المرجعية المعصومة (2) السنة النبوية

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2023-07-14 - 1444/12/26 2023-07-29 - 1445/01/11
عناصر الخطبة
1/السنة أعظم المرجعيات بعد القرآن الكريم 2/لماذا الرجوع إلى السنة؟ 3/آثار الرجوع إلى السنة 4/مخاطر عدم الرجوع إلى السنة.

اقتباس

فَهَلْ فِي الْقُرْآنِ كَيْفِيَّةُ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدُهَا وَأَرْكَانُهَا وَوَاجِبَاتُهَا؟ وَهَلْ فِي الْقُرْآنِ بَيَانُ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، وَتَحْدِيدُ أَنْصِبَتِهَا وَشُرُوطِ وُجُوبِهَا؟ وَهَلْ فِي الْقُرْآنِ تَوْضِيحُ كَيْفِيَّةِ الْحَجِّ؛ مِنْ إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَوُقُوفٍ... وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَكَفَّلَتْ بِتَوْضِيحِ ذَلِكَ؟...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: لَقَدْ أَشْرَقَتْ شَمْسُ النُّبُوَّةِ عَلَى الْأَرْضِ فَكَسَتْهَا ضِيَاءً وَسَنَاءً، وَمَلَأَتْهَا أَلْقًا وَبَهَاءً، فَحَمَلَ رَسُولُ الْبَشَرِيَّةِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى الْعَالَمِينَ مَشَاعِلَ الْهِدَايَةِ الْمُنْبَثِقَةَ عَنْ كِتَابٍ مِنَ اللَّهِ مُنَزَّلٍ، وَبَيَانٍ مِنْ رَسُولِهِ مُفَصَّلٍ، وَكِلَاهُمَا جَاءَ مِنْ مِشْكَاةِ الْوَحْيِ، لِهِدَايَةِ الْخَلْقِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النَّجْمِ: 3-4].

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ السُّنَّةَ النَّبَوِيَّةَ -عَلَى صَاحِبِهَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَأَتَمُّ التَّسْلِيمِ- هِيَ أَعْظَمُ الْمَرْجِعِيَّاتِ بَعْدَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، وَإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْمُسْلِمُ لِيَصْدُرَ عَنْهَا بِالنُّورِ الَّذِي يَرَى بِهِ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ، وَالصَّوَابَ مِنَ الْخَطَأِ، وَالْهُدَى مِنَ الضَّلَالِ.

 

وَلَمَّا كَانَتْ مَنْزِلَةُ السُّنَّةِ فِي الْمَرْجِعِيَّةِ بَعْدَ كِتَابِ اللَّهِ -تَعَالَى-؛ فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُقَدَّمَ عَلَيْهَا قَوْلُ أَحَدٍ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَيْهَا؛ لِأَنَّ قَوْلَ رَسُولِ اللَّهِ مَعْصُومٌ، وَأَمَّا قَوْلُ سِوَاهُ مِنَ الْبَشَرِ فَغَيْرُ مَعْصُومٍ.

 

وَلِهَذَا كَانَتِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ الشَّرِيفَةُ قَرِينَةَ الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فِي الذِّكْرِ فِي الْآيَاتِ الْقُرْآنِيَّةِ، فَقَدْ جَاءَ وَصْفُ السُّنَّةِ بِالْحِكْمَةِ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْآيَاتِ، مَقْرُونَةً بِالْقُرْآنِ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 164].

 

قَالَ الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "فَذَكَرَ اللَّهُ الْكِتَابَ -وَهُوَ الْقُرْآنُ- وَذَكَرَ الْحِكْمَةَ، فَسَمِعْتُ مَنْ أَرْضَى مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ بِالْقُرْآنِ يَقُولُ: الْحِكْمَةُ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-".

 

وَقَالَ -تَعَالَى-: (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ)[الْأَحْزَابِ: 34].

قَالَ قَتَادَةُ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "يَعْنِي: السُّنَّةَ".

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ يُرِيدُ السَّعَادَةَ فِي الدُّنْيَا، وَالْفَلَاحَ فِي الْآخِرَةِ، وَوُجُوبُ ذَلِكَ لِأُمُورٍ؛ مِنْهَا:

أَوَّلًا: أَنَّ مَعْنَاهَا وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَالْوَحْيُ يَلْزَمُ كُلَّ مُسْلِمٍ اتِّبَاعُهُ. وَمِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ وَحْيٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ: قَوْلُهُ -تَعَالَى-: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى)[النَّجْمِ: 3-4]. فَقَدْ "دَلَّ هَذَا عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ وَحْيٌ مِنَ اللَّهِ لِرَسُولِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-"(تَفْسِيرَ السَّعْدِيِّ).

 

وَعَنِ الْمِقْدَامِ بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الْكِنْدِيِّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا إِنِّي أُوتِيتُ الْقُرْآنَ وَمِثْلَهُ مَعَهُ"(رَوَاهُ أَحْمَدُ).

 

وَفِي حَدِيثِ: "الَّذِي سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ عَنِ الْعُمْرَةِ، فَأَخَذَهُ مَا كَانَ يَأْخُذُهُ عِنْدَ نُزُولِ الْوَحْيِ، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ فَقَالَ: اصْنَعْ فِي عُمْرَتِكَ مَا تَصْنَعُ فِي حَجَّتِكَ"(مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

قَالَ الْإِمَامُ الزَّرْكَشِيُّ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ هَذَا الْحَدِيثِ: "وَهُوَ دَلِيلٌ قَطْعِيٌّ عَلَى أَنَّ السُّنَّةَ كَانَتْ تُنَزَّلُ كَمَا يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ".

 

وَعَنْ حَسَّانَ بْنِ عَطِيَّةَ، قَالَ: "كَانَ جِبْرِيلُ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- يَنْزِلُ عَلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالسُّنَّةِ كَمَا يَنْزِلُ عَلَيْهِ بِالْقُرْآنِ، وَيُعَلِّمُهُ إِيَّاهَا كَمَا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ".

 

وَمِمَّا يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى السُّنَّةِ كَذَلِكَ: أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَمَرَ بِاتِّبَاعِهَا وَالرُّجُوعِ إِلَيْهَا؛ فَقَدْ كَثُرَتِ الْآيَاتُ الَّتِي تَأْمُرُ بِطَاعَةِ رَسُولِ اللَّهِ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-، وَالْأَخْذِ بِمَا جَاءَ عَنْهُ، وَهَلِ الْأَمْرُ بِذَلِكَ إِلَّا أَمْرٌ بِالرُّجُوعِ إِلَى سُنَّتِهِ وَقَبُولِهَا؟ قَالَ -تَعَالَى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 33].

 

وَقَالَ: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الْحَشْرِ: 7]، "فَأَمَرَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ بِاتِّبَاعِ سُنَّهِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَكُلُّ حُكْمٍ سَنَّهُ الرَّسُولُ لِأُمَّتِهِ قَدْ ذَكَرَهُ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ- فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ، بِهَذِهِ الْآيَةِ"(فَتْحَ الْقَدِيرِ، لِلشَّوْكَانِيِّ).

 

وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَعَنَ اللَّهُ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالنَّامِصَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ، وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ امْرَأَةً مِنْ بَنِي أَسَدٍ يُقَالُ لَهَا: أُمُّ يَعْقُوبَ، وَكَانَتْ تَقْرَأُ الْقُرْآنَ، فَأَتَتْهُ فَقَالَتْ: مَا حَدِيثٌ بَلَغَنِي عَنْكَ أَنَّكَ لَعَنْتَ الْوَاشِمَاتِ وَالْمُسْتَوْشِمَاتِ وَالْمُتَنَمِّصَاتِ وَالْمُتَفَلِّجَاتِ لِلْحُسْنِ، الْمُغَيِّرَاتِ خَلْقَ اللَّهِ؟ فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ: وَمَا لِي لَا أَلْعَنُ مَنْ لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟ وَهُوَ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟ فَقَالَتِ الْمَرْأَةُ: لَقَدْ قَرَأْتُ مَا بَيْنَ لَوْحَيِ الْمُصْحَفِ فَمَا وَجَدْتُهُ فَقَالَ: لَئِنْ كُنْتِ قَرَأْتِيهِ لَقَدْ وَجَدْتِيهِ؛ قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ-: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)[الْحَشْرِ: 7](مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ).

 

وَمِمَّا يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى السُّنَّةِ أَيْضًا: أَنَّ السُّنَّةَ شَارِحَةٌ لِلْقُرْآنِ، وَمُبَيِّنَةٌ لَهُ، وَمُفَصِّلَةٌ لِمَا فِيهِ، فَالْقُرْآنُ الْكَرِيمُ -مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ- أَلْفَاظٌ كُلِّيَّةٌ، وَمَعَانٍ مُجْمَلَةٌ، فَجَاءَتْ سُنَّةُ نَبِيِّكُمْ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ-وَوَضَّحَتْ ذَلِكَ.

 

وَلَكُمْ أَنْ تَتَأَمَّلُوا فِي شَرَائِعِ الْإِسْلَامِ مِنْ أَيْنَ جَاءَ تَفْصِيلُهَا، أَلَيْسَتِ السُّنَّةُ هِيَ الَّتِي فَصَّلَتْهَا؟ فَهَلْ فِي الْقُرْآنِ كَيْفِيَّةُ الصَّلَوَاتِ وَعَدَدُهَا وَأَرْكَانُهَا وَوَاجِبَاتُهَا؟ وَهَلْ فِي الْقُرْآنِ بَيَانُ الْأَمْوَالِ الزَّكَوِيَّةِ، وَتَحْدِيدُ أَنْصِبَتِهَا وَشُرُوطِ وُجُوبِهَا؟ وَهَلْ فِي الْقُرْآنِ تَوْضِيحُ كَيْفِيَّةِ الْحَجِّ؛ مِنْ إِحْرَامٍ، وَطَوَافٍ، وَسَعْيٍ، وَوُقُوفٍ... وَغَيْرِ ذَلِكَ؟ أَلَمْ تَكُنِ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ هِيَ الَّتِي تَكَفَّلَتْ بِتَوْضِيحِ ذَلِكَ؟

 

وَهَكَذَا أَحْكَامُ الْبُيُوعِ وَالْجِنَايَاتِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْأُسَرِيَّةِ؛ مِنْ نِكَاحٍ، وَطَلَاقٍ، وَرَجْعَةٍ... وَغَيْرِ ذَلِكَ، فَمَا الَّذِي بَيَّنَهَا غَيْرُ سُنَّةِ نَبِيِّنَا، -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؟

 

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ الْقَوْمِ: لَا تُحَدِّثُونَا إِلَّا بِالْقُرْآنِ، فَقَالَ لَهُ: ادْنُهْ، فَدَنَا، فَقَالَ: "أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ فِيهِ صَلَاةَ الظُّهْرِ أَرْبَعًا، وَصَلَاةَ الْعَصْرِ أَرْبَعًا، وَالْمَغْرِبِ ثَلَاثًا؟، تَقْرَأُ فِي اثْنَتَيْنِ، أَرَأَيْتَ لَوْ وُكِلْتَ أَنْتَ وَأَصْحَابُكَ إِلَى الْقُرْآنِ أَكُنْتَ تَجِدُ الطَّوَافَ بِالْبَيْتِ سَبْعًا؟ وَالطَّوَافَ بِالصَّفَا وَالْمَرْوَةِ؟ ثُمَّ قَالَ: أَيْ قَوْمِ، خُذُوا عَنَّا؛ فَإِنَّكُمْ -وَاللَّهِ- إِلَّا تَفْعَلُوا لَتَضُلُّنَّ"(رَوَاهُ الْخَطِيبُ الْبَغْدَادِيُّ).

 

وَمِمَّا يُوجِبُ الرُّجُوعَ إِلَى السُّنَّةِ كَذَلِكَ: أَنَّ فِي السُّنَّةِ أَحْكَامًا وَآدَابًا غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فِي الْقُرْآنِ، فَجَاءَتِ السُّنَّةُ بِهَا، مِثْلَ: حُرْمَةِ الْجَمْعِ بَيْنَ الْمَرْأَةِ وَعَمَّتِهَا أَوْ خَالَتِهَا فِي النِّكَاحِ، وَأَحْكَامِ الشُّفْعَةِ، وَحُرْمَةِ لَحْمِ الْحُمُرِ الْأَهْلِيَّةِ، وَكُلِّ ذِي مِخْلَبٍ مِنَ الطَّيْرِ أَوْ نَابٍ مِنَ السِّبَاعِ، وَمِثْلَ: عُقُوبَةِ شُرْبِ الْخَمْرِ، وَرَجْمِ الزَّانِي الْمُحْصَنِ، وَمِيرَاثِ الْجَدَّةِ.

 

كَمَا أَنَّ السُّنَّةَ خَصَّصَتْ بَعْضَ عُمُومَاتِ الْقُرْآنِ، وَقَيَّدَتْ بَعْضَ إِطْلَاقَاتِهِ؛ كَمَوْضِعِ الْقَطْعِ مِنْ يَدِ السَّارِقِ... وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ قَالَ -تَعَالَى-: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ)[النَّحْلِ: 44].

وَبَيَانُ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ بِأَقْوَالِ رَسُولِ اللَّهِ وَأَفْعَالِهِ وَتَقْرِيرَاتِهِ، وَهَذَا هُوَ السُّنَّةُ النَّبَوِيَّةُ.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَنْصُرَ دِينَهُ وَكِتَابَهُ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ وَحْدَهُ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنْ لَا نَبِيَّ بَعْدَهُ، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ الرُّجُوعَ إِلَى سُنَّةِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُثْمِرُ ثَمَرَاتٍ حَسَنَةً، وَلَهُ آثَارٌ طَيِّبَةٌ؛ فَمِنْ ذَلِكَ:

حُصُولُ الْفَهْمِ الصَّحِيحِ لِلْقُرْآنِ الْكَرِيمِ، فَلَنْ يُفْهَمَ الْإِسْلَامُ فَهْمًا صَحِيحًا إِلَّا بِالسُّنَّةِ؛ فَهُنَاكَ آيَاتٌ لَوْلَا بَيَانُ السُّنَّةِ النَّبَوِيَّةِ لَفُهِمَتْ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا، أَوْ حُمِلَتْ عَلَى غَيْرِ أَهْلِهَا، وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا؛ مَا جَاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: "لَمَّا نَزَلَتْ؛ (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ)[الْأَنْعَامِ: 82]، شَقَّ ذَلِكَ عَلَى أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَقَالُوا: أَيُّنَا لَا يَظْلِمُ نَفْسَهُ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: لَيْسَ هُوَ كَمَا تَظُنُّونَ؛ إِنَّمَا هُوَ كَمَا قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ؛ (يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ)[لُقْمَانَ: 13]".

 

وَمِنَ الْآثَارِ الْحَسَنَةِ لِلرُّجُوعِ إِلَى السُّنَّةِ: اكْتِمَالُ دِينِ الْإِسْلَامِ، فَلَا إِسْلَامَ بِلَا سُنَّةٍ؛ إِذْ لَوِ اكْتَفَى الْإِنْسَانُ بِالْقُرْآنِ وَحْدَهُ فَكَيْفَ سَيَعْبُدُ اللَّهَ؟ وَكَيْفَ سَيَتَعَامَلُ مَعَ النَّاسِ الْمُعَامَلَةَ الشَّرْعِيَّةَ الْكَامِلَةَ؟ وَلِذَلِكَ جَاءَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ مَا يَنْهَى عَنِ الِاكْتِفَاءِ بِالْقُرْآنِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا هَلْ عَسَى رَجُلٌ يَبْلُغُهُ الْحَدِيثُ عَنِّي وَهُوَ مُتَّكِئٌ عَلَى أَرِيكَتِهِ، فَيَقُولُ: بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ كِتَابُ اللَّهِ! فَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَلَالًا اسْتَحْلَلْنَاهُ، وَمَا وَجَدْنَا فِيهِ حَرَامًا حَرَّمْنَاهُ، وَإِنَّ مَا حَرَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كَمَا حَرَّمَ اللَّهُ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَأَبُو دَاوُدَ).

 

عِبَادَ اللَّهِ: إِنَّ الْإِعْرَاضَ عَنِ الرُّجُوعِ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- رَغْبَةً عَنْهَا؛ لَهُ مَخَاطِرُ كَثِيرَةٌ، وَآثَارٌ سَيِّئَةٌ مُتَعَدِّدَةٌ:

كَالْوُقُوعِ فِي مُخَالَفَةِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ؛ فَإِنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- قَدْ أَمَرَ فِي كِتَابِهِ بِالرُّجُوعِ إِلَى سُنَّةِ رَسُولِهِ، وَكَذَلِكَ نَبِيُّنَا -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- دَعَا إِلَى ذَلِكَ، وَمُخَالَفَةُ الْإِنْسَانِ لِرَبِّهِ وَرَسُولِهِ يُوقِعُهُ فِي خَطَرٍ كَبِيرٍ، قَالَ -تَعَالَى-: (فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)[النُّورِ: 63].

 

وَمِنْ مَخَاطِرِ الْإِعْرَاضِ عَنْ سُنَّتِهِ: الْوُقُوعُ فِي الضَّلَالِ، وَنُقْصَانُ الدِّينِ، وَتَحْقِيقُ أُمْنِيَةِ أَعْدَاءِ الْإِسْلَامِ فِي إِبْعَادِ الْمُسْلِمِينَ عَنْ دِينِهِمْ؛ إِذْ قِوَامُ الدِّينِ بِالْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَلَا قِيَامَ لِبُنْيَانِ الدِّينِ إِلَّا بِذَلِكَ، فَإِذَا انْهَدَّ أَحَدُ الرُّكْنَيْنِ انْهَدَّ بُنْيَانُ الْإِسْلَامِ.

 

فَيَا أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِذَا كُنَّا مُحِبِّينَ لِلَّهِ -تَعَالَى- فَعَلَيْنَا أَنْ نَأْخُذَ بِمَا جَاءَ فِي سُنَّةِ نَبِيِّهِ، وَأَنْ نُعَظِّمَهَا وَنُبَرْهِنَ بِاتِّبَاعِنَا لَهَا، وَرُجُوعِنَا إِلَيْهَا، وَعَدَمِ الْإِعْرَاضِ عَنْهَا، وَالِاعْتِرَاضِ عَلَيْهَا، بَلْ نَسْعَى لِنَشْرِهَا وَالدِّفَاعِ عَنْهَا، قَالَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[آلِ عِمْرَانَ: 31].

 

وَصَدَقَ الشَّاعِرُ حَيْثُ قَالَ:

لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَادِقًا لَأَطَعْتَهُ *** إِنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَجْعَلَنَا مِنْ أَتْبَاعِ رَسُولِهِ، الرَّاجِعِينَ إِلَى سُنَّتِهِ، الْعَامِلِينَ بِهَدْيِهِ، الْمُقْتَدِينَ بِطَرِيقَتِهِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الرَّحْمَةِ الْمُهْدَاةِ: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].

 

المرفقات

المرجعية المعصومة (2) السنة النبوية.doc

المرجعية المعصومة (2) السنة النبوية.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات