عناصر الخطبة
1/ الأسواق أبغض الأماكن إلى الله 2/ أسباب ذلك 3/ مشروعية التجارة بالأسواق 4/ انتشار ثقافة الاستهلاك 5/ تجاوز أهداف الأسواق للبيع والشراء 6/ ضوابط ارتياد الأسواق 7/ تجربة المجمعات النسائية المغلقةاقتباس
ومن الغيرة على النساء أن لا يتركن يزاحمن الرجال في الأسواق والمجمعات إلا للحاجة, وأن يؤطرن على ذلك, وقد خطب علي رضي الله عنه الرجالَ مستنكراً اختلاط النساء بالرجال فقال: بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج -أي الرجال الكفار من العجم- في الأسواق، ألا تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار ..
البقاع تختلف أحوالها, فثمة بقاع يحبها الله، وبقاع يبغضها, والحب والبغض هو لما يُعمل في هذه من الخير، وما قد يقع في هذه من العصيان والشرّ, والعبرة بما غلب. قال -صلى الله عليه وسلم-: "أحب البلاد إلى تعالى مساجدها، وأبغض البلاد إلى الله أسواقها".
الأسواق أبغض الأماكن إلى الله, وفيها ينصب الشيطان رايته, ومع هذا فلا غنى لأحد عن الأسواق, ففيها يبيع الإنسان ويبتاع, فيها يشتري ما يسد رمقه، ويكسو عريه؛ ولذا، فعلى ما في السوق إلا أنه ضرورة ملحة, والنبي -صلى الله عليه وسلم- كان يأتي الأسواق, والله قال عنه: (وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ) [الفرقان:7]، وتلك صفة البشر.
والناس منذ القدم على هذا المسلك, فأبو بكر -رضي الله عنه- وغيره من كبار الصحابة كانوا تجاراً يبيعون ويشترون, وعمر -رضي الله عنه- يعزو جهله ببعض الأمور لصفقه بالأسواق فيقول: "ألهاني عن ذلك الصفق في الأسواق", وابن عوف عُدّ من مناقبه قوله للأنصار: دلوني على سوق المدينة.
ولكن الأسواق مظنة العصيان, ولذا فهي موئل الحلف الكاذب, والنجش والتطفيف, ومكان الغش والتدليس, ومظنة الغرر والخداع, فلا غرو إذن أن تكون الموضع الذي ينصب الشيطان فيه رايته, ولا يعني هذا الرضا بذلك، بل الإصلاح مطلوب، وفي الأمة في أسواقها خير كبير.
والحديث عن الأسواق يحتاج لبسط وتوسع, فما أمر به الدين مرتادي الأسواق, وما نهي عنه المتبايعين, وما يذم من السمات ليتجنبه أهل المروؤات كثير في هذا الباب, وليس بنا اليوم ذكر هذا؛ لكننا نقصر الحديث عن قضية تجارية حادثة, وثقافة جديدة طارئة, انتشرت في المدن، وقُصدت من قبل الجلّ, إنها المجمعات التجارية, وإن شئت فقل الأسواق النسائية.
فلا تكاد تجد بلداً يخلو منها, مواضع تجتمع فيها المحالّ, ويؤمها النساء والرجال, فيها الشراء والاستجمام, تقصدها النساء المتسوقات, وفي ذات الوقت فهي هدف للعابثين والعابثات, تجازوت الأسواق حاجة الناس، وانفتحت معها أبواب من الاستهلاكات, وتكاثرت المصروفات, وتغيرت بعض الأخلاقيات.
في الصحف اليومية افتتاح لأسواق, وعروض وتصفيات وخصومات ومهرجانات, وكل هذا جعل الركض وراء الأسواق شديداً، والسعي حميماً, وتلك قضية تحتاج إلى عدة وقفات.
أولاً: ما من شك أن كثرة الأسواق تزيد في الشراء, والجميع يدرك أن معدل استهلاك الأسرة في الكماليات في هذه البلاد مرتفع مقارنة بغيره, وتظل قضية تعدد الأسواق من أسباب ذلك, فينتج من ذلك شراء أمور كمالية, أو أمور لا حاجة لها, ويظل الولي يكتوي من أثر الديون، وتراكم المصاريف.
وقد أظهرت التقارير والدراسات أن كثيراً من المقتنيات التي تأتي على مدخول الأسرة المالي يمكن أن يستغنى عنها, وجاءت هذه الأسواق والمجمعات التي جمعت غلاء السعر وجذب المشتري بتعدد العرض لتحصّ ما بقي من مدّخر, ولئن كان البعض يجد القدرة على البذل والشراء إلا أن البعض قد تحُول قلةُ دخله دون ذلك؛ لكن إرادة النساء مجاراة بعضهن ربما أثقلت كاهل ولي الأسرة بما هو فوق طاقته.
ولذا فجميلٌ بالأب أن يضبط ميزانيته, ويقدم الأهم على المــــُهم، والحاجات على الكماليات, وليس كل ما يُشتَهى يُشترى؛ وجميل أيضاً أن يربى الأولاد من ذكور وإناث وتربى المرأة أنه ليس كل شيء يقدر عليه, وأن للولي قدرةً مالية لا ينبغي تجاوزها, وعنده مستقبل يهيئ له ولابد لجميع أفراد البيت تحمل تبعته, ولا غضاضة أن يعرف الأولاد والمرأة ذلك, لتُمدَّ الأرجل -كما قيل- على قدر اللحاف.
ثانياً: وإذا كان الأصل أن السوق لا يؤتى إلا للحاجة, لا سيما في هذه الأزمان التي اعترى الأسواق ما اعتراها؛ فإن الإشكال الذي قد يظهر أثره على المدى البعيد هو أن يكون السوق متنزهَ العائلة, فتأتي إليه الأسرة بأطفالها وكبارها وصغارها, وفي السوق ما يحبه الصغار من ملاعب ومآكل, فينشؤون على غشيان الأسواق وإلفها, وتلقى الأسرة بفتياتها وأطفالها بل وعجائزها في الأسواق والمجمعات, وتلك قضية لا تخدم الولي والبيت لا في اقتصاده ولا في أخلاقياته.
ولماذا يقحم النساء أنفسهن في كل مكان للتسوق؟ ففي محلات الخضار, والأسواق الغذائية, ومواد البناء, بل وحتى معارض السيارات والملابس الرجالية أحياناً تجد بعض النساء, وهذا يرجع إما إلى أن الرجل لا يحسن الاختيار لنفسه, أو إلى أننا جعلنا السوق نزهة, وهنا يكمن الإشكال, وحينها يأتي السؤال: أوليس أجدر بالولي أن يجعل الأسواق المبغوضة إلى الله تؤتى عند الحاجة فحسب, ويأتيها من احتاجها, وذاك أحسن -ولا شك- من أن يكون مأوى الأسرة أبغض البقع إلى الله.
وثالث الأمور أيها الكرام:أن هذه المجمعات والأسواق غدت هدفاً للعابثين والعابثات, وترى هناك صوراً من الجرأة من بعض الشباب, وصوراً من التساهل من قِبَل بعض الأولياء, وتوسعاً من قبل بعض النساء, فهناك ترى فتياتٍ أتين بلا ولي, وألقين في الأسواق بلا حسيب, قد أخذن كامل زينتهن الظاهرة, الحجاب ركيك، والصوت عالٍ، فغدوْن عرضة للعابثين.
ففي ظل غفلةٍ من الأولياء قد ترى هناك مَن ربما تأتي وليس قصدها الفساد، لكنها تُبلى من قبل بعض الشباب, وفي تلك الأسواق، وفي ليالي المواسم والإجازات، ترى هناك جموعاً من الشباب وكأن الأسواق أصبحت للرجال, وفي المقابل ترى أعداداً من النساء قد بدت منهن العيون، وما حول العيون, وتبدو من بعضهن مظاهر التقصير، وربما لا قصداً في الفساد، وإنما من باب التساهل في بعض الأحيان, فيجد المعاكس بغيته في تلك الأماكن.
والأمر أسوأ حين يكون الشر يأتي من قبل بعض الباعة الشباب الذين يجدون الفرصة سانحة للعبث هناك, لست أتكلم عن أسواقٍ بعيدة، أو أمور خيالية، بل أتكلم عن جلّ الأسواق، بما فيها الأسواق عندنا؛ وعند رجال الحسبة الخبر اليقين, وكل هذا الواقع يوجب على المجتمع الوعي التام، وتحمل المسؤولية.
فالولي مطالب بأن يكون له الدور تجاه المرأة قبل خروجها وفي أثنائه، مطالب بمراقبة المرأة عند خروجها، وكيفية حجابها مسئولية الرجل، وكون الولي مع المرأة في السوق إن أمكن يقطع طمع كل طامع؛ وهو في ذات الوقت أحسن للمرأة من تعريضها لمحادثة الرجال الأجانب عنها, وأشغالنا وأعمالنا ليست بأهم من الحفاظ على نسائنا, لا سيما والذهاب لتلك الأماكن للقيام بحق الأهل أمرٌ يؤجر الولي عليه إذا احتسبه.
ومن الغيرة على النساء أن لا يتركن يزاحمن الرجال في الأسواق والمجمعات إلا للحاجة, وأن يؤطرن على ذلك, وقد خطب علي -رضي الله عنه- الرجالَ مستنكراً اختلاط النساء بالرجال فقال: بلغني أن نساءكم يزاحمن العلوج -أي الرجال الكفار من العجم- في الأسواق، ألا تغارون؟ إنه لا خير فيمن لا يغار. رواه أحمد.
والمرأة الذاهبة للسوق والمجمعات عليها دور أيضاً, فحرصها بأن تتجنب أيّ تعطر وأي زينة في اللباس والحجاب, مطلَبٌ من آكَد المطالب؛ لئلا تفتن غيرها, تحدُّثها مع البائع يكون بقدر الحاجة, عدم الخضوع بالقول, الحذر من إعطاء أي أحدٍ رقم جوالها لأجل التواصل فيما يجدّ من البضائع, الالتزام بالحجاب الكامل طيلة البقاء في الأسواق، لا سيما عند رؤية البضاعة.
وتجربة ما يُشتَرى من لباس وحذاء ونحوه قضية حساسة تحتاج إلى انتباه لئلا يبدو شيء من البدن عند ذلك, وأماكن التجربة للمشترى التي وجدت في بعض هذه المجمعات لا ينبغي اللجوء لها عند عدم الاضطرار, خفض الصوت عند الاتصال بالهاتف, وليس من الحياء إطلاق الضحكات عند تحدثها بالجوال, أو سيرها مع بعض صاحباتها, وذاك يجرِّئُ عليها العابثين, الحزم في وجه كل عابث ومتساهل يتكلم معها بلا حاجة.
وعند الارتياب فرجال الهيئة متواجدون في تلك الأماكن, فلا تترد المرأة بإخبارهم بكل ما استنكرت, ثمة منكرات لا يقدر على إنكارها إلا النساء، فلا تترد المرأة في إنكار منكر تراه، وسكوت النساء يجريء على شيوع المنكرات.
وينبغي القول هنا بأن الخوف ليس على المرأة فحسب، بل إن الخوف في بعض الأحيان يكون منها حين تتعرض بنفسها وبكلامها مع الباعة وغيرهم في الأسواق, وغالب الانحرافات يبدأ من الأسواق, فعلى المرأة الحذر من الزلل والانزلاق, ومن أن تخرج بدينها وعفافها وحيائها وترجع وقد سقط الحياء، وثُلم الدين، ودُنس العفاف.
وأهل الخير والمصلحون عليهم دور كبير تجاه مثل هذه الأماكن, فلئن شرفت بلادنا -رعاها الله- بجهاز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فإن المتفق عليه أن رجال الحسبة لن يقوموا بالدور بأكمله، لقلّة العدد، وتكاثر الأسواق والمرتادين, وهنا تأتي حاجة تلك الأماكن إلى الشباب المصلح المحتسب الذي يؤم تلك الأماكن مقتطعاً من وقته زمناً يحتسب فيه الأجر ليأمر بالمعروف بالرفق والحكمة والقول اللين, بالدعوة إلى الله، وتذكير الغافل والغافلة.
ولو لم يكن إلا أن رؤية أهل الخير في تلك الأماكن يرُدّ منكرات ويردع بعض العابثين هناك لكفى, ولئن كان لجهاز الهيئة من الصلاحيات ما ليس لغيره, فإن المطلوب من المحتسب لا المجابهة ولا الإغلاظ في القول، بل الدعوة بالحسنى.
كم هو مهم أن يخصِّص المحتسب من وقته زمناً ولو قل يغشى فيه الأسواق مناصحاً مصلحاً, وإن لم يكن هذا فلا أقل من أن نكون عوناً لكل مصلح ومحتسب نشد من أزره في زمن كثر التطاوُل على الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر, ولَعَمْري فلهم بعد الله صمام أمان للمجتمع! وتوشك الهلكة أن تحل لولا شرور درئت بجهودهم, فبارك الله في الجهود, وردَّ عنا شر كلٍّ. قلت ما سمعتم.
الخطبة الثانية:
معشر الكرام: تأتي قضية الأسواق النسائية المغلقة الخالصة قضية ينبغي طرحها, ويؤمل في أهل الأموال العناية بها, ففيها جو آمن يتهيأ للمرأة فيه الشراء بلا حرج, والتسوق بطمأنينة, وأمن من المضايقة, ونوجد بذلك عدداً ليس بالقليل من الوظائف النسائية لمن احتجن لذلك, ولئن كان لهذه المدينة قصب السبق في إنشاء السوق النسائي المغلق قبل سنوات؛ فإن ثمة مدناً أخرى تبنَّتْ ذلك، وآتت التجربة أكلها.
وهنا يأتي السؤال: ألا يمكن أن يكون هناك سوق نسائي خالص توجد فيه كل ما تريده المرأة؟ وهذه أمنية كثير من النساء، بل وكثير من الرجال أيضاً، وهنيئاً لمن كان من أهل المبادرة فربح الأجر والمال معاً بإذن الله.
وبعد: أيها الفضلاء: فتلك لفتة إلى هذا الموضوع الذي يستحق أكثر من ذلك, والله أسأل أن يحفظ نساء المسلمين وشبابهم، وأن يهدي كل ضالٍّ.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم