المحبون لله (1)

د. منصور الصقعوب

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ في ظلال المحبة ونعيم المحبين 2/ عظم فضل رب العالمين على عباده 3/ تأملات في محبة الله تعالى 4/ هل نحن نحب الله حقًّا؟! 5/ أحوال المحبين وصفاتهم 6/ علامة صدق محبة الله تعالى 7/ آثار محبة الله على العبد في الدنيا والآخرة.

اقتباس

إذا نامت العيون, وهدأت الجفون, وسكن الليل, وخفتت الأصوات, قام المحبون له في دياجير الظلمات, في وقتٍ خلا كل حبيبٍ بحبيبه, فلم يكن لمن أحب الله هَمٌّ إلا القيامَ بين يدي الله.. وكيف لا تحب النفوس من هي به, وبقاؤها منه, وتدبيرها بيده, ورجوعها إليه, وخيره نازل إليها, وتقصيرها صاعد إليه. وكم هي حياةٌ وراحة, وأنس وسعادةٌ, يحس بها من أحب الله صادقاً, فلو كادته السماوات والأرض, وتجمعت عليه الهموم, وركبته المصائب والغموم, فأنى له أن يشقى أو يغتم, وقلبه لله وبالله.. وغاية مرام المحبين ومنتهى إراداتهم, أن يروا ربهم في الجنة, ويمتعوا أبصارهم بالنظر إلى وجهه الكريم, فهل رأيت أصدق من هؤلاء محبة لربهم؟!..

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله الملك العظيم العزيز الجبار, الخلق خلقه، والأمر أمره، والتدبير تدبيره, وهو الإله القوي القهار, يقلب الليل والنهار، وكل شيء عنده بمقدار.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة أدخرها ليوم القرار، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله النبي المختار، اللهم صل وسلم عليه وعلى آله وصحبه من المهاجرين والأنصار, وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد: فاتقوا الله عباد الله:

 

كلمةٌ ما عرف كثيرٌ من الناس حقيقتها، ومعنًى لاكته ألسن الكثير, فصرفوه لغير مراده, وبناء من دخله عاش الحياة الحقيقية والأنس القلبي ونعيم الدارين.

 

الحب والمحبة: روح الحياة, وطعم الوجود, ونور الفؤاد, حياة بلا حب حياة باهتة, المحبة نورٌ من فقده فهو في ظلام دامس وليل حالك.

 

المحبة إيثار المحبوب على كل مصحوب, وتقديمه في أي مرغوب.

المحبة نار في القلب تحرق ما سوى مرادِ المحبوب فلا يبقى إلا مراده ولا يُمتثلُ إلا أمره.

 

وهل هناك أحدٌ يُحَبّ لذاته إلا الله، وهل هناك أحد يُحبّ حُبّ الذُل والتعظيم والإجلال إلا ذي العزة والجلال.

 

ولماذا لا نُحِبُ الله؟! وهو المنعم المتفضل وحده سبحانه: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ) [النحل: 53]، والقلوب قد جُبلت على حب من أحسن إليها، وبغض من أساء إليها، وهل فوق إحسان الله إحسان، وهل على إنعامه مزيد إنعام؟

 

تأمل -أيها المبارك- في نفسك كم نعمة وُهبتها! ومن المنان نلتها! ولو قضيت عمرك في شكرها ما جزيته سبحانه حقها.. سمع وبصر، وأمن وإيمان، وعقل وصحة، ونعم ليس لها حصر، ولا لعدها منتهى، فمن أين لك كل هذا؟ أليس من الله؟!

 

قال ابن القيم: "ويكفي أن من بعض أنواع إحسانه نعمة النَّفَس التي لا تكاد تخطر ببال العبد، وله عليه في كل يوم وليلة فيه أربعة وعشرين ألف نفَس، وكل نفَس نعمة منه سبحانه.

 

فإذا كان أدنى نعمة عليه في كل يوم أربعةً وعشرين ألف نعمة, فما الظن بما فوق ذلك وأعظم منه؟! (وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا) [إبراهيم: 34]، هذا إلى ما يصرف عنه من المضرات وأنواعِ الأذى التي تقصده، ولعلها توازن النعم في الكثرة, والعبد لا شعور له بأكثرها أصلاً، والله –سبحانه- يكلؤه منها بالليل والنهار" (طريق الهجرتين: ص569).

 

عباد الله: وكيف لا تحب النفوس من هي به, وبقاؤها منه, وتدبيرها بيده, ورجوعها إليه, وخيره نازل إليها, وتقصيرها صاعد إليه.

 

وفي بعض الآثار: "يقول الله: أنا الجواد ومن أعظم مني جوداً وكرماً, أبيتُ أكلأ عبادي في مضاجعهم كأنهم لم يعصوني وهم يبارزوني بالعظيم" (رواه الديلمي).

 

يتحبب إلى عباده بالبر والإحسان, والفضل والإنعام، فمن عمل حسنة كتبها عشراً, إلى أضعاف كثيرة, ومن عمل سيئة كتبها واحدة, فإن تاب منها محاها، وأثبت حسنة مكانها, وإذا بلغت ذنوب أحدهم عنان السماء، ثم استغفره غفر له ولم يبالِ, فلله ما أرحمه! وما أحرى القلوب أن تمتلئ بحبه!!

 

شرع لهم الطاعات, والأعمال الصالحات, ليقدموها له قُربات, وهو الذي أمرهم بها, وأعطاهم إياها, ورتّب عليها جزاءها, فمنه السبب, ومنه الجزاء والأجر, ومنه التوفيق للعمل، ومنه العطاء أولاً وآخراً، فهل فوق هذا التحبب من الله لعباده من تحبب؟! وهل أحدٌ أحق منه بالحب؟!

 

أعطى عبده ماله, وقال: تقرب بهذا إليَّ أقبلْهُ منك, فالعبد له, والمال له, والثواب منه، فكيف لا يُحَبُّ من هذا شأنه؟ وكيف لا يستحي العبد أن يصرف شيئاً من محبته إلى غيره؟! ومن أولى بالحمد والثناء والمحبة منه؟! فسبحانه وبحمده لا إله إلا هو العزيز الحكيم.

 

وكلما تأمل العبد في آلاء ربه, ونظر في نعماء مولاه عليه, ازداد إجلالاً ومحبة ويقيناً بعجزه عن شكره سبحانه, فيورثه ذلك حبّاً لذي الجلال والإكرام, والفضل والإنعام.

 

وإذا كان باعث المحبة هنا هو النعم والإحسان, فإن كمال الله بأسمائه الحسنى, وصفاته العلى, باعث على محبته سبحانه, فلا يُحصِى أحدٌ من خلقه ثناءً عليه, بجميل صفاته, وعظيم إحسانه, وبديع أفعاله, بل هو كما أثنى على نفسه.

 

عباد الله: وقد آن لنا أن نتساءل بعد ذلك: هل نحب الله؟

إنه سؤال يجيب عليه الأطفالُ قبل الكبار, ومن منا لا يحب الله.

ولكن "لما كثر المدّعون للمحبة, طُولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى, فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخَليُّ حُرقة الشجيِّ, فتنوع المدّعون في الشهود فقيل: لا تقبل هذه الدعوى إلا ببينة (قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31]، فتأخر الخلق, وثبت من أحب الله حقاً, أتباع الحبيب –صلى الله عليه وسلم- في أفعاله وأقواله وأخلاقه" (المدارج 7/ 434). فهل أنت من هؤلاء؟!

 

إن الذي يحب الله حقّاً هو الذي يقدّم أمره على أمر غيره, وشرعه على هوى نفسه, فإذا جاء الأمر من الله سلّم, ولربه استسلم, ولطاعته سعى, ولمرضاته وجنته رجى.

 

إن الذي يحب الله حقاً, هو الذي يقتدي برسوله -عليه السلام- في سمته, وهديه, وخُلقه, وشرعه, ويطيع أمره.

 

إن الذي يحب الله حقاً: هو الذي إنْ دعته نفسه للذنوب يوماً تذكر أن من يحبه نهاه عن ذلك, فيربأ بنفسه أن يراه حيث نهاه, ويطلع عليه وهو يقارف عصيانه، ويستصحب قول الأول:

تَعْصِي الإِله وَأنْتَ تَزْعُمُ حُبَّهُ *** هذا محالٌ في القياس شَنِيعُ

لَوْ كانَ حُبُّكَ صَادِقاً لأَطَعْتَهُ *** إنَّ الْمُحِبَّ لِمَنْ يُحِبُّ مُطِيعُ

 

فإن عرضَ إلى أحدهم ذنب وتقصير, هرع إلى ربه, ولجأ بالتوبة إلى خالقه, متمثلاً قول الحق سبحانه: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ) [البقرة: 222].

 

يسمع المحبون المنادي للقاء الحبيب (حي على الفلاح) فيهجرون الفُرُش, ويطردون الكرى, ويمتطون الأقدام في وهج الشمس, أو لوعة البرد, وكأنما يمشون على الحرير, لأنهم حقاً يحبون الله.

 

ويتلى عليهم (وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ) [الرعد: 22]، فيتسابقون بالغالي والنفيس، ويبذلون من أعز ما يملكون، وأفضل ما يحبون ويعطون عطاء من لا يخشى الفقر؛ لأنهم فعلاً يحبون الله.

 

ويُرتَّل عليهم (وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ) [آل عمران: 97]، فيهجرون الأهل والأوطان، ويقطعون الفيافي ويتخطون الوديان, خماص البطون, ظمأى الأفئدة, ملبين مكبرين، ولنداء أبيهم مجيبين؛ لأنهم صدقاً يحبون الله.

 

يطرق أسماعهم (حي على الكفاح)، ويسمعون كلام ربهم (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) [المائدة: 54]، فيبذلون المهج, ويقدمون الأرواح, ويزهقون الأنفس, أو ينفقون الأموال إذا حيل بين ذلك والأبدان, وغاية مرامهم ومنتهى إراداتهم, أن يروا ربهم في الجنة, ويمتعوا أبصارهم بالنظر إلى وجهه الكريم, فهل رأيت أصدق من هؤلاء محبة لربهم؟!

 

إذا نامت العيون, وهدأت الجفون, وسكن الليل, وخفتت الأصوات, قام المحبون له في دياجير الظلمات, في وقتٍ خلا كل حبيبٍ بحبيبه, فلم يكن لمن أحب الله هَمٌّ إلا القيامَ بين يدي الله.

 

فيدخل أحدهم في الصلاة يرتل الآيات، ويُسبل العبرات, وتَهطُل الدمعات, ولهم في ليلهم أسعدَ من العروس مع عِرسه, وصاحبِ اللهو في لهوه؛ لأن هؤلاء مع الله, ومن كان أنسه بالله استوحش من كل ما سوى الله.

 

يقول قائلهم: "إني لأفرح بالليل حين يقبل, لما يلتذّ به عيشي وتقرُّ به عيني من مناجاة من أحب, وخلوتي بالتذلل بين يديه, واغتمّ للفجر إذا طلع, لما اشتغل به بالنهار عن ذلك".

 

ولعمري: ما حصلت لهم هذه المراتب بالأماني, ولا بالدعة والغفلة والتواني, بل بمواصلة الطاعة, والتعب والمصابرة, فصبروا على ذلك حتى كانت فيها راحتهم فلا شيء ألذ عندهم من طاعة الله.

 

رزقنا الله محبته وأدخلنا جنته، أقول ما سمعتم.....

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين:

أيها المسلمون: إذا كان من المقرر أن مَن أحب أحداً ناله من خيره وعطائه، فما الظن بعبدٍ أحب ربه ومولاه, أفليس جديراً بأن ينال الفضائل وتُجزل له كريم الخصال؟!

 

وليس الشأن أن تُحِب الله, فكل عبد يدّعي أنه يحب الله، بل الشأن كل الشأن أن يُحِبَكَ الله.

 

قال بعض السلف: ليس الشأن من حبي لك وأنا عبد فقير, إنما العجب من حبك لي وأنت ملك قدير. (تهذيب حلية الأولياء: 722).

 

وإذا تقرر هذا: فلتعلم أيها المحب لله أن مَن صَدقَ في محبة الله فقد نال الخير من أطرافِه, وسلم من كل آفة.

 

بمحبة الله للعبد ينال المرء غفران الذنوب وحياة القلوب, وفي التنزيل (يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [آل عمران: 31].

 

وكم هي حياةٌ وراحة, وأنس وسعادةٌ, يحس بها من أحب الله صادقاً, فلو كادته السماوات والأرض, وتجمعت عليه الهموم, وركبته المصائب والغموم, فأنى له أن يشقى أو يغتم, وقلبه لله وبالله.

 

إن من أحب الله صادقاً أحبه الله, ومن أحبه اللهُ أحبه عبادُ الله, فتوضع له المحبة في الأرض, والقبول بين أهل الأرض وفي الحديث الصحيح "إذا أحب الله عبداً نادى جبريل إني أحب فلانا فأحبه...".

 

من أحبه الله: وفَّقه للعمل الذي يرضاه, ثم ختم له بحسن الخاتمة، وفي الخبر "إذا أحب الله عبداً عسَّله" قيل: وما عسله؟ قال: "يفتح الله له عملاً صالحاً قبل موته، ثم يقبضه عليه".

 

من أحبه الله: أعانه على نفسه, وأجاب دعوته ومن المعاصي عصمه, ومن الشرور أعاذه, وفي الحديث القدسي: "فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به....".

 

أروح وقد ختمت على فؤادي *** بحبك أن يحل به سواكا

فلو أني استطعت غضضت طرفي*** فلم أبصر به حتى أراكا

إذا اشتبكت دموع في خدود *** تبين من بكى ممن تباكى

 

فلتهنئوا يا من أحبهم الله بهذه المزايا والفضائل, جاء رجل إلى رسول الله فقال متى الساعة؟ فقال: "ما أعددت لها"؟ قال: ما أعددت لها كثير عمل غير أني أحب الله ورسوله, فقال: "المرء مع من أحب".

 

وما أحرى المرء إلى أن يسعى لنيل محبة الله والتعرف على صفات, من يحبهم الله, والأسباب الجالبة لمحبة الله لعباده, وكيف يتعرف المرء على صدق محبته لله, وأحوال المحبين لله, وأنباء من صرفوا المحبة لغيره, وهذا ما سيكون الحديث عنه بإذن الله في الخطبة القادمة.

 

اللهم املأ قلوبنا بحبك وإجلالك...

 

 

المرفقات

المحبون لله (1).doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات