الكلمة وقيمة الكلام

الخضر سالم بن حليس اليافعي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ نعمة الكلام والبيان 2/ قيمة الكلمة ودورها في حياة البشر 3/ فضيلة حفظ اللسان 4/ ضوابط الكلام المنطوق والمكتوب 5/ فارق كبير بين كلام يشقي ويضر وكلام يشفي ويسر 6/ وجوب التثبت قبل نقل الكلام 7/ ليس كل ما يُسمع يُقال

اقتباس

الكلمة هي عنوان العقلِ، وترجمَان النفس، وبرهان الفؤادِ، الكلمةُ لها مكانتُها، بل لها أثرُها وخطرُها، بل إنَّ دين الإسلام الذي جاء به محمّدٌ قام على الكلمةِ وأُسِّس عليها، وبكلمةِ الحقّ الصادقة النزيهة تُبنَى العقول، وتُشاد الأوطان، وهي عِماد التربية، إن صلَحت الكلمة صلَح المجتمع كلُّه.. الكلمةُ تُفرِح وتُحزِن، وتجمَع وتفرِّق، وتبني وتهدِم، وتُضحك وتُبكي، كلمةٌ تنشرح بها الصدور، وأخرى تنقبِض لها النفوس، بالكلمة تكون التربية والتعليم، وتنتشِر الدعوة والفضيلة ..

 

 

 

 

الحمد لله..

في صبيحة يوم منور بأنوار النبوة معطر بأنفاس محمد صلى الله عليه وسلم خرج صلى الله عليه وسلم تصافحه أسارير الصباح وتعانقه خيوط النور الأولى خرج على سفر، وإذا بمعاذ بن جبل رضي الله عنه يصحبه في سفره هذا، فأدركه وهو منه قريب فاغتنم فرصة قربه منه ليوجه له بعض الأسئلة.

فقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ, أَخْبِرْنِي بِعَمَلٍ يُدْخِلُنِي الْجَنَّةَ، وَيُبَاعِدُنِي مِنَ النَّارِ، قَالَ: «سَأَلْتَ عَنْ عَظِيمٍ، وَإِنَّهُ لَيَسِيرٌ عَلَى مَنْ يَسَّرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ، تَعْبُدُ اللَّهَ وَلا تُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا، وَتُقِيمُ الصَّلاةَ، وَتُؤْتِي الزَّكَاةَ، وَتَصُومُ رَمَضَانَ، وَتَحُجُّ الْبَيْتَ». ثُمَّ قَالَ: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى أَبْوَابِ الْجَنَّةِ؟ الصَّوْمُ جُنَّةٌ، وَالصَّدَقَةُ تُطْفِئُ الْخَطِيئَةَ، وَصَلاةُ الرَّجُلِ فِي جَوْفِ اللَّيْلِ». ثُمَّ قَرَأَ: تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ. ثُمَّ قَالَ: «أَلا أَدُلُّكَ عَلَى رَأْسِ الأَمْرِ وَعَمُودِهِ وَذِرْوَةِ سَنَامِهِ»؟. قُلْتُ: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «رَأْسُ الأَمْرِ الإِسْلامُ، وَعَمُودُهُ الصَّلاةُ، وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ». ثُمَّ قَالَ: «أَلا أُخْبِرُكَ بِمِلاكِ ذَلِكَ كُلِّهِ»؟ قُلْتُ: بَلَى، قَالَ: فَأَخَذَ بِلِسَانِهِ. فَقَالَ: «كُفَّ عَلَيْكَ هَذَا». فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَإِنَّا لَمُؤَاخِذُونَ بِمَا نَتَكَلَّمُ بِهِ؟ قَالَ: «ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ يَا مُعَاذُ، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ , أَوْ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ، يَوْمَ الْقِيَامَةِ , إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ».

خصّ الله الإنسان أنّه وحدَه المخلوق الناطق، الإنسان ينفرِد بالنطق، ويتميّز بصوتِ الكلمة، والكلمة هي لَبوس المعنى وقالَبُه، والإنسان هو المخلوق الفريد القادِر على التعبير عمّا بداخله من عواطفَ وانفعالاتٍ وأشجان ومقاصدَ ورغبات وإرادات، يعبِّر عنها بالقولِ وبالكتابة، باللّسان وبالقلم وبالمشاعر: (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) [البلد:8-10].

ليس من المبالغة إذا قيل: إنَّ الحياة البشرية بناؤها على الكلمةِ، (وَعَلَّمَ آدَمَ الأَسْمَاءَ كُلَّهَا)[البقرة:31]، (الرَّحْمَنُ عَلَّمَ الْقُرْآنَ خَلَقَ الإِنسَانَ عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرحمن:1-4]، وآدمُ تلقى من ربِّه كلمات فتاب عليه، وابتَلى إبراهيمَ ربّه بكلمات فأتمهنّ، (وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا) [النساء:164]، وعيسى عليه السلام رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروحٌ منه، ومحمّد أوتي جوامعَ الكَلِم واختُصِر له الكلام اختصارًا.

من أجلِ هذا كلِّه فإنَّ الكلمة هي عنوان العقلِ وترجمَان النفس وبرهان الفؤادِ، فالكلمةُ لها مكانتُها، بل لها أثرُها وخطرُها. بل إنَّ دين الإسلام الذي جاء به محمّدٌ قام على الكلمةِ وأسِّس عليها، (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)[العلق:1-5]، الإسلام استَقبَلَ الكلِمةَ من السماء بأمانة، وأرسَلها إلى الناس بالحقّ.

أيّها المسلمون: بكلمةِ الحقّ الصادقة النزيهة تُبنى العقول وتُشاد الأوطان، وهي عِماد التربية، إن صلَحت الكلمة صلَح المجتمع كلُّه، والصدقُ يهدي إلى البرّ، وللكلمةِ قوّةُ السيف في البناء والتغييرِ والإصلاح، والعاقل من الناس لا يتكلّم إلا لحقٍّ يبيِّنه أو باطلٍ يَدحَضه أو علمٍ ينشره أو خيرٍ يذكره أو فضلٍ يشكره، وتركُ الفضول من كمالِ العقول. بكلمة الحقِّ يظهر البيانُ وتوصَف الأشياء، والكلمةُ تنبِئ عن الضمير وتفصِل في القضاء وتشفَع في الحوائج وتعِظ عندَ القبيح. (لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].

الكلمةُ تفرِح وتحزِن، وتجمَع وتفرِّق، وتبني وتهدِم، وتُضحك وتُبكي. كلمةٌ تنشرح بها الصدور، وأخرى تنقبِض لها النفوس.

بالكلمة تكون التربية والتعليم، وتنتشِر الدعوة والفضيلة، ولقد كان من دعاء موسى الكليم عليه السلام: (وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي) [طه:27، 28].

ومن اتَّقى الله ولزم القولَ السديد أصلح الله عملَه وغفر ذنبَه، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ) [الأحزاب:70، 71].

وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه المتَّفق عليه عن نبيِّكم محمّد أنه قال: «إنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفع الله بها درجاته، وإنّ العبد ليتكلَّم بالكلمة من سخَط الله لا يلقي لها بالاً يهوي بها في جهنّم»، و«المسلِم من سلِم المسلمون من لسانه ويدِه»، و«من يضمَن ما بين لحيَيه وما بين رِجلَيه أضمَن له الجنة».

الصِّدقُ يهدِي إلى البرّ، والكذِب يهدِي إلى الفجور، والكلِمةُ مسؤوليّة، والكلامُ بناءٌ أو تدمِير، ومَن قلّ صدقُه كثُر خطؤه، وأهلُ الكلامِ وحملةُ الأقلام ورِجالُ الإعلام هم ممن يسنُّون سُننًا حسَنةً وسننًا سيّئة، هم شركاءُ في الأجرِ حين الإحسان، وحمَّالو أوزارٍ حين الإساءةِ إلى يوم القيامَة.

في هذا الأيام كثر الكلام وانتشر القيل والقال فمن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت. ولنتثبت مما نقول حتى لا نلقي بالكلام على عواهنه ونلقي بالتهم على الآخرين فنقع فيما حرم الله.

يقول الله عز وجل: (وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً) [الإسراء:36] أي لا تقل ما ليس لك به علم، لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم، الإنسان إذا قفا ما ليس له به علم، قال ما لا يعلم وأفتى بما لا يعلم، وقال الزور وشهد الزور، وافترى، وظلم، وكذب، وكل هذا مما ليس له به علم. ولهذا قال قتادة: "لا تقل سمعت ولم تسمع، ولا تقل رأيت ولم تر، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله".

وعن عمرو بن قيس رضي الله عنه أنه قال: "يقال للأذن يوم القيامة: هل سمعتِ؟ ويقال للعين يوم القيامة هل رأيتِ؟ ويقال للفؤاد يوم القيامة مثل ذلك...!"

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6] وقرأ حمزة والكسائي (فتثبتوا) والتثبت والتبين هما بمعنى واحد، أمر من الله عز وجل الإنسان أن يتبين. أي يطلب البيان ويتثبت أي لا يتكلم إلا بأمر ثابت واضح لا إشكال فيه، (أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بجهالة فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ) [الحجرات:6] فربما إنسان بلغه عن أخ مسلم خبر فقال به، وأصبح يتكلم في المجالس يقول: فلان فعل كذا، وفعل كذا، وفعل كذا. بعد فترة تبين لهذا المتحدث أن ما كان يقوله عن فلان غير صحيح فهنا هو نفسه أصبح من النادمين، لأنه عرف أنه وقع في عرض أخيه المسلم، واستطال في عرضه بغير حق، وهو أمر لا يمكن تداركه، ولذلك يقول القائل:

يموت الفتى من عثرة بلسانه *** وليس يموت المرء من عثرة الرِّجل
فعثرته بالقول تودي برأسه *** وعثرته بالرجل تبرا على مهل

التّثبُّت في الأمور كلها دليلٌ على حسن الرّأي وقوة العقل، فمن تحقق وعلم كيف يسمع وكيف ينقل، وكيف يعمل، فهو الحازم المصيب، ومن كان غير ذلك، فمآله النّدامة والحسرة.

التّثبُّت دليلٌ على الإخلاص وحسن المقصد، إذ من قصدُه التّعبير أو في قلبه غلٌّ وحسدٌ يفرح بما يسمعه، فيذيعه وينشره دون بحث عن صحةِ وقوعه وثبوته عن قائله.

أما الصّادق في عمله فكما قيل: "المؤمن يطلب معاذير إخوانه، والمنافق يطلب عثرات إخوانه".

قلت ما سمعتموه وأستغفر الله لي ولكم......

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله..

إنّ في البشر طفيليّات حول أفراد المجتمع، ليفسدوا أمره وليفرقوا كلمته، وليُوغِرُوا الصّدور، فتحدث الشّحناء والبغضاء، وليست الشّحناء والبغضاء من خلق المسلم.

إن من أصول التّثبُّت أن لا ينقل المسلم كل ما يسمع: فقد صحّ عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلم- أنّه قال: «كفى بالمرء كذبًا أن يحدِّث بكلّ ما سمع» [مسلم 5]؛ لأن كلّ ما يسمعه المرء يختلط فيه الصّدق بالكذب، فتحدث روايته اضطراب الأحوال، وبلبة الأفكار، وعدم الهدوء والاستقرار.

فقل خيرًا أو اصمت وزين لسانك بالصمت، فهو خير لك من كلام يضر ولا ينفع..

الصمــت زيـن والسـكوت سـلامة *** فإذا نطقت فلا تكــن مكثـارًا
فـإذا نــدمت على ســكوتك مـرة *** فلتندمـن علـى الكلام مـرارًا

اللهم اغفر لنا...
 

 

 

 

 

المرفقات

وقيمة الكلام

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات