا أَجْمَعَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا وَاتَّفَقَ عَلَيْهِ كِبَارُ أُمَّتِنَا، لِنَأْخُذَ بِمَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ؟ فَإِنَّ اتِّفَاقَهُمْ عَلَى قَضِيَّةٍ مِنَ الْقَضَايَا يَدُلُّ عَلَى صَوَابِ مَا ذَهَبُوا إِلَيْهِ؛ فَإِنَّ إِجْمَاعَهُمْ عَلَى ذَلِكَ حُجَّةٌ.

 

وَقَدِ الْتَمَسَ الْعُلَمَاءُ أَدِلَّةً كَثِيرَةً عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَأَنَّهُ دَلِيلٌ صَحِيحٌ يُعْرَفُ بِهِ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ، وَيُفَصَّلُ بِهِ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ النَّاسُ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ:

قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)[النساء:59].

قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينِ: "وَاسْتَنْبَطَ الْعُلَمَاءُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ مَصَادِرَ التَّشْرِيعِ الْأَصْلِيَّةِ أَرْبَعَةٌ، وَهِيَ: الْكِتَابُ، وَالسُّنَّةُ، وَالْإِجْمَاعُ، وَالْقِيَاسُ؛ لِأَنَّ الْأَحْكَامَ إِمَّا مَنْصُوصَةٌ فِي كِتَابٍ أَوْ سُنَّةٍ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) وَالسُّنَّةُ: هِيَ مَا أُثِرَ عَنِ النَّبِيِّ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مِنْ قَوْلٍ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَإِمَّا مُجْمَعٌ عَلَيْهَا مِنْ أَهْلِ الْحَلِّ وَالْعَقْدِ مِنَ الْأُمَّةِ، بَعْدَ اسْتِنَادِهِمْ إِلَى دَلِيلٍ شَرْعِيٍّ اعْتَمَدُوا عَلَيْهِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ)، وَإِمَّا غَيْرُ مَنْصُوصَةٍ وَلَا مُجْمَعٍ عَلَيْهَا، وَهَذِهِ سَبِيلُهَا الِاجْتِهَادُ وَالْقِيَاسُ: وَهُوَ عَرْضُ الْمَسَائِلِ الْمُتَنَازَعِ فِيهَا عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَامَّةِ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ: (فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ).

 

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ: قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا)[النساء:115].

 

قَالَ ابْنُ كَثِيرٍ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الَّذِي عَوَّلَ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ- فِي الِاحْتِجَاجِ عَلَى كَوْنِ الْإِجْمَاعِ حُجَّةً تَحْرُمُ مُخَالَفَتُهُ: هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ بَعْدَ التَّرَوِّي وَالْفِكْرِ الطَّوِيلِ، وَهُوَ مِنْ أَحْسَنِ الِاسْتِنْبَاطَاتِ وَأَقْوَاهَا"[تفسير ابن كثير].

 

وَقَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْإِجْمَاعُ حُجَّةٌ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ، وَإِنْ لَمْ يَعْرِفْ مُسْتَنَدَهُ؛ لِأَنَّ اللهَ عَصَمَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مِنْ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ بَلْ يُصَرِّحُ بِهِ قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى)"[الصواعق المحرقة].

 

وَمِنَ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ: قَوْلُهُ –تَعَالَى-: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا)[البقرة:143].

وَقَدِ احْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِهَذِهِ الْآيَةِ عَلَى أَنَّ إِجْمَاعَ الْأُمَّةِ حُجَّةٌ، فَقَالُوا: "أَخْبَرَ اللهُ –تَعَالَى- عَنْ عَدَالَةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ وَعَنْ خَيْرِيَّتِهَا؛ فَلَوْ أَقَامُوا عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ لَمَا اتَّصَفُوا بِالْخَيْرِيَّةِ، وَإِذَا ثَبَتَ أَنَّهُمْ لَا يَقْدَمُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنَ الْمَحْظُورَاتِ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ قَوْلُهُمْ حُجَّةً".

 

مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ: وَإِذَا رَجَعْنَا إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَإِنَّنَا سَنَجِدُ أَدِلَّةً اسْتَدَلَّ بِهَا الْعُلَمَاءُ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ، وَمِنْ تِلْكَ الْأَدِلَّةِ:

حَدِيثُ ابْنِ عُمَرَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِنَّ اللهَ لَا يُجْمِعُ أُمَّتِي - أَوْ قَالَ: أُمَّةَ مُحَمَّدٍ - عَلَى ضَلَالَةٍ، وَيَدُ اللهِ عَلَى الْجَمَاعَةِ"[رواه الترمذي].

 

وَمِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ: حَدِيثُ ثَوْبَانَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "وَلَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ ظَاهِرِينَ، لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ"[رواه مسلم]، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْعُلَمَاءَ الْعَامِلِينَ مِنْ هَذِهِ الطَّائِفَةِ بِلَا رَيْبٍ.

 

وَمِنْ أَدِلَّةِ السُّنَّةِ عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ: حَدِيثُ عَرْفَجَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ –صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَقُولُ: "يَدُ اللهِ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَالشَّيْطَانُ مَعَ مَنْ خَالَفَهُمْ يَرْكُضُ"[رواه الطبراني ورجاله ثقات].

 

وَتَأَمَّلُوا -أَيُّهَا الْأَحْبَابُ الْكِرَامُ- فِي كَلَامِ الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ السَّابِقِينَ مِنْهُمْ وَاللَّاحِقِينَ، سَتَجِدُونَ أَنَّهُمْ يُقَرِّرُونَ أَنَّ الْإِجْمَاعَ حُجَّةٌ بَعْدَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ إِذْ لَا يُمْكِنُ لِلْأُمَّةِ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى خَطَإٍ:

يَقُولُ الْإِمَامُ ابْنُ الْوَزِيرِ -رَحِمَهُ اللهُ-: "قَدْ ثَبَتَ أَنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ، وَأَنَّ إِجْمَاعَهَا حُجَّةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَأَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الْإِجْمَاعِ هُمُ الْعُلُمَاءُ".

 

وَيَقُولُ الْإِمَامُ الْآمِدِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ-: "الْإِجْمَاعُ أَصْلٌ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، وَهُوَ مَعْصُومٌ عَنِ الْخَطَإِ، وَالْقِيَاسُ فَرْعٌ وَعُرْضَةٌ لِلْخَطَأِ".

 

وَيَقُولُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "اتِّفَاقُ الْأَئِمَّةِ عَلَى حُكْمٍ أَوْ مَسْأَلَةٍ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ؛ فَإِنَّ الْأُمَّةَ مَعْصُومَةٌ أَنْ تَجْتَمِعَ عَلَى خَطَأٍ؛ وَالْإِجْمَاعُ هُوَ الدَّلِيلُ الثَّالِثُ مِنْ أُصُولِ الْأَدِلَّةِ، يُحْتَجُّ بِهِ كَمَا يُحْتَجُّ بِالْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ، وَالْغَالِبُ أَنَّ الْإِجْمَاعَ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ دَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ".

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ:

 

الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى نَبِيِّنَا الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ فِي قَضِيَّةٍ مُعَيَّنَةٍ لَا تُوجَدُ لَهَا نُصُوصٌ خَاصَّةً فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ؛ وَاجِبٌ شَرْعِيٌّ، وَلَيْسَ أَمْرًا رَاجِعًا إِلَى الْأَهْوَاءِ وَالرَّغَبَاتِ وَالِاخْتِيَارِ، فَمَنْ شَاءَ رَجَعَ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَ، لَيْسَ الْأَمْرُ كَذَلِكَ، بَلْ قَوْلُهُ -تَعَالَى- فِي الْآيَةِ الَّتِي سُقْنَاهَا عَلَى حُجِّيَّةِ الْإِجْمَاعِ: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ) يَدُلُّ عَلَى الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِطَاعَةِ أُولِي الْأَمْرِ -وَمِنْهُمُ الْعُلَمَاءُ الَّذِينَ أَجْمَعُوا عَلَى مَسْأَلَةٍ مَا- يَقْتَضِي الْوُجُوبَ.

 

فَلِذَلِكَ حِينَمَا يَغِيبُ عَنِ الْمَرْءِ الْعِلْمُ فِي مَسْأَلَةٍ مُعَيَّنَةٍ، وَلَمْ يَجِدْ لَهَا نَصًّا مِنَ الْوَحْيِ؛ فَعَلَيْهِ أَنْ يَنْظُرَ فِي إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَأَوْلَى الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَنْظُرُ فِي إِجْمَاعِهِمْ هُمُ الصَّحَابَةُ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ-؛ لِأَنَّهُمْ خَيْرُ الْأُمَّةِ بَعْدَ نَبِيِّهَا، وَأَعْلَمُ أَهْلِهَا بِدِينِهَا، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: "وَأَمَّا الْإِجْمَاعُ الْمَعْصُومُ، فَهُوَ إِجْمَاعُ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَمَا وَافَقَهُ، وَهُوَ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ الَّذِي وَرَدَ الْحَثُّ عَلَى اتِّبَاعِهِ"[تَيْسِير العزيز الحميد].

 

عِبَادَ اللهِ: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لَهُ مَكَاسِبُ وَثَمَرَاتٌ حَسَنَةٌ كَثِيرَةٌ، فَمِنْ ذَلِكَ:

الْقَضَاءُ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ خِلَافَاتِ الْمُسْلِمِينَ الَّتِي فَرَّقَتْ صَفَّهُمْ، وَشَتَّتَتْ كَلِمَتَهُمْ؛ فَلَوْ رَجَعُوا إِلَى إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ لَقُضِيَ عَلَى التَّنَازُعِ أَوْ خُفِّفَ مِنْ حِدَّتِهِ، وَاللهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ)[الأنفال:46].

 

وَمِنْ مَكَاسِبِ الرُّجُوعِ إِلَى إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ: عِبَادَةُ اللهِ عَلَى عِلْمٍ، وَالِاطْمِئْنَانُ عَلَى صِحَّةِ الطَّرِيقِ؛ فَالَّذِينَ رَجَعُوا إِلَى أَهْوَائِهِمْ، وَشَاذِّ الْأَقْوَالِ يَعِيشُونَ فِي قَلَقٍ وَحَيْرَةٍ، قَدْ سَلِمَ مِنْهُمَا مَنْ رَدَّ الْأَمْرَ إِلَى إِجْمَاعِ الْعُلَمَاءِ، وَخَاصَّةً السَّلَفَ الصَّالِحِينَ.

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: اعْبُدُوا اللهَ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَاعْلَمُوا أَنَّ طَرِيقَ ذَلِكَ هُوَ الرُّجُوعُ إِلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالْأَخْذُ بِإِجْمَاعِ عُلَمَاءِ الْأُمَّةِ، وَخَاصَّةً فِي أُمُورِ الِاعْتِقَادِ، فَـ"أَكْثَرُ مَسَائِلِ الِاعْتِقَادِ مَحَلُّ إِجْمَاعٍ بَيْنَ الصَّحَابَةِ وَالسَّلَفِ الصَّالِحِ، وَلَا تَجْتَمِعُ الْأُمَّةُ فِي أُمُورِ الْعَقِيدَةِ وَلَا غَيْرِهَا عَلَى ضَلَالَةٍ وَبَاطِلٍ"، فَارْجِعُوا إِلَى ذَلِكَ الْجِيلِ النَّقِيِّ الَّذِي زَكَّاهُ رَسُولُ اللهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَمَا أَجْمَعُوا عَلَيْهِ فِي الْعَقِيدَةِ وَغَيْرِهَا؛ فَخُذُوا بِهِ اعْتِقَادًا وَعَمَلًا.

 

فَكُلُّ خَيْرٍ فِي اتِّبَاعِ مَنْ سَلَفْ***وَكُلُّ شَرٍّ فِي ابْتِدَاعِ مَنْ خَلَفْ

 

نَسْأَلُ اللهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنَ الْآخِذِينَ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَالرَّاجِعِينَ إِلَى إِجْمَاعِ الْأُمَّةِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى خَيْرِ الْبَشَرِ؛ (إِنَّ اللَّه وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِي يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)[الأحزاب:٥٦]. 

المرفقات

المرجعية المعصومة (3) الإجماع.doc

المرجعية المعصومة (3) الإجماع.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات