اقتباس
ولو قارنا يبن الحقوق المادية للمرآة التي تركز عليها الحضارة الغربية، وكفلها الإسلام من قبل، وحقوقها المعنوية التي كفلها الإسلام وحده على وجه الحقيقة لا الادعاء، لرأينا فارقا شاسعا بين الإسلام والحضارة الغربية يتمثل...
في خبر عجيب وصادم طار في وسائل الإعلام العالمية كل مطار؛ أعلنت مواطنة أوكرانية في عامها الـ19 من سكان مدينة خاركوف شرقي البلاد، أنها باعت عذريتها – نعم عذريتها - مقابل 1.2 مليون يورو، والفائز بالمزاد رجل أعمال يبلغ من العمر 58 عاما من ميونخ، وذلك بعد منافسة محتدمة مع الكثيرين عبر العالم عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وقد تمكن الفائز من تخطي عرض من محام من نيويورك، كان مستعدا لدفع مليون يورو، ومن مطرب من طوكيو قدم 800 ألف يورو، ووفقا لصحيفة "ديلي ميل"، ستجري "عملية التسليم والاستلام" بين البائعة والفائز في المزاد في ألمانيا!!
الخبر بقدر ما كان صادماً ومستغرباً، كان كاشفاً ومجلّياً عن مآلات الحضارة الغربية ومنتوجها الثقافي الذي تراكم في العقل الجمعي للمواطن الغربي وأفرز هذا الشذوذ الفكري. هذه هي الحضارة الغربية وإنتاجها الثقافي والأخلاقي بكل جلاء! حيث التسليع هو لب هذه الحضارة العفنة النجسة.
التسليع أو الـ Commodification مصطلح انشغل به بعض منظري الحضارة الغربية في العقود الأخيرة بعد أن انتبهوا في لحظات حضارية فارقة إلى تلك الحقيقة المفزعة حقيقة أن رأسماليتهم المفرطة قد أغرقتهم في آلية تسليع أي شيء وكل شيء حتى الإنسان ومشاعره ورغباته الوجدانية وعلاقاته الشعورية بمن حوله تم إدخالها إلى ماكينة التسليع العملاقة لتخرج في النهاية سلعا جافة جامدة تباع وتشترى!!
الحضارة الغربية أو حضارة التسليع عانت منذ البداية من "بطلان الحاسة الدينية"، وهي حاسة تضاف لحواس الإنسان الخمس، وتجعل الإنسان في بحث دائم عن الله وقيم الدين في أعماقه، عانت من طغيان المادية والركض لإشباع الشهوات على حساب المعتقدات، واعتبار هذا هدفًا إنسانيًّا ومجتمعيًّا أساسيًّا، وهذا الخلل قاد الحضارة الغربية لمراجعات وارتدادات وانتقادات متتابعة، لم تؤتي ثمارها بقدر ما ساهمت في تفاقم الانحراف والاغراق في تيه الأطروحات والنظريات الفلسفية والجدلية، فحضارة ما قبل الحداثة غيرها، وما بعد الحداثة تتناقض مع ذاتها.
فالحضارة الغربية قادت البشرية إلى مسار مغلوط منذ أن قررت أن تجعل من الإنسان معيار المعرفة الحقيقية ومركز الفكر وغاية الفعل، ثم لم يلبث أن خرجت الحركة الإنسانية عن مسارها نتيجة فهمها المغلوط للإنسان، وحولته في النهاية إلى أشياء مادية ومساحات لا تتجاوز عالم الحواس الخمس، وحسب وصف الدكتور عبد الوهاب المسيري فإن أدقّ وصف لهذه التحوُّلات هو مصطلح "تشيّؤ"؛ أي: أن يتحول الإنسان إلى شيء، حيث تُطَبَّقُ الصيغ الكمية والإجراءات على الإنسان إلى أن يتساوى الإنسان وعالم الأشياء والسلع؛ فتسقط المرجعية الإنسانية وتصبح (الطبيعة/المادة) أو (السوق/المصنع) هي المرجعية الوحيدة النهائية؛ فتنتفي إنسانية الإنسان وتعمل فيه آليات السوق وبيع السلع والتسليع.
و"المرأة" في خطاب الحضارة الغربية والأنماط الثقافية السائدة في الغرب اليوم تأتي على رأس السلع التي تباع وتشترى على جسدها بعد تشيئه وتسليعه، بعد إعطاء الأولوية للجسد على حساب العقل – فهو الأكثر ربحية وتسويقاً – ومن ثم كانت الصفقات الشائنة كالمذكورة أول الحديث.
وعندما نركز الأضواء على وضعية المرآة في حضارة التسليع نجد أمرين في غاية التناقض والعوار الفكري:
أولهما: مدى نفاق الحضارة الغربية التي أصدرت مئات القرارات والتوصيات وعقدت عشرات المؤتمرات تحت شعار الدفاع عن المرآة ومكانتها في المجتمع والحفاظ على حقوقها وصون كرامتها في الوقت الذي يباع كل شيء في الغرب من الإبرة للصاروخ على جسد المرآة.
ثانيهما: مدى تناقض الحضارة الغربية وهي تكيل الاتهامات للإسلام والحضارة الإسلامية بأنها حضارة ذكورية تضطهد المرآة وتصادرها حقوقها وتحط من كرامتها وتنظر إليها نظرة شهوانية محضة، في الوقت الذي نرى فيها النساء في الغرب يبيعن كل شيء حتى عذريتها وعفتها تحت سمع وبصر الجميع بلا استغراب أو نكير!!
أما أخطر ما في الموضوع أن الغرب يسوق بقوة لهذا النموذج الحضاري الشائن ويحاول فرضه بقوة الأمر الواقع على العالم الإسلامي لتتحول المرآة المسلمة العفيفة الشريفة في المجتمعات الإسلامية لنسخة مشوهة من نظيرتها في الغرب، الأمر تحول إلى حرب محمومة مع مطلع الألفية الثالثة واتخذ شكل الغارة على العالم الإسلامي عامة والمرآة المسلمة خاصة.
ونحن لسنا في معرض الدفاع عن الإسلام، أو بيان مدى عظمة ونقاء وطهر منهجه وشريعته في الحفاظ على المرآة ومكانتها في المجتمع، وصونها ورعاية حقوقها، ولكن نذّكر بطرف بسيط من الحقوق التي قررها الإسلام للمرآة، ولا يعرفها الغرب ابتداءً إلا تشوهاً، ومدى علاقة هذه الحقوق بمنظومة الدين، ونعني بها الحقوق المعنوية للمرآة وهي الحقوق التي لا يقام لها أي اعتبار عند حضارة التسليع والثقافة المادية وأفكار التشيئ في الغرب.
الحقوق المعنوية للمرأة هي التي تراعي مشاعر المرآة وحاجاتها النفسية والقلبية، وهي الحاجات التي بغيابها تهدم كثير من البيوت العامرة، وتتحول إلى نسخ مشوهة من البيوت في الحضارة الغريبة والتي تعاني من تفكك الأسرة وضياع شكلها الطبيعي بسبب تنامي النزعة الفردية وحب الذات في تلك المجتمعات.
ولو قارنا يبن الحقوق المادية للمرآة التي تركز عليها الحضارة الغربية، وكفلها الإسلام من قبل، وحقوقها المعنوية التي كفلها الإسلام وحده على وجه الحقيقة لا الادعاء، لرأينا فارقا شاسعا بين الإسلام والحضارة الغربية يتمثل في عدة أمور منها:
1- أن الحقوق المادية تنحصر في ثلاثة أو أربعة حقوق على الأكثر، تدور في فلك ضرورة الحفاظ على الحياة، وقوام البدن، في حين أن الحقوق المعنوية كثيرة ومتشبعة، لو أعطيناها حقها ما وسعنا المقام.
2- أن الحقوق المادية كلها يلتزم بأدائها الرجل وحده دون المرأة، التي لا تلتزم إلا بالحقوق الزوجية فقط، في حين أن الحقوق المعنوية أو الأدبية مخاطب بها كل من الرجل والمرأة على السواء؛ لأن هذه الحقوق تقوم في الأساس على المودة والسكن والرحمة، والاحترام والتقدير، هي حاجات لازمة للرجل والمرأة سواءً بسواء، وإن كانت حاجة المرأة أكثر قليلاً من حاجة الرجل في هذه الحقوق.
وللتدليل على ذلك نجد أن الرسول -صلي الله عليه وسلم- يبعث بوصايا غالية متكافئة لكل من الطرفين، للرجل والمرأة، فيقول للرجال: "خيركم، خيركم لأهله وأنا خيركم لأهلي"(صحيح الجامع 3314)، وقال :"خيركم، خيركم للنساء"(صحيح الجامع 3316)، وقال: "استوصوا بالنساء خيراً...."(البخاري ومسلم في كتاب الحج).
وقال للنساء: "خير النساء من تسرك إذا أبصرت، وتطيعك إذا أمرت، وتحفظ غيبتك في نفسها ومالك"(صحيح الجامع 3329)، وقال: "إذا صلت المرأة خمسها، وصامت شهرها، وحفظت فرجها، وأطاعت زوجها دخلت الجنة"(صحيح الجامع 661)، وقال: "لا تؤدي المرأة حق ربها حتى تؤدي حق زوجها"(ابن ماجه في كتاب النكاح)، وهكذا نرى أن كلاً من الرجل والمرأة يتمتعان بهذه الحقوق المعنوية.
3- أن الحقوق المادية ملزمة للرجل شرعاً وقضاءً، لأنها من التزامات أداء العقد، والمسلمون عند شروطهم؛ فالرجل إذا قصر في أدائها هو إما يلزم بها، أو يؤمر بالطلاق للضرر، أما الحقوق المعنوية؛ فقد ربطها الإسلام مباشرة بالإيمان وحسن الخلق، والخيرية كما مر بنا في الأحاديث السابقة، وهى بذلك تكون مسألة إيمانية متعلقة بصلاح الرجل وتقواه، بل هي في الواقع معيار قياس الإيمان الحقيقي التطبيقي ، وليس الإيمان النظري الذي يستوي فيه الكثيرون.
وجماع الحقوق المعنوية أو الأدبية التي كفلها الإسلام للمرأة المسلمة في مجال الأسرة، مستنبطة من قوله عز وجل – والذي يعتبر هو الأصل والأساس في الحياة الزوجية – قوله تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[ النساء: 19]؛ فالمعاشرة بالمعروف هي عماد قيام البيوت، ودعامة بقائها، وسر قوتها. وفى تفسير هذه الآية يقول العلامة ابن كثير: "كان من أخلاقه -صلي الله عليه وسلم- أنه جميل المعاشرة، دائم البشر، يداعب أهله، ويتلطف بهم، ويسعهم نفقة، ويضاحك نساءه... ويجمع نساءه كل ليله في بيت التي يبيت عندها، فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان، ثم تنصرف كل واحدة إلى حجرتها، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد، يضع على كتفه الرداء، وينام بالإزار، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام: يؤانسهم بذلك".
ولو قلبت بصرك وبصيرتك في هذه الآية، وتطبيقاتها الواقعية في الحياة الزوجية لسيد الخلق نبينا محمد -صلي الله عليه وسلم-، لعلمت أن هذه الآية هي ملاك الحقوق المعنوية كلها وأساسها وأصلها، ويكفى أن الله -عز وجل- قد شبه المعاشرة والمعايشة للزوجة بنفس ما شبه ووصف به القيام على الوالدين، فقال الله -عز وجل- في حق الوالدين: (وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا)[لقمان: 15]، وقال في حق الزوجة: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ)[ النساء: 19]، وبالتالي سيكون الكلام عن الحقوق المعنوية للمرآة صوراً تطبيقية للمعاشرة بالمعروف.
الإسلام قرر مكانة المرآة وجعلها ملكة في بيت أبيها وزوجها وأبنائها، وكلما تقدم بها السن، كلما زادت مكانتها وترسخت كرامتها، في حين أن حضارة التسليع في الغرب تنظر للمرآة على أنها سلعة ذروة عطائها وقت شبابها وتفجر أنوثتها، وحين ينزوي الجمال ويذب الشباب، تصبح نسياً منسياً تعاني مرارة التجاهل والنسيان، وينتهي بها الحال إلى دار العجزة والمسنين.
فأي الفريقين أحق بالتكريم والإعلاء والنشر بين الناس!!
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم