اللَّيث بن سعد (فقيه مصر وإمامها)

شريف عبدالعزيز - عضو الفريق العلمي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: شخصيات تاريخية

اقتباس

وعن أبي الوليد عبد الملك بن يحيى بن بكير قال: سمعتُ أبي يقول: ما رأيتُ أحدا ً أكملَ من الليث بن سعد؛ كان فقيه البدن, عربيَّ اللسان, يحسن القرآن والنحو, ويحفظ الشعر والحديث, وحَسَنُ المذاكرة...... ومازال يذكر خصالاً جميلة, ويعقد بيده, حتى عدَّ عشرة: لم أرَ مثله.

 

 

 

 

اسمه ومولده وصفته

 

اسمه: ليثُ بن سعد بن عبدالرحمن الفهميُّ أبو الحارث المصري، مولى عبد الرحمن بن خالد بن مسافر, وقيل: مولى ابن ثابت بن ظاعن جد عبدالرحمن بن خالد بن مسافر, وأهلُ بيته يقولون: نحن من الفرس من أهل أصبهان؛ قال أبو سعيد بن يونس: وليس لما قالوه من ذلك عندنا صحة.

 

وروي عن الليث أنه قال مثلَ ذلك, والمشهور أنه فهميٌّ, وفهمُ من قيس عيلان.

 

مولده: ولد بقرقشندة قرية على نحو أربعة فراسخ من مصر, في سنة أربع وتسعين, وقيل: ثلاث وتسعين. ذكره سعيد بن أبي مريم, والأول أصحُّ؛ لأن يحيى يقول: سمعت الليث يقول: وُلدت في شعبان سنة أربع. قال الليث: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة.

 

صفته: عن عمرو بن محمد الحيريُّ: سمعت محمد بن معاوية يقول, وسليمان بن حرب إلى جنبه: خرج الليث بن سعد يوما ً, فقوَّموا ثيابه, ودابته, وخاتمه, وما عليه ثمانية عشر ألف درهم إلى عشرين ألفا ً. فقال سليمان: لكن خرج علينا شعبة يوماً, فقوَّموا حماره, وسرجه, ولجامه ثمانية عشر درهماً إلى عشرين درهماً.

 

ثناء العلماء عليه

 

عن شرحبيل بن جميل بن يزيد مولى شرحبيل بن حسنة قال: أدركت الناس أيام هشام, وكان الليث بن سعد حدثَ السن, وكان بمصر عبيدُ الله بن جعفر, وجعفر بن ربيعة, والحارث بن يزيد, ويزيد بن أبي حبيب, وابن هبيرة, وغيرهم من أهل مصر, ومن يقدم علينا من فقهاء المدينة, وإنَّهم ليعرفون للَّيث فضله, وورعه, وحسنَ إسلامه, على حداثة سنه.

 

وقال ابن بكير: ورأيتُ مَن رأيتُ فلم أر مثل الليث.

 

وعن أبي الوليد عبدالملك بن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: ما رأيتُ أحدا ً أكمل من الليث بن سعد؛ كان فقيه البدن, عربيَّ اللسان, يحسن القرآن والنحو, ويحفظ الشعر والحديث, وحسن المذاكرة...... ومازال يذكر خصالا ً جميلة, ويعقد بيده, حتى عدَّ عشرة لم أر مثله.

 

وعن هارون بن سعيد قال: سمعتُ ابن وهب يقول: كلُّ ما كان في كتب مالك, "وأخبرني من أرضى من أهل العلم": فهو الليث بن سعد.

 

وعن الربيع بن سليمان، قال: قال ابن وهب: لولا مالكٌ والليث لضلَّ الناس.

وقال الفضل بن زياد: قال أحمد: ليثُ كثيرُ العلم, صحيحُ الحديث .

 

وعن أحمد بن سعد الزُّهريِّ، قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول: الليثُ ثقةٌ ثبت.

 

وعن عثمان الدَّارميُّ: سمعت يحيى بن معين يقول: الليثُ أحبُّ إليَّ من يحيى بن أيوب, ويحيى ثقة, قلت: فكيف حديثُه عن نافع فقال: صالح ثقة.

وعن أحمد بن عبدالرحمن بن وهب سمعت الشافعيَّ يقول: الليث أفقه من مالك, إلا أنَّ أصحابه لم يقوموا به, وقال محمد بن سعد: وكان ثقةً, كثيرَ الحديث, صحيحه, وكان قد اشتغل بالفتوى في زمانه بمصر, وكان سريَّاً من الرجال, نبيلاً, سخيَّاً له ضيافة.

 

وعن عبدالله بن أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: أصحُّ الناس حديثاً عن سعيد المقبُري: ليث بن سعد؛ يفصِّل ما روى عن أبي هريرة, وما روى عن أبيه عن أبي هريرة.

 

وقال عليٌّ بن المديني: اللَّيث بن سعد ثبت.

 

وقال العجليُّ: مصريٌّ فهميٌّ ثقة.

 

حدثني شعيب بن الليث, عن أبيه قال: لما ودعتُ أبا جعفر ببيت المقدس قال: أعجبني ما  رأيتُ من شدة عقلك, والحمد لله الذي جعل في رعيتي مثلَك. قال شعيب: كان أبي يقول: لا تخبروا بهذا ما دمت حيا ً.

 

قال قتيبة: كان الليثُ أكبر من ابن لَهيعة بثلاث سنين, وإذا نظرت تقول: ذا ابن, وذا أب, يعني ابن لهيعة الأب.

 

قال أبو نعيم: ومنهم السَّريُّ السَّخيُّ المليُّ الوفيُّ لعلمه عقول, ولماله بذول, أبو الحارث الليث بن سعد, كان يعلم الأحكام مليَّا ً, ويبذل الأموال سخيَّا ً.

 

بالجملة كان الليث من أئمة أتباع التابعين, من أقران مالك, وسفيان, والأوزاعي, حفظ الله عز وجل بهم الإسلام, وارتفعت بهم أعلام للسنة, ونُكست أعلام البدع, فرحم الله الجميع.

 

سخاؤه وكرمه

 

عن حرملة بن يحيى قال: سمعت ابن وهب يقول: كتب مالك إلى الليث: إني أريد أن أدخل ابنتي على زوجها, فأُحِبُّ أن تبعث لي بشيءٍ من عصفر, قال: ابن وهب: فبعث إليه بثلاثين جملاً عصفر, فصبغ منه لابنته, وباع منه بخمسمائة دينار.

 

عن أسد بن موسى قال: كان عبدالله بن عليٍّ يطلب بني أمية فيقتلهم, فلما دخلتُ مصر دخلتُها في هيئة رثة, فدخلت على الليث بن سعد, فلما فرغتُ من مجلسه خرجت, فتبعني خادمٌ له في دهليزه, فقال: اجلس حتى أخرج إليك, فجلست, فلما خرج إليَّ وأنا وحدي, دفع إلي صرة فيها مائة دينار, فقال: يقول لك مولاي: أصلح بهذه النفقة بعض أمرك, ولمَّ من شعثك, وكان في حوزتي هيمانٌ فيه مائة ألف دينار, فأخرجتُ الهيمان, فقلت: أنا عنها في غنى؛ استأذن لي على الشيخ, فاستأذن لي, فدخلتُ, فأخبرته بنسبي, واعتذرت إليه من ردها, وأخبرته بما مضى. فقال: هذه صلةٌ, وليست بصدقة. فقلت: أكره أن أُعوِّد نفسي عادة, وأنا في غنى. فقال: ادفعها إلى بعض أصحاب الحديث, ممن تراه مستحقا ً لها, فلم يزل بي حتى أخذتُها, ففرقتها على جماعة.

 

وعن يحيى بن بكير قال: سمعت أبي يقول: وصل الليث بن سعد ثلاثةَ أنفس بثلاثة آلاف دينار؛ واحترقت دارُ ابن لَهيعة, فبعث إليه بألف دينار, وحجَّ, فأهدى إليه مالك بن أنس رطبا ً على طبق, فردَّ إليه في الطبق ألفَ دينار, وقال: لا تسمع بهذا يا ابني؛ فتهون عليه.

 

وقال قتيبة: كان الليث يركب في جميع الصَّلوات الى الجامع, ويتصدَّق كلَّ يوم على ثلاثمائة مسكين.

 

وعن عبدالله بن صالح قال: صحبت الليث عشرين سنةً لا يتغدَّى, ولا يتعشى إلا مع الناس, وكان لا يأكلُ إلا بلحم, إلا أن يمرض.

 

قال قتيبة: وجاءت امرأة إلى الليث فقالت: يا أبا الحارث, إنَّ لي ابنا ً عليلاً واشتهى عسلاً. فقال: يا غلام, اعطها مرطا ً من عسل, والمرط عشرون ومائة رطل.

 

أحمد بن عثمان النسائيُّ: سمعت قتيبة, سمعت شعيباً يقول: يستغلُّ أبي في السنة ما بين عشرين ألف دينار إلى خمسة وعشرين ألفا ً, تاتي عليه السنةُ وعليه دين.

 

كان دخل الليث بن سعد في كل سنةٍ ثمانين ألف دينار, ما أوجب الله عليه زكاة درهم قط.

 

اتِّباعه للسنة 

 

عن حرملة بن يحيى قال: سمعتُ الشافعيَّ يقول: الليثُ بن سعد أتبعُ للأثر من مالك بن أنس.

 

وعن عثمان بن صالح قال: كان أهلُ مصر ينتقَّصون عثمان, حتى نشأ فيهم الليث بن سعد؛ فحدَّثهم بفضائل عثمان؛ فكفُّوا عن ذلك, وكان أهلُ حمص ينتقَّصون عليا ً, حتى نشأ فيهم إسماعيلُ بن عياش؛ فحدَّثهم بفضائله؛ فكفُّوا عن ذلك.

 

عن سعيد بن أبي مريم: سمعتُ ليث بن سعد يقول: بلغت الثمانين وما نازعت صاحب هوىً قط.

 

قال الذهبي: كانت الأهواء والبدع خاملةً في زمن الليث, ومالك, والأوزاعي, والسننُ ظاهرة عزيزة؛ فأما في زمن أحمد بن حنبل, وإسحاق, وأبي عبيد, فظهرت البدعة ,وامتُحن أئمةُ الأثر, ورفع أهلُ الأهواء رؤوسهم بدخول الدولة معهم, فاحتاج العلماء إلى مجادلتهم بالكتاب والسنة ثم كثروا بعد ذلك, واحتجَّ عليهم العلماء أيضا بالعقول, فطال الجدال, واشتدَّ النزاع, وتولَّدت الشبه, نسأل الله العافية.

 

وعن الوليد بن مسلم أنه قال: سألتُ مالكا ً, والثوريَّ, والليث, والأوزاعيَّ عن الأخبار التي في الصفات, فقالوا: أمِرَّها كما جاءت.

 

أخبرنا الوليد بن مسلم, قال: سألتُ مالكا ً, والثوري, والليث, والأوزاعي عن الأخبار التي في الصفات. فقالوا أمِرُّوها كما جاءت.

 

وقال أبو عبيد: ما أدركنا أحدا ً يُفسر هذه الأحاديث, ونحن لا نُفسرها.

 

قال الذهبيُّ : قد صنف أبوعبيد كتاب ( غريب الحديث ) وما تعرض لأخبار الصفات الإلهية بتأويل أبدا ً, ولا فسر منها شيئا ً. وقد أخبرنا بأنَّه ما لحق أحدا ً يفسرها, فلو كان والله تفسيرُها سائغا ً, أو حتما ً, لأوشك أن يكون اهتمامُهم بذلك فوق اهتمامهم بأحاديث الفروع والآداب. فلما لم يتعرضوا لها بتأويل, وأقرُّوها على ما وردت عليه, عُلم أن ذلكم هو الحق الذي لا حيدة عنه.

 

عرض ولاية مصر على الليث

 

عن أبي بكير: قال الليث: قال لي أبو جعفر: تلي لي مصرَ ؟ قلت: لا يا أمير المؤمنين؛ إني أضعفُ عن ذلك؛ إني رجلٌ من الموالي. فقال: ما بك ضعفٌ, ولكن ضعُفت نيَّتُك في العمل عن ذلك لي.

 

وعن يحيى بن بكير قال: قال الليث: قال لي المنصور: تلي لي مصر؟ فاستعفيتُ, قال: أما إذا أبيتَ, فدُلَّني على رجل أُقَلِّدُه مصر. قلت: عثمانُ بن الحكم الجذاميّ, رجل له صلاح وله عشيرة. قال: فبلغ عثمانَ ذلك؛ فعاهد الله لا يُكلم الليثَ.

 

قال الذهبيُّ: كان الليث فقيه مصر, ومحدثها, ومحتشمها, ورئيسها, ومن يفتخر بوجوده الإقليم, بحيث إنَّ متولي مصر, وقاضيها, وناظرها مِن تحت أوامره, ويرجعون إلى رأيه ومشورته, ولقد أراده المنصور أن ينوبَ له على الإقليم, فاستعفى من ذلك.

 

سمعت أشهب بن عبدالعزيز يقول: كان الليث له كلَّ يوم أربعةُ مجالس يجلس فيها: أما أولها, فيجلس لنائب السلطان في نوائبه وحوائجه, وكان الليث يغشاه السلطان, فإذا أنكر من القاضي أمرا ً, أو من السلطان, كتب إلى أمير المؤمنين, فيأتيه العزل, ويجلس لأصحاب الحديث, وكان يقول: نجِّحوا أصحاب الحوانيت, فإنَّ قلوبهم معلقة بأسواقهم. ويجلس للمسائل, يغشاه الناس, فيسألونه, ويجلس لحوائج الناس, لا يسأله أحد فيرده, كبرت حاجته أو صغرت. وكان يطعم الناس في الشتاء الهرائس بعسل النحل وسمن البقر, وفي الصيف سويق اللوز في السكر. 

 

درر من أقواله

 

عن الليث قال: بلغت الثمانين, وما نازعتُ صاحبَ هوىً قط.

 

وعن يحيى بن بكير قال: أخبرني من سمع الليث يقول: كتبتُ من علم ابن شهاب علما ً كثيرا ً, وطلبت ركوب البريد إلى الرصافة, فخفتُ أن لا يكون ذلك لله؛ فتركتُه, ودخلتُ على نافع فسألني, فقلت: أنا بصريٌّ, فقال: ممَّن ؟ قلت: من قيس ؟ قال: ابن كم ؟ قلت: ابن عشرين سنة. قال: أمَّا لحيتك فلحية ابن أربعين.

 

وعن حفص بن سلمة قال: تكلم الليث بن سعد في مسألة؛ فقال له رجل: يا أبا الحارث, في كتابك غيرُ هذا. قال: في كتاب – أو في كتبنا – ما إذا مرَّ هذَّبناه بعقولنا وألسنتنا.

 

وعن عبدالله بن صالح قال: سمعت الليث بن سعد يقول: لما قدمتُ على هارون الرشيد, قال لي: يا ليثُ, ما صلاحُ بلدكم ؟ قلت: يا أمير المؤمنين, صلاح بلدنا بإجراء النيل, وإصلاح أميرها, ومِن رأسِ العين يأتي الكدر, فإذا صفا رأس العين صفت السَّواقي, فقال: صدقتَ يا أبا الحارث.

 

وفاته

 

قال يحيى بن بكير وسعيد بن أبي مريم: ومات الليثُ للنصف من شعبان سنة خمس وسبعين ومائة.

 

قال يحيى: يومَ الجمعة, وصلَّى عليه موسى بن عيسى.

 

قال خالد بن عبدالسلام الصدفي: شهدتُ جنازة الليث بن سعد مع والدي, فما رأيت جنازة قط أعظم منها؛ رأيت الناسَ كلهم عليهم الحزن, وهم يُعزِّي بعضُهم بعضا ً, ويبكون, فقلت: يا أبتِ, كأنَّ كلَّ واحد من الناس صاحبُ الجنازة ! فقال: يا بُنيَّ, لا ترى مثله أبدا ً.

 

 

-------------------------------

المراجع والمصادر

 

  • سير أعلام النبلاء.
  • صفة الصفوة.
  • الطبقات.
  • تذكرة الحفاظ.
  • طبقات الحفاظ.
  • حلية الأولياء.
  • تهذيب الأسماء والصفات.
  • البداية والنهاية.
  • تهذيب الكمال.
  • شذرات الذهب.
  • وفيات الأعيان.

 

 

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات