المخدرات والمسكرات

محمد بن عبدالرحمن العريفي

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/الحكمة من تحريم الخبائث 2/مراحل تحريم الخمر 3/دلائل على عظمة تحريم الخمر 4/عقوبة شارب الخمر 5/من علامات الساعة الواردة في الخمر 6/من آثار شرب الخمر

اقتباس

إذا أراد بأهل البيت خيراً رزقهم الرفق ليستعينوا به مدة حياتهم، ووفقهم للين في تصرفاتهم فيما بينهم ومع الناس، وألهمهم المداراة التي هي ملاك الأمر.. وهذا من علامة محبة الله لهم؛ فالبيت الذي يكون فيه رفق وسهولة ويسر في التعامل يكون بيت سعادة، لا يود الإنسان أن يخرج منه، ويتمنى ويرقب متى يرجع إليه، والبيت الذي فيه...

الخطبة الأولى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نَحمدُهُ ونَستعينُهُ ونَستغفِرُهُ، ونعوذُ باللهِ تعالى من شُرورِ أنفُسِنا وسَيِّئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ لَه، ومن يُضْلِلْ فلا هادِيَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له جَلَّ عن الشبيهِ والـمَثيلِ والكُفْءِ والنظير، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ وصَفِيُّهُ وخليلُه وخيرَتُهُ من خلقِهِ وأمينُه على وحيهِ، فصلواتُ اللهِ وسلامُه عليه وعلى آلهِ الطيبين وأصحابهِ الغُرِّ المَيامين ما اتَّصَلَتْ عَينٌ بِنَظَر، ووَعَتْ أُذُنٌ بِخَبَر، وسلَّمَ تسليماً كثيراً.

 

أما بعد:

 

أيُّها الإخوةُ الكرام: لقد خلقَ اللهُ تعالى الخلائِقَ وكَرَّمَ بني آدَمَ فقال تعالى: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ)، وحَـمَّـلَهُ الأمانةَ التي أَبَتْ أنْ تحملَها السمواتُ والأرضُ والجبال؛ فقال في ذلك: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ)[الأحزاب:72]؛ فجعلَ الله -تعالى- الإنسانَ هو الـمُتَصَرِّفُ في هذهِ الأرضِ من زِراعةٍ وحِدادةٍ ونِجارةٍ وعِمارةٍ وغيرِها.

 

ولمزيدِ تكريمِ الله -تعالى- لهذا الإنسانِ حرَّمَ الله -تعالى- عليهِ أن يأكُلَ من الخبائِثِ والـمُستقذَرات، فحرَّم عليه أن يأكلَ الخنزيرَ، وأن يأكلَ الحشراتِ، أو يأكلَ الميتَةَ وأن يشربَ الدَّمَ أو أيَّ شيءٍ يَضُرُّه؛ كلُّهُ تَكرِمَةً لهذا الإنسان، ومن جُملة إكرامِ الله -تعالى- لهذا المخلوقِ أن حرمَ عليه أن يَتعاطى ما يُزيلُ عقلَه ويُذهِبُه.

 

وجعلَ الله -تعالى- في فِطرَةِ الإنسانِ الحرصَ على المحافَظَةِ على عقلِه وكرامَتِه؛ لذلكَ كانوا في زَمَنِ الجاهليةِ الـجَهلاءِ، يَعبدونَ الأصنامَ، ويَقعونَ في أنواعِ الفواحِشِ والرِّبا والمحرمات، إلّا أنَّ أقواماً من عُقلائِهم ووُجهائِهم يَبتعِدون عن القاذوراتِ والخبائِث، ومن أعظمِها: أنهم كانوا يبتعدون عن تعاطي الـمُسكرات وعن شُربِ الخمور.

 

وقد سُئِلَ أحدُ أهلِ الجاهلية: لمَ لا تَشربُ الخمرَ؟ فقال: إنِّي رأيتُ الرجُلَ إذا شَرِبَ الخمرَ واقَعَ أُختَهُ، واتَّهمَ أمَّه، فعلِمتُ أنَّ كمالَ العقلِ في تَركِها؛ يَعني: لأنَّه إذا شَرِبَها اغْتَصَبَ أختَه، واتَّـهَمَ أمَّه بالزِّنى فَنَسَبَ نَفسَهُ إلى غيرِ أبيه، فكيفَ يَسعى الإنسانُ العاقِلُ بيدهِ إلى أن يُصبحَ مَجنوناً.

 

وَاهْجُرِ الخَمْرَةَ إنْ كُنْتَ فَتًى *** كَيفَ يَسعَى بـِجُنونٍ مَنْ عَقَل

 

أيُّها المؤمنون: لما وَصَفَ الله -تعالى- نبيَّنا -صلى الله عليه وسلم- في الكُتُبِ السابقةِ قال -جلَّ وعلا-: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) ماذا يفعل؟ (يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ)[الأعراف:157]؛ يُحرِّمُ عليهم الخمرَ، والمسكِرات، وأكلَ الخنزيرِ وكلَّ خَبيثٍ ضارٍّ بالإنسان.

 

ولما بَعَثَ الله -تعالى- نبيَّنا -عليه الصلاة والسلام- كان العربُ في جاهليةٍ جهلاءَ، فبدأ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يَقرأُ ويَتلو عليهم ما نزلَ من الوَحي، وبدأتْ الأحكامُ من السماءِ تنزلُ؛ فبدأَ الله -تعالى- بالأهَمِّ: فحرَّمَ عليهم عبادَةَ الأصنام، وأنواعاً من المنكراتِ العظيمة.

 

ولما كانَ حُبُّ الخمرِ مُتَمكِّناً في نُفوسِهم؛ شَرَعَ سبحانهُ تَحريمَ الخمرِ على مراحل:

ففي المرحلةِ الأولى بَدَأ التحريمُ عن طريقِ التَّعريضِ لا التصريح: فبيَّنَ أنَّ في الخمرِ أثمٌ كبيرٌ، وفيها مَنافِعُ مادِّيةً، لكنَّ إثـمُها في الدينِ والعقلِ أعظمُ من المنفعَةِ الماديةِ الحاصِلَةِ لكم، فقال -سبحانه وتعالى-: (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا)[البقرة:219]. والمنافعُ ليست منافعَ صحيةً كما يَزعُمُ بعضُ الناسِ اليوم، إنَّما هي منافعُ ماليةً كان بعضُهم يَتَّجِرُ فيها فيكسبُ منها مالاً.

 

2- ثمَّ جاءَ الأمرُ الإلَهي بعدَمِ قُربِها وقتَ الصلاةِ وهيَ المرحلةُ الثانيةُ، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى)[النساء:43]؛ فكأنَّهُ نُهِيَ عن شُربِها بالكُلِّيةِ، فصارَ الذي يريدُ أن يشربَ الخمرَ لا يستطيعُ أن يشرَبها بعدَ الظهرِ؛ لأنَّهُ سيؤذِّنُ العصرَ بعد ساعات، ولا يشربُها بعد العصرِ؛ لأنهُ لن يُفيقَ قبلَ المغربِ، ولا يشربُها بعد المغربِ؛ لأنهُ ستحضُرُهُ صلاةُ العشاءِ فإذا صلى العشاءَ لم يَستطِعْ أن يشربَها؛ لأنهُ مُتعَبٌ يريدُ أن ينامَ، فإذا صلى الفجرَ لم يَستطِعْ أن يشربَها فهو يخرجُ إلى رَعيِ غَنَمِهِ، يخرجُ إلى حِراثةِ أرضهِ، يخرجُ إلى شأنِهِ، فصارَ الذي يشربُها لا يستطيعُ أن يشربَها أيَّ وقت.

 

3- ثمَّ أنزلَ الله -تعالى- التحريمَ القاطِعَ الذي أجمعَت الأمةُ بعدَه على تحريمِ الخمر، فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون * إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون)[المائدة:90-91].

 

وهو نداءٌ لأهلِ الإيمانِ -يا مَن تُطيعونَ رَبَّكم، يا مَن تُقِرُّون أنَّ اللهَ هو الإلَهُ الذي يأمُركم ويَنهاكم- هل في قلوبِكم من الإيمانِ ما يجعلُكم تطيعون، وتَتْـرُكون اللذةَ التي بها تتعلَّقون؟ هل في قلوبكم من الإيمانِ ما يجعلُ الـمُدمِنين منكم يَتركونَها طاعةً للهِ وتَعظيماً؟

 

لقد كان الصحابةُ -رضي الله عنهم- مُتعلقين بها؛ لأنهم كانوا في الجاهليةِ يشربون الخمرَ كما يشربونَ الماءَ واللبَنَ، وهيَ من جُملةِ مشروباتِهم، وبعضُهم ربما يشربُها منذُ أربعينَ سنة دونَ نكيرٍ فلما أنزلَ اللهُ الآياتِ بتحريمِ الخمرِ بادَروا مُباشَرَةً إلى تَركِها، دونَ تَرَدُّدٍ.

 

فقد كانَ الصحابةُ مجتمعين يوماً في بيتٍ يشربون الخمر؛ وهي لم تُحرَّمْ بعدُ، فجاءَهم رجلٌ من عندِ رسولِ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- وتلا عليهم آيةَ تحريمِ الخمر، يقولُ أنسٌ: "وأنا أنظرُ إليهم، فو اللهِ إنَّ بعضَهم إنَّ شَربَتَهُ في يدِهِ واللهِ ما رَفَعَها إلى فيه، بل سَكَبوها، وقالوا: انتَهَينا رَبُّنا، انتهَينا"(رواه البخاري ومسلم). لم يقولوا: انتظِرْ حتى نتأكَّدَ لعلَّ الآيةَ منسوخةً؛ لعلَّ الرجلَ ما حفظَ، أو حتى ننتهيَ من مجلِسِنا؛ لا واللهِ، فلما سمعوا قولَ الله: (فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُون) قالوا: انتَهَينا، ثمَّ قاموا إلى جِرارِ الخمرِ التي شَرَوها بـِحُرِّ أموالِهم، فسكبوها في الأسواق، ومَزَّقوا آنِيَتَها طاعةً، وإتِّباعاً لِرَبِّ العالمين؛ فأينَ عن هذا مُسلمٌ منذُ نَشأتِهِ وهو يَسمعُ: الخمرُ حرامٌ، الخمرُ حرامٌ، ثمَّ بعدَ ذلك يَشربُها أعوذُ بالله.

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: لقد قَرَنَ الله -تعالى- الخمرَ بعبادَةِ الأصنام (إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ) والنُّصُبُ هو الصنمُ الذي يَنصِبونَهُ فيَسجُدونَ لَه.

 

وبيَّنَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عِظَمَ تَحريمِها، وأكَّدَ ذلك بقولِهِ -عليه الصلاة والسلام-: "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ خَمْرٍ حَرَامٌ"(رواه مسلم).

 

بل إنَّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- تعاملَ معَ الخمرِ وشارِبِها تعاملاً شديداً لم يتعاملْهُ مع الزاني أو القاتلِ أو آكلِ الرِّبا؛ فقد لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فِي الخَمْرِ عَشَرَةً: "عَاصِرَهَا، وَمُعْتَصِرَهَا، وَشَارِبَهَا، وَحَامِلَهَا، وَالمَحْمُولَةُ إِلَيْهِ، وَسَاقِيَهَا، وَبَائِعَهَا، وَآكِلَ ثَمَنِهَا، وَالمُشْتَرِي لَهَا، وَالمُشْتَرَاةُ لَهُ"(رواه الترمذي وابن ماجه).

 

فقارِنْ هذا الحديثَ معَ الحديثِ الذي فيهِ لَعنُ المتعامِلين بالرِّبا، فقد "لَعَنَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- آكِلَ الرِّبَا، وَمُؤْكِلَهُ، وَكَاتِبَهُ، وَشَاهِدَيْهِ"(رواه مسلم)؛ فهُنا قد لعنَ أربعةَ أصنافٍ، لكنهُ لعنَ في الخمرِ أكثرَ من ضِعفِها أي عَشَرَةً؛ فلا يجوزُ شُربُها، ولا أن تَسقِيَها لِغَيرِك، ولا أن تَبيعَها لغيرِك، وحتى لو كانَ هذا المبتاعُ يشتريها لغيرِه فهو مَلعونٌ، ولا يجوزُ عَصرُها أي تَصنَعَها، ولا أن تَتَّفِقَ مع شخصٍ على صُنعِها حتى لو لم تَكُنْ تَشرَب، ولا أن تَحمِلَها لنَفسِك ولا لغَيرِك، ففاعلُ هذهِ الأشياءِ مُستَحِقٌّ لِلَّعْنِ.

 

فلو كنتَ صاحِبَ سيارةِ أجرةٍ، وركِبَ معكَ من يَحمِلُ الخمرَ قد اشتراها من مكانٍ فلا يجوزُ أن تَنقُلَه.

 

واللهِ ما ذُكِرَ ذلك في الربا ولا في الزنى، وتأمَّلْ بقلبِك هذه الأحاديثَ الرادِعَةَ عن شُربِ الخمر:

قال -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ شَرِبَ الخَمْرَ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا، حُرِمَهَا فِي الآخِرَةِ"(رواه البخاري ومسلم)، وقَالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ، إِنَّ عَلَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عَهْدًا لِمَنْ يَشْرَبُ الْمُسْكِرَ أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ طِينَةِ الْخَبَالِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا طِينَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عَرَقُ أَهْلِ النَّارِ" أَوْ "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"(رواه مسلم)، وقال النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَاقٌّ، وَلَا مُدْمِنُ خَمْرٍ" أخرجه أحمد والنسائي.

 

مَعَاشِرَ الـمُؤمِنين: بيـَّنَ النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- أنَّ الإدمانَ على شرب الخمر ينافي كمال الإيمان ؛ فقَالَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَا يَزْنِي الزَّانِي حِينَ يَزْنِي وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَسْرِقُ حِينَ يَسْرِقُ وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَلَا يَشْرَبُ الْخَمْرَ حِينَ يَشْرَبُهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ، وَالتَّوْبَةُ مَعْرُوضَةٌ بَعْدُ"(رواه البخاري ومسلم).

 

وقال عثمان -رضي الله عنه-: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ، فَإِنَّهَا وَاللَّهِ لَا يَجْتَمِعُ الْإِيمَانُ، وَإِدْمَانُ الْخَمْرِ إِلَّا لَيُوشِكُ أَنْ يُخْرِجَ أَحَدُهُمَا صَاحِبَهُ".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ وَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، وَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، فَشَرِبَ، فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ، تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، فَشَرِبَ، فَسَكِرَ، لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلَاةٌ أَرْبَعِينَ صَبَاحًا، فَإِنْ مَاتَ دَخَلَ النَّارَ، فَإِنْ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَإِنْ عَادَ، كَانَ حَقًّا عَلَى اللَّهِ، أَنْ يَسْقِيَهُ مِنْ رَدَغَةِ الْخَبَالِ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ وَمَا رَدَغَةُ الْخَبَالِ؟ قَالَ: "عُصَارَةُ أَهْلِ النَّارِ"(رواه أحمد وابن ماجه والترمذي).

 

أيُّها المسلمون: إنّ الخمرُ لم تكن مُحرَّمةً على أمتِنا فقط؛ بل حتى على الأمَمِ السابِقَةِ، وفي التوراةِ والإنجيلِ إلى اليومِ لا يزالُ هناكَ نُصوصٌ مما تَبَقَّى من القليلِ الذي لم يَلْحَقْهُ التحريفُ؛ فيهِ النَّصُّ على تَحريمِ الخمور.

 

ونَهى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- عن قليلِ الخمرِ وكثيرِه؛ فعن النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "أَنْهَاكُمْ عَنْ قَلِيلِ مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ"(رواه النسائي)، فحتى لو قال الواحدُ: أنا أشربُ قليلاً فقط، أو أخلِطُهُ مع كذا، وهذا لا يُسكِرُ ؛ فنقولُ: إنَّ مجردَ قطرة واحدة من خمرٍ فهي حرام، يقول عليٌّ -رضي الله عنه-: واللهِ لو سقطت قطرةٌ من خمرٍ في بئرٍ ما شربتُ منه، ولو طُمَّ هذا البئرُ، وبُنِيت عليه منارةٌ ما أذَّنتُ فيها ولا صَلَّيت. وقال عبد الله بن عمر: "لو دَخَلَتْ إصبَعي في كأسِ خمرٍ لقطعتُها، ولا عادت إلَيَّ".

 

وقَالَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَا أَسْكَرَ كَثِيرُهُ، فَقَلِيلُهُ حَرَامٌ " رواه أحمد وأصحاب السنن. وروى أحمد عن أم سلمة قالت: "نَهَى رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- عَنْ كُلِّ مُسْكِرٍ وَمُفْتِرٍ".

 

ولقد حرم النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- بيع الخمر فقال: وهو يَجهرُ بذلك في فتحِ مكةَ بين أصحابهِ قال: "إِنَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ حَرَّمَ بَيْعَ الخَمْرِ"(رواه البخاري ومسلم)، وقَالَ النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ الله -تعالى- حَرَّمَ الْخَمْرَ، فَمَنْ أَدْرَكَتْهُ هَذِهِ الْآيَةُ وَعِنْدَهُ مِنْهَا شَيْءٌ فَلَا يَشْرَبْ، وَلَا يَبِعْ"(رواه مسلم)؛ وكلُّ هذا تَعظيماً للتحريمِ ومعرفةً بخطرِهِ.

 

أيُّها الناس: إنَّ الجلوسُ في المكانِ الذي يُشرَبُ فيه الخمرُ حرامٌ، يقولُ -عليه الصلاة والسلام-: "مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَلَا يَجْلِسْ عَلَى مَائِدَةٍ يُدَارُ عَلَيْهَا الْخَمْرُ"(رواه الترمذي)؛ فهذا عمرُ بن عبد العزيز قد رُفِعَ إليه في يومٍ من الأيامِ مجموعةٌ، وجِدوا في مكانٍ ما يشربونَ الخمرَ، وجيءَ بهم وإذا من بَينِهم رجلٌ صائِمٌ، قال عمر: بهِ فابْدَأوا بالعُقوبة، قال: إني صائمٌ؛ أي: ما شَرِبْتُ، قال: ما الذي أقعَدَكَ معَهم، أما سمعتَ قولَ الله: (وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللّهِ يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ)[النساء:140].

 

ولقد جاءَ النهيُ عن استخدامِ الخمرِ حتى لو كانَ للعلاج؛ فقد روى مسلمٌ أنَّ رجلاً جاءَ إلى النبيِّ -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسولَ الله! إنِّي أصنعُ الدَّواءَ، وأضعُ فيه الخمرَ؟ فَقَالَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّهُ لَيْسَ بِدَوَاءٍ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ".

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: لقد ربَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الصحابةَ تربيةً عظيمةً؛ فزرعَ في نفوسهم مكارِمَ الأخلاقِ والبُعدَ عن الآثام؛ فهذا عبدُ الله بنُ حذافةَ -رضي الله عنه- لما أسرَهُ ملكُ الروم، ثمَّ سجَنَهُ في غُرفَةٍ، وعرضَ عليهِ ما تشتهيهِ الأنفُسُ لكي يَترُكَ دينَه، أو يَسجُدَ للصليبِ فقط، لكنه -رضي الله عنه- ثَبَتَ وأبى، فعذَّبوهُ وسجنوهُ ومَنعوا عنه الطعامَ والشرابَ أياماً؛ حتى بَرَزَتْ عظامُه، ثمَّ أدخلوا عليهِ الخمرَ، فلما علمَ أنَّها خمرٌ امتَنَعَ أن يَشرَبَها، فقيل له: إنَّ دينَك يُحِلُّ لكَ إذا وصلتَ إلى الضرورةِ أن تشربَها؟ قال: "نعم، لكني إذا زالَ عقلي سجدتُ لصليبِكم، وواقعتُ فاحشَتَكم، وأكلتُ خنزيرَكم، لا والله لا أُزيلُ عقلي".

 

وهذا عروةُ بنُ الزبيرِ لما أصابَتْهُ الآكِلَةُ في رِجلِه؛ فقيلَ له: سنقطعُها، لكن نُعطيكَ الخمرَ حتى لا تُحِسَّ بالألَمِ، قال: "والله لا أشربُها، ما شَرِبْتُها صحيحاً، أفأشربُها لما وقعتُ في البلاء! واللهِ لا أشربُها فيزولُ عقلي، فأتكلمُ بما يُحفَظُ علَيَّ بعد ذلك".

 

كانوا رجالاً عُقَلاءَ يعلمونَ أنَّه إذا زالَ العقلُ بهذا الخمرِ فلا تَستغرِبْ ما يقعُ بعد ذلك؛ ولذلكَ أجمعتْ الأمةُ على تحريمِ الخمر، وأنَّ صاحبَها يُجلدُ ويُعنف.

 

أيُّها المسلمون: إن من علاماتِ يومِ القيامة استحلال شرب الخمر وكثرة شُربها، وتسميتها بغير اسمها؛ فعن أنس بن مالك -رضي الله عنه-، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن من أشراط الساعة: أن يرفع العلم ويثبت الجهل، ويكثر شرب الخمر، ويظهر الزنا"(رواه البخاري)، وقَالَ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَكُونَنَّ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ، يَسْتَحِلُّونَ الحِرَ وَالحَرِيرَ، وَالخَمْرَ وَالمَعَازِفَ"(رواه البخاري)، وقال النَّبِيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "لَيَشْرَبَنَّ نَاسٌ مِنْ أُمَّتِي الْخَمْرَ يُسَمُّونَهَا بِغَيْرِ اسْمِهَا"(رواه أحمد وأبو داود)؛ سواءً أَسمَّاها بيرةً، أو مَشروباً روحياً، أو سماها بأيِّ اسمٍ فهيَ خمرٌ، فالعبرةُ ليست في الـمُسَمَّياتِ إنَّما العبرةُ في الحقيقةِ "كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ، وَكُلُّ مُسْكِرٍ حَرَامٌ"(رواه مسلم).

 

أسألُ اللهَ أن يُصلِحَ أحوالَنا وأن يُعيذَنا من الخمرِ، ومن شُربِها، وأسألُ الله -تعالى- أن يَحمِيَ أولادَنا وأحبابَنا وأصحابَنا وجميعَ المسلمين.

 

أقولُ ما تَسمعون، وأستغفِرُ اللهَ الجليلَ العظيمَ لي ولكم من كلِّ ذَنْبٍ، فاستغفِروهُ؛ إنَّهُ هو الغفورُ الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ على إحسانِهِ، والشُّكرُ لهُ على تَوفيقِهِ وامتنانِه، وأشهدُ أن لا إلهَ إلّا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تَعظيماً لشأنِه، وأشهدُ أنَّ مُحمداً عبدُهُ ورسولُهُ، الداعي إلى رِضوانِه، صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آلهِ وإخوانِهِ وخِلّانِه، ومن سارَ على نَهجِهِ، واقْتَفَى أَثَرَهُ إلى يومِ الدِّين.

 

أما بعد:

 

عباد الله: لقد سمَّى النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- الخمر بأمِّ الفواحِش، وأكبرِ الكبائِر؛ تَعظيماً لحُرمَتِها، وتحذيراً من شربها، فقد قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "الْخَمْرُ أُمُّ الْفَوَاحِشِ، وَأَكْبَرُ الْكَبَائِرِ، مَنْ شَرِبَهَا وَقَعَ عَلَى أُمِّهِ وَخَالَتِهِ وَعَمَّتِهِ"(رواه الطبراني)؛ فحينَ يَفقِدُ الإنسانُ عقلَه يَغدو كمِثلِ البهائِمِ في تَصَرُّفاتِها، بل أضَلَّ من ذلك، ولرُبَّما فعَلَ ما تَستحيِ من فِعلِهِ العَجماوات والبَهَم (أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُون)[الأعراف:179].

 

وعَنْ عُثْمَانَ -رضي الله عنه- قالَ: "اجْتَنِبُوا الْخَمْرَ فَإِنَّهَا أُمُّ الْخَبَائِثِ، إِنَّهُ كَانَ رَجُلٌ مِمَّنْ خَلَا قَبْلَكُمْ تَعَبَّدَ، فَعَلِقَتْهُ امْرَأَةٌ غَوِيَّةٌ، فَأَرْسَلَتْ إِلَيْهِ جَارِيَتَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: إِنَّا نَدْعُوكَ لِلشَّهَادَةِ، فَانْطَلَقَ مَعَ جَارِيَتِهَا فَطَفِقَتْ كُلَّمَا دَخَلَ بَابًا أَغْلَقَتْهُ دُونَهُ، حَتَّى أَفْضَى إِلَى امْرَأَةٍ وَضِيئَةٍ عِنْدَهَا غُلَامٌ وَبَاطِيَةُ خَمْرٍ، فَقَالَتْ: إِنِّي وَاللَّهِ مَا دَعَوْتُكَ لِلشَّهَادَةِ، وَلَكِنْ دَعَوْتُكَ لِتَقَعَ عَلَيَّ، أَوْ تَشْرَبَ مِنْ هَذِهِ الْخَمْرَةِ كَأْسًا، أَوْ تَقْتُلَ هَذَا الْغُلَامَ، قَالَ: فَاسْقِينِي مِنْ هَذَا الْخَمْرِ كَأْسًا، فَسَقَتْهُ كَأْسًا، قَالَ: زِيدُونِي فَلَمْ يَرِمْ حَتَّى وَقَعَ عَلَيْهَا، وَقَتَلَ النَّفْسَ"(رواه النسائي)؛ فَفَكَّرَ العابِدُ فرأى أنَّ أخَفَّها شُربَ الخمرِ، فلمَّا شَرِبَ الكأسَ الأولَ تَهاوَنَ، فَشرِبَ الكأسَ الثاني، ثم تَهاوَنَ وشربَ الكأسَ الثالث، فلما سَكِرَ وفَقَدَ عقلَهُ واقعَ المرأةَ وقتلَ الغلام.

 

أيُّها الأحبَّةُ الكرام: إنَّه ليُخشى -واللهِ- على شاربِ الخمرِ من سوءِ الخاتمةِ، قَالَ النَّبِيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ مَاتَ مُدْمِنَ خَمْرٍ لَقِيَ اللهَ كَعَابِدِ وَثَنٍ"(رواه أحمد).

 

ذكرَ ابنُ رجب، عن عبدالعزيز بن أبي رَوَّاد قال: حضرتُ رجلاً عندَ الموتِ يُلّقَّنُ الشهادَةَ قيل له: لا إلَهَ إلّا اللهُ، قال: وهو يصيحُ بأعلى صوتِه، لا يَستطيعُ أن يَنطِقَها، فلما أكثَروا عليه، قال: قد أكثَرتُم عَلَيَّ أنا كافِرٌ بها، يقولُ: ثم ماتَ، فسألتُ عن حالهِ وإذا هو مُدمِنُ خَمرٍ.

 

وروى القرطبي عن الربيع بن سبرة عن معبد الجهني وكان عابداً في البصرة يقول: حضرتُ رجلاً وهو يَحتضِر، وقد أرسَلَ إليَّ أولادُهُ، فقالوا: أبونا يَموتُ، تَعالَ احضُرْ عندَ أبينا ولَقِّنهُ الشهادةَ، يقول: وأنا أقولُ لهُ: قٌلْ: لا إلهَ إلّا الله، قال: فجعلَ يَلتَفِتُ إلى بعضِ أصحابهِ، ويقول: اشرَبْ ثمَّ اسقِني اشرَبْ ثمَّ اسقِني حتى مات.

 

اللهمَّ ألهمنا رشدنا وقنا شر أنفسنا، وأعنا على طاعتك واصرف عنا معصيتك، واحفظنا من بين أيدينا ومن خلفنا من كل سوء وشر يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهمَّ اغفِرْ لنا ولآبائِنا وأمهاتِنا، اللهمَّ تَجاوَزْ عنا يا حَيُّ يا قيومُ، اللهمَّ تُبْ على التائِبين، واغفِرْ ذُنوبَ المستغفرين يا ذا الجلالِ والإكرام، اللهمَّ أصلِحْ أحوالَ إخوانِنا في كُلِّ مكان، يا ذا الجلالِ والإكرام.

 

اللهمَّ صَلِّ على محمدٍ وعلى آلِ محمدٍ؛ كما صليتَ على إبراهيمَ وعلى آلِ إبراهيم، وبارِكْ على محمدٍ وعلى آلِ محمد؛ كما باركتَ على إبراهيمَ، وعلى آلِ إبراهيمَ؛ إنَّكَ حميدٌ مجيد.

 

(سُبحانَ رَبِّكَ رَبِّ العِزَّةِ عمَّا يَصِفون * وسلامٌ على المرسلين * والحمدُ للهِ رَبِّ العالمين)[الصافات:180-182].

المرفقات

المخدرات والمسكرات

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات