عناصر الخطبة
1/عندما تضيق الحياة يحل لطف الله بخلقه 2/بعض الشواهد والمظاهر الدالة على لطف الله بخلقهاقتباس
يمتحن أولياءه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يحبون. فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام؟ وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظلُ العبدُ حزينا من جهله...
الخطبة الأولى:
الحمد لله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر إنه غفور شكور، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إليه تصير الأمور، وأشهد أن نبينا محمد عبده ورسوله صلى الله وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليما مزيدا..
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المؤمنون-: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطلاق: 4].
إذا عزّ أمرُ فاستعن أنت بالذي *** قديرُ على تيسيرِ كلِ عسيرِ
إذا ضاقت المعيشةُ على فئامٍ من الناسِ، وحلّ الهمُّ على آخرين، واشتدتِ المسغبةُ على البهائمِ والدوابِ، وغلبَ البخلُ والجشعُ والطمعُ والتقتيرُ من أهلِ الأرضِ، فتحَ اللطيفُ الخبيرُ خزائنَ جودهِ، فعمَّ بلطفهِ البرَ والفاجر، وشملَ برحمتهِ وعطائهِ: (أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا)[الفرقان: 49].
إذا اشتملت على البؤسِ القلوب *** وضاقَ بما به الصدر الرحيب
ولم نر لانكشاف الضر وجها *** ولا أغنى بحيلته الأريب
أتاك على قنوط منك غوث *** يمن به اللطيف المستجيب
(اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ) برٌّ بليغ البر بعباده، رفيق بهم يفيض عليهم من فنون ألطافه، وصنوف آلائه ما لا تبلغه الأفهام، يعلم دقائق المصالح وغوامضها، وما دق منها ولطف، ثم يسلك في إيصالها إلى المستصلح ما تقتضيه مشيئته وحكمته.
فكمْ للهِ منْ تدبيرِ أمرٍ *** طوتهُ عنِ المشاهدةِ الغيوبُ
وكمْ في الغيبِ منْ تيسيرِ عسرٍ *** ومنْ تفريجِ نائبةٍ تنوبُ
ومنْ كرمٍ ومنْ لطفٍ خفيٍّ *** ومنْ فرجٍ تزولُ بهِ الكروبُ
كريمٌ منعمٌ برٌّ لطيفٌ *** جميلُ السترِ للداعي مجيبُ
قِيلَ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ -رضي الله عنه-: حَدِّثْنَا مِنْ شَأْنِ الْعُسْرَةِ، قَالَ: خَرَجْنَا إِلَى تَبُوكَ فِي قَيْظٍ شَدِيدٍ، فَنَزَلْنَا مَنْزِلًا، أَصَابَنَا فِيهِ عَطَشٌ، حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّ رِقَابَنَا سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنْ كَانَ الرَّجُلُ لَيَذْهَبُ يَلْتَمِسُ الْمَاءَ، فَلَا يَرْجِعُ حَتَّى نَظُنَّ أَنَّ رَقَبَتَهُ سَتَنْقَطِعُ، حَتَّى إِنَّ الرَّجُلَ لَيَنْحَرُ بَعِيرَهُ فَيَعْصِرُ فَرْثَهُ فَيَشْرَبُهُ وَيَجْعَلُ مَا بَقِيَ عَلَى كَبِدِهِ، فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ قَدْ عَوَّدَكَ اللَّهُ فِي الدُّعَاءِ خَيْرًا، فَادْعُ لَنَا؟ فَقَالَ: "أَتُحِبُّ ذَلِكَ؟" قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَرَفَعَ يَدَيْه -صلى الله عليه وسلم- فَلَمْ يُرْجِعْهُمَا حَتَّى أَظَلَّتْ سَحَابَةٌ، فَسَكَبَتْ، فَمَلَأُوا مَا مَعَهُمْ، ثُمَّ ذَهَبْنَا نَنْظُرُ، فَلَمْ نَجِدْهَا جَاوَزَتِ الْعَسْكَرَ"(أخرجه ابن حبان في صحيحه).
(اللهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ)؛ أَيْ رَفِيقٌ بِهِمْ يُوصِلُ إِلَيْهِمُ الْخَيْرَ وَالرِّزْقَ، بِمُنْتَهَى الْعِنَايَةِ وَالرِّفْقِ، فلَا يَتْرُكُ أَحَدًا بِلَا رِزْقٍ: (وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأرْضِ إِلا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا)[هود: 6ٍ]، وَفَضَّلَ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ جَرْيًا عَلَى مَشِيئَتِهِ: (وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرزْقِ)[النحل: 71].
وَمِنْ أَجْلَى مَظَاهِرِ اللُّطْفِ: اللُّطْفُ عِنْدَ الِاضْطِرَار يُري عزته ثم يُبدي لطفه، أُلقي يوسف في الجب، ثم امتحن بامرأة العزيز، ثم رمي في السجن، فلطف الله به فأتاه الله الملك ومكنه في الأرض فقال لأبويه: (وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 100].
وهكذا عندما تضيق الحال، ويشتد الكرب من تسلط الأعداء، أو مرض يفتت الأعضاء يأتي اللُطْفُ من البر الرحيم: (وَكَذَلِكَ نُنجِي الْمُؤْمِنِينَ)[الأنبياء: 88]، (ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ)[ص: 42]، فيمتحن أولياءه بما يكرهونه ليُنيلهم ما يحبون.
فكم لله من لطف وكرم لا تدركه الأفهام، ولا تتصوره الأوهام؟ وكم استشرف العبد على مطلوب من مطالب الدنيا المحبوبة فيصرفه الله عنها ويصرفها عنه رحمةً به لئلا تضره في دينه، فيظلُ العبدُ حزينا من جهله وعدم معرفته بربه، ولو علم ما دخر له في الغيب وأريد إصلاحه لحمد الله وشكره على ذلك، فإن الله بعباده رؤوف رحيم، لطيف بأوليائه.
ثم يختم الله آية لطفه بقوله: (وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ)[الشورى: 19] إشارةً إلى أن لطفه مقرونٌ بقهره.
فسبحانَ منْ تعنو الوجوهُ لوجههِ *** ويلقاهُ رهنَ الذلِّ منْ هوَ جبارُ
ومنْ كلِّ شيءٍ خاضعٌ تحتَ قهرهِ *** تصرفهُ في الطوعِ والقهرِ أقدارُ
عظيمٌ يهونُ الأعظمونَ لعزهِ *** شديدُ القوى كافٍ لذي القهرِ قهارُ
لطيفٌ بلطفِ الصنعِ فضلنا على *** خلائقَ لا تحصى وذلكَ إيثارُ
تسبحُ ذراتُ الوجودِ بحمدهِ *** ويسجدُ بالتعظيمِ نجمٌ وأشجارُ
ويبكي غمامُ الغيثِ طوعاً لأمرهِ *** فتضحكُ مما يفعلُ الغيثُ أزهارُ
وينشقُّ وجهُ الأرضِ عنْ معشبِ الثرى َ *** وتجري ولا يجري سوى َ الله أنهارُ
تباركَ ربُّ الملكِ والملكوتِ منْ *** عجائبَ يرويهنَّ بدوٌ وحضارُ
سبحان ربي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ مُلكًا ومِلْكًا، قد أحاط بهم قدرةً وعلمًا، فهو الْغَنِيُّ عن كل شيء، المفتقر إليه كل شيء، المحمود بنعمته قبل ثناء من في السموات والأرض عليه، المستحقُ للحمدِ -جل جلاله-: (أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى)[طه: 50].
قضى وقَدَّرَ -سبحانه-: أَنْ لَا يَخْلُوَ عُسْرٌ مِنْ مُخَالَطَةِ يُسْرٍ وَأَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَهَلَكَ النَّاسُ: (وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ)[النحل: 61].
وفي الغيبِ للعبدِ الضعيفِ لطائفٌ *** بها جفتِ الأقلامُ وانطوتِ الصحفُ
أستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.
الخطبة الثانية:
الحمدلله على إحسانه والشكر له على توفيقه وامتنانه وصلى الله على عبده ورسوله الداعي على رضوانه وعلى اله وأصحابه وأعوانه.
أما بعد: (اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ) يلطف بهم فلا يعاجلهم بالعقوبة ليتوبوا، أعطاهم فوق الكفاية، وكلَّفهم دون الطاقة: (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا)[الطلاق: 7]، وأما الكافر فأقل لطفه به أنه لا يعاجله في الدنيا ولا يعذبه فوق ما يستحق في الأخرى.
من لطف الله بالمستضعفين: أنه "يُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إذا أخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ".
من لطفه بعباده: توفيق الطاعات، وتسهيل العبادات، وتيسير الموافقات: "اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ".
ومن لطيفِ لُطفِ اللهِ بعبدهِ: أن يأجره على أعمال لم يعملها: "فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، وَإِنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً".
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ" يكتب للمريض والمسافر مثل ما كان يعمل في الصحة والإقامة من الحسنات: "إِذَا مَرِضَ العَبْدُ أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا".
من لطفه سبحانه: إبهام العاقبة لئلا يتكلوا أو ييأسوا: (وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَدًا)[لقمان: 34].
من لطفه سبحانه بالعبد: إخفاء أجله عليه لئلا يستوحش إن كان قد دنا أجله: (لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى)[طـه: 15].
"اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ"، ومِن لطفه سبحانه: تسهيله الأرزاق، وتيسير الارتفاق: (وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لَّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الجاثية: 13].
ومن لطفه: أنه يُري عبده عزته في انتقامه وكمال اقتداره، ثم يظهر لطفه بعد أن أشرف العبد على الهلاك، فكم يسوق إلى عبده الخير، ويدفع عنه الشر بطرق لطيفة خفية.
وَمَنْ لُطْفُهُ مَا لَسْتُ أَبْلُغُ كُنْهَهُ *** وَلَا حَدُّهُ الْأَجْزَاءُ مِنْ عَدَدِ الْقَطْرِ
وَمَنْ هُوَ رَبَّانِي وَغَذَّى بِلُطْفِهِ *** وَجَلَّلَنِي بِاللُّطْفِ وَالْمَنِّ وَالسِّتْرِ
وأَنْعَشَنِي مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ وَحَيْرَةٍ *** وَفَهَّمَنِي مِنْ بَعْدِ أَنْ كُنْتُ لَا أَدْرِي
(إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاء إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ)[يوسف: 100].
اللهم كن بنا لطيفا رحيما، اللهم اللطف بنا وبالمسلمين في قضائك وقدرك...
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد...
اللهم آمنا في دورنا، وأصلح ولاة أمورنا....
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم