المحبون لله (2)

د. منصور الصقعوب

2022-10-04 - 1444/03/08
عناصر الخطبة
1/ مضار العشق والهوى 2/ المحبة الطبعية لا إثم فيها 3/ محبة التعظيم والإجلال لا تكون إلا لله 4/ فضل حب النبي وأصحابه 5/ المحبة في الله عبادة 6/ أمور وأعمال يحبها الله 7/ علامة حبّ الله كثرة ذكره 8/ محكّ الحب وميزان الإيمان.

اقتباس

وفي حياة المحبين يتجلى صدق محبتهم لله، ويظهر برهان شوقهم للقاء الله, وإن المرء وهو يُرَجِّي أن يكون من قومٍ صدقوا في محبة الله ينبغي عليه أن يتعاهد حبه، ويتفقد نفسه في مواطن الإيمان ومحكات الابتلاء والامتحان .فأولاً: أن المحبين لا تراهم إلا لله ذاكرين, وله شاكرين, وكيف يغفلون عن ذكره, وهو حبيبهم وينسون ذكره وهو ربهم .قال بعض السلف: علامة حبّ الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذِكره .وقال آخر: المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين.

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه،.. اللهم صلّ وسلم عليه وعلى آله وصحابته, ومن سار على نهجهم واتبع شرعته .

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله ..

 

معاشر المسلمين: يئن فئام من شبابنا من داء العشق, وتشتكي أعداد من فتياتنا من بلاء الإعجاب, وصار العشق والإعجاب حُمّى طال أثرها, واكتوى هؤلاء بنارها, حتى غدت ظاهرةً في مجتمعات الجنسين, يؤجج نارَها القنواتُ والإذاعاتُ, والمواقع والصفحات, التي انتهجت الإثارة للغرائز طريقاً ومسلكاً, ونِتاجاً لذلك الهوى, وتلك المحبة ذلّ؛ كلٌ لمحبوبه, وربما قدّم أمره ورضاه على رضا خالقه, وما وقع هذا إلا حينما نقص في القلب حب الله, الحبُ الحقيقي الكامل, فكان عُرضة لغيره .

وقال قائلهم -وقد عشق فما زال به الهمّ حتى حضره الموت ولم ينل مراده :–

حبك أشهى إلى فؤادي*** من رحمة الخالق الجليل

وأما الكُمَّل من الناس فهم الذين ليس في قلوبهم إلا حبُ الله, أو حبُ من يحبه الله من عباد الله، وقال أكملهم محبة وأرفعهم قدرًا، وهو محمد -عليه الصلاة والسلام- الذي امتلأ قلبه بمحبة ربه ومولاه "لو كنت متخذًا خليلاً لاتخذت أبا بكرٍ خليلاً، ولكن صاحبكم خليل الرحمن".

عباد الله: وإتماماً لما ذُكِرَ في الجمعة الماضية من الحديث عن المحبة, فمتقرر عند العلماء أن المحبة تتنوع صورها, وتتعدد مشاربها, فالمرء قد يحب الطعام إذا جاع, والماء إذا ظمئ, وتلك جبّلة وطبيعة فيه, وقد يحب للرحمة والإشفاق, كالوالد يحب أولاده, وقد يحب للأُنس والإِلف, كمحبة الأصحاب والإخوة, وكل هذه لا تستوجب التعظيم وليس فيها محذور, بل كان رسول الله يحب الحلواء والعسل, وكان يحب النساء والطيب .

أما محبة التعظيم والإجلال فهي التي ليست إلا لذي الجلال, وكلما كان العبدُ أتمَّ محبةً كان أكمل عبودية .

ولعمري: فلن ينال امرؤٌ كمال حلاوة الإيمان إلا بصدق محبته للديان, وفي الصحيح عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحبّ إليه مما سواهما....".

ويتبع ذلك: أن يحب المرءُ رسولَ الله, الذي أحبه الله وأدناه, وأكرمه واصطفاه, فبه عرفنا الدين, وعن طريقه واتباع هديه عبدنا رب العالمين, ولن يتم إيمانُ عبدٍ حتى يصدُقَ في محبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- .

فهل يلام القلب حين يُعمر بحبه عليه السلام؟! وهو الذي ما فتئ جاهداً في إنقاذ أمته من الضلال إلى النور, ومن الغواية إلى الهداية, يدعو لهم, ويرفق بهم, وينافح عنهم, ويشفع يوم القيامة لهم, طُرِدَ وشُرد, وأوذي واضطهد, فما تردد وما تراجع في الدعوة إلى الله, ليصل الإسلام إليَّ وإليك، فلماذا لا يُحَبُّ رسولُ الله؟ وهو القائل: "والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين".

ويتبع ذلك: أن يحب المرء أصحابَ رسول الله, أئمةَ الهدى, ومصابيحَ الدجى, والأنجم الزاهرة, والشموسَ الساطعة, قومٌ ضحّوا لدين الله, واختارهم الله لصحبة نبيه, فهم أصحابه وأحبابه, وخير الأمة من بعده, فمن أحبهم فبحبّ رسول الله أحبهم, ومن أبغضهم فببغضه أبغضهم, ولازم محبتهم الترضّي عنهم, والثناء عليهم, ومحبتهم, والإمساك عما شجر بينهم .

فأين هذا ممن يدعون أنهم يحبون الله ورسوله وآل بيته وهم يسبّون أصحابه, ويلعنونهم ويتبرءون منهم, ويكفّرونهم, وهم يدّعون الإسلام بعد ذلك, ألا قُبِّحَتْ ألسنٌ, وشاهت وجوهٌ تطعن في صحبه, وتبغضهم, وتزعم أنها توالي آل بيته .

عباد الله: ويتبع ذلك أيضاً: الحب في الله, بأن يحب المرءُ المؤمنينَ لله وفي الله, بل ذاك من أوثق عرى الإيمان, فمن أحب ربه أحب تبعاً لذلك كل من يحبه ربه من أشخاص وأعمال, فأَحِبّ أهل الإيمان بقدر ما عندهم من إيمان, وبُعدٍ عن العصيان.

وكم يخطئ البعضُ يوم أن يحبَّ أناساً من قرنائه، ويعتقد أن محبته لله, وهي في حقيقة الأمر محبةٌ لأجل مراد دنيوي, لأجل مال, أو حسن صورة, أو مؤانسة أو غيره, فإذا حصل أي خصام سقطت المحبة, وقد قال يحيى بن معاذ حين سُئِلَ عن الحب في الله ما حقيقته، فقال : "هو الذي لا يزيد بالبر ولا ينقص بالجفاء" .

فما دام الدين باقياً فالمحبة لا بد أن تبقى, ولو جفا صاحبها أو أحسن, فهل محبتنا لإخواننا بهذا المفهوم؟ وهل أخلصنا لله –تعالى- محبتنا للمؤمنين فجعلنا لله وفي الله؟

معاشر المسلمين: يا مَن يرجون محبة الله, قد آن لكم -وأنتم تطمحون لنَيل محبته- أن تعرفوا ما يحبه المولى, كي تُتَعاهدَ النفوس فيها علّها أن تنال محبة الله.

فدونك أعمالٌ يحبها ربك, قُدْ قلبك لها, وأْطِرْ نفسك عليها, واذكر وأنت يؤديها, حبَ ربك لها.

في الحديث أن رسول الله قال: "ثلاثة يحبهم الله وثلاثة يبغضهم الله" فقيل: من هم؟ فقال "رجل غزا في سبيل الله صابرا محتسبا فقاتل حتى قُتل, وأنتم تجدونه في كتاب الله "إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله ..." قلت: ومن؟ قال: "رجلٌ كان له جار سوء يؤذيه فصبر على أذاه حتى يكفيه الله إياه بحياة أو موت" قلت: ومن؟ قال: "رجل سافر مع قوم فارتحلوا حتى إذا كان من آخر الليل وقع عليهم النعاس فنزلوا فضربوا برءوسهم، ثم قام فتطهر وصلى رغبة لله ورغبة فيما عنده" .

يا محبُ لقد جاء في النصوص, أن الله يحب المحسنين, ويحب المتقين, ويحب الصابرين, ويحب المتوكلين, وأنه يحب الحياء والستر, وأنه يحب العبد التقي الغني الخفي, وأنه جميل يحب الجمال .

وصحت الأحاديث أنه يحب من العامل إذا عمل عملاً أن يحسنه وأن يتقنه, فأين أصحاب الوظائف وأرباب المهن, وذوي الحرف من هذه الصفة .

ربك يا محبُ رفيقٌ يحبُّ الرفق, فهل ارتسمنا الرفق منهج حياة لنا, مع أبنائنا, وزوجاتنا, وجيراننا, وطلابنا وعامة الناس؟

مولاك -يا راجي محبَتِه- يحبّ الحِلمَ والأناة, فما أجمل أن نقتدي بهذه الصفات!! لأن الله يحبها.

يا من تحاببتهم, وتجالستهم, وتزاورتم, إن كان ذلكم في الله فلِيَهْنِكُمْ حب الله لصنعكم, ففي الصحيح عن معاذ بن جبل أن رسول الله قال: "وجبت محبتي للمتحابين فيّ, والمتجالسين فيّ, والمتزاورين في, والمتباذلين في"، وفي الصحيح أن الله أرسل ملكاً لرجل زار أخًا له في الله لا لغرضٍ إلا أنه أحبه في الله، فقال الملك له: "إني رسول الله إليك بأن الله قد أحبك كما أحببته"، فهلا طبقنا هذا العمل, وكان تزاورنا وتجالسنا ومحبتنا لله سبحانه.

يا من جُعِلتْ حوائج الناس عندَهم, أو ما أتاكم الحديث عند الطبراني بسندٍ حسنه الألباني أن رسول الله قال: "أحب الناس إلى الله أنفعهم، وأحب الأعمال إلى الله سرور تدخله على مسلم.. "، فهلا سعينا لهذا الأمر؟!

وعند الطبراني أيضًا بسند صححه الألباني أن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- سُئل من أحب عباد الله إلى الله فقال: "أحسنهم خُلقاً"، فهلا جعلنا حسن الخلق لنا هدياً رجاء أن يحبنا الله .

يا من يحبون الله: في الصحيح أن المصطفى–صلى الله عليه وسلم- قال: "لا أحد أحبُ إليه المدحُ من الله"، وقال: "أما إن ربكم يحب الثناء"، فكم في قلوبنا من فاقة وحاجة للثناء على الله بعظيم فعاله, وكمال صفاته, وحسن أسمائه, وكمال جلاله, وإذا أردت أن يقر في قلبك محبة الواحد الأحد, فلتعمر مجالسك وأحاديثك مع أصحابك وأبنائك بالثناء على الله .

وإذا كان أقوامٌ لا يأنسون إلا بذكر الدنيا أو المال أو الرياضة أو النساء, فمن أحب الله, أُنسه بالثناء على مولاه, هناك يجد قلبه, فاللهم أذقنا لذة تلك العيشة, واعمر قلوبنا بروح المحبة, وأسعدنا بالطاعة .

 

أقول ما سمعتم ....

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده..

أما بعد: أيها المسلمون: وفي حياة المحبين يتجلى صدق محبتهم لله، ويظهر برهان شوقهم للقاء الله, وإن المرء وهو يُرَجِّي أن يكون من قومٍ صدقوا في محبة الله ينبغي عليه أن يتعاهد حبه، ويتفقد نفسه في مواطن الإيمان ومحكات الابتلاء والامتحان .

فأولاً: أن المحبين لا تراهم إلا لله ذاكرين, وله شاكرين, وكيف يغفلون عن ذكره, وهو حبيبهم وينسون ذكره وهو ربهم .

قال بعض السلف: علامة حبّ الله كثرة ذكره، فإنك لن تحب شيئاً إلا أكثرت ذِكره .
وقال آخر: المحب لله لا يغفل عن ذكر الله طرفة عين. 

وقال آخر: كان يقال: من علامة الحب لله دوام الذكر بالقلب واللسان .

وقلما وَلِعَ المرء بذِكر الله إلا أفاد منه حُبَّ الله, وقذف في قلبه محبة الله .

إن المحبين لله: يختمون يومهم بذكر الله, فإذا أخذ أحدهم مضجعه, وتفرغ من الشواغل, ذكر الله, فلم ينم إلا على ذكر الله .

وإذا استيقظوا من نومهم: هرعوا لذِكْر خالقهم ومولاهم, وقد قطعهم النوم عن ذكره, فلما رُدّتْ إليهم الروح سارعوا بذكره.

وعندما تحين الصلاة: فإنها محكّ الحب, وميزان الإيمان، ولا شيء أقرَّ لعين المحب, ولا ألذ لقلبه, ولا أنعم لعيشه منها, بل فيها سعادتُه, لأنه يلقى فيها الله, ولسان حاله ما قاله نبيه عليه السلام: "أرحنا بها يا بلال" .

قال ابن القيم: "فالصلاة قرة عيون المحبين، وسرور أرواحهم، ولذة قلوبهم، وبهجة نفوسهم، يحملون همّ الفراغ منها إذا دخلوا فيها, كما يحمل الفارغ البطال همّهَا حتى يقضيها بسرعة، فَلَهُمْ فيها شأْن, وللنقَّارين شأْن، يشكون إلى الله سوءَ صنيعهم بها إذا ائتموا بهم، كما يشكو الغافل المعرض تطويل إمامه، فسبحان من فاضل بين النفوس وفاوت بينها هذا التفاوت العظيم".

ثم قال: "فلا يزنُ العبد إيمانه ومحبته لله بمثل ميزان الصلاة، فإنها الميزان العادل، الذي وزنه غير عائل" .ا.هـ ( طريق الهجرتين 554).

إن المحبين: إذا تُليت عليهم الآيات اقشعرت جلودهم ولانت قلوبهم ودمعت عيونهم, وكيف لا وهم يسمعون كلام الله جل جلاله .

وإذا حلَّت الكرب ونزلت الشدائد ووقع الابتلاء، فإن المرء لا يذكر إلا أحب الأشياء إليه، ولا يهرب إلا إلى الله لأنه يعلم أن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم, ولسانُ حاله والبلايا تحلّ بداره بقدر ربه: "أحبُ الأمور إليّ أحبُها إلى الله"، فمن رضي وسلّم, ولربه ذكر, ولقدره اطمأن, فله الرضى, ممن بيده كل شيء وهو كاشف البلاء.

وإذا ما حضرت آجالهم ودنا رحيلهم لم يحزنوا على الدنيا, بل يفرحون للقاء ربهم, وصدق فيهم قول المصطفى–صلى الله عليه وسلم-: "من أحب لقاء الله أحب لقاءه..".

وبعد: فهذه بعض روائعِ المحبين وأحوالِ المشتاقين ونفثاتِ العارفين، فسل نفسك أين أنت منها؟  وأيقن يا مبارك أن غبطة الدنيا: أن يعيش المرء فيها وقد أحب الله, وأحبه الله, ورضي عنه وأرضاه.

ألا فانكسِرْ بين يدي الله وتضرعْ إليه, وسله أن يرزقك حبّه, وأن يجعلك من أوليائه, فمن أحب الله حقّاً استوى عنده الشدة والرخاء, والسراء والضراء؛ لأنه كله من الله, فهو في نهاره في التقلب في محابّ ربه, وفي ليلة في مناجاة ربه, فما ألذ تلك العيشة, وما أهنأ تلك الحياة, وما أطيب تلك الحال.

أسأل الله أن يعمر قلوبنا بحبه, وحبّ من يحبه, وأن يجعلنا من أوليائه, وأن يرزقنا النظر إلى وجهه .

 

 

 

المرفقات

لله (2)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات