عناصر الخطبة
1/ أحكام متعلقة بالكلاب في القرآن والسنة 2/ تشبيه المنسلخ عن شرع الله تعالى بالكلب 3/ اتخاذ العلم وسيلة لاتباع الهوى 4/ علماء السوء يلبسون على الناس الحق بالباطل 5/ ولع الغرب بتربية الكلاب والاعتناء بها 6/ الكلب جندي من جنود الله عز وجل 7/ طمع كلاب الأمم في خيرات المسلميناقتباس
عجيب أمر هذا الإنسان!! يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والارتفاع، ولكن هذا الإنسان –وباختياره- ينسلخ من هذا كله، كأنما الآيات لباس له متلبس بلحمه، فينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي ..
ورد ذكر الكلب في ثلاث سور من كتاب الله تعالى: في المائدة والأعراف والكهف. وورد ذكره في السنة أكثر من ذلك.
والكلاب أمة من الأمم، لنا معها أحكام كثيرة: فالملائكة لا تدخل بيتًا فيه كلب أو صورة، وخمسٌ يقتلن في الحل والحرم: منها الكلب العقور.
والكلب إذا ولغ في الإناء فإنه يغسل سبعًا: إحداهن بالتراب.
ونهى النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ثمن الكلب، ومهر البغي، وحلوان الكاهن، وشبه المصطفى -عليه الصلاة والسلام- من يرجع في هديته بالكلب الذي يرجع في قيئه؛ فقال: "ليس لنا مثل السوء، الذي يعود في هبته، كالكلب يرجع في قيئه". رواه البخاري.
ونهى -صلى الله عليه وسلم- عن بسط الذراع في الصلاة؛ فقال: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه انبساط الكلب".
و"مَنِ اتَّخَذَ كَلْبًا إِلاَّ كَلْبَ مَاشِيَةٍ أوْ صَيْدٍ أوْ زَرْعٍ، انْتُقِصَ مِنْ أجْرِهِ كُلَّ يَوْمٍ قِيرَاطٌ". واختُلف في جواز اقتنائه لغير هذه الأمور الثلاثة، كحفظ الدور والدروب، والراجح جوازه، قياسًا على الثلاثة، عملاً بالعلَّة المفهومة من الحديث وهي: الحاجة.
وروى مسلم في صحيحه عن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يقطع الصلاة: الحمار والمرأة والكلب الأسود".
وقال -صلى الله عليه وسلم-: "الكلب الأسود شيطان". ولذلك أمرنا بقتله في قوله: "اقتلوا منها كل أسود بهيم".
والإحسان إلى الكلب يستجلب رحمة الله؛ قال -صلى الله عليه وسلم- كما في البخاري: "بينما رجل يمشي بطريق، اشتد عليه العطش، فوجد بئرًا فنـزل فيها، فشرب ثم خرج، فإذا كلب يلهث، يأكل الثرى من العطش، فقال الرجل: لقد بلغ هذا الكلب من العطش مثل الذي كان بلغ بي، فنـزل البئر، فملأ خفه، ثم أمسكه بفيه، فسقى الكلب، فشكر الله له، فغفر له". قالوا: يا رسول الله: وإن لنا في البهائم أجرًا؟! فقال: "في كل ذات كبد رطبة أجر".
وسُئل -صلى الله عليه وسلم- عن كلاب الصيد فقال: "إذا أرسلت كلابك المعلَّمة، وذكرت اسم الله، فكُلْ مما أمسكن عليكم وإن قتلن، إلا أن يأكل الكلب، فإني أخاف أن يكون إنما أمسكه على نفسه، وإن خالطها كلاب من غيرها فلا تأكل". قال الله تعالى: (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ) [المائدة: 4].
والكلاب كلها نجسة: المعلَّمة وغير المعلَّمة، الصغير منها والكبير، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين كلب البدوي والحضري؛ لعموم الأدلة.
أيها المسلمون: والعرب قديمًا كانت تسمي بالكلب بعض أبنائها. و"كلاب" اسم رجل من أجداد النبي -صلى الله عليه وسلم-، وهو كلاب بن مرة بن كعب.
سُئل أعرابي: لم تسمّون أبناءكم بشر الأسماء، نحو: كلب وذئب، وتسمون عبيدكم بأحسنها، نحو: مرزوق ورباح؟! فقال: إنما نسمي أبناءنا لأعدائنا، ونسمي عبيدنا لأنفسنا. وكأنهم قصدوا بذلك التفاؤل بمكالبة العدو وقهره.
والكلب حيوان عجيب؛ فهو شديد الرياضة، وفي طبعه الاحتلام، وتحيض إناثه وتحمل ستين يومًا، وفيه من اقتفاء الأثر وشم الرائحة ما ليس لغيره من الحيوانات، وبينه وبين الضبع عداوة شديدة، ومن طبعه أنه يحرس صاحبه شاهدًا وغائبًا، ذاكرًا وغافلاً، نائمًا ويقظانًا، وهو أيقظ الحيوان عينًا، وغالب نومه في النهار، وإذا نام كسر أجفان عينيه ولا يطبقها؛ وذلك لخفة نومه، ومن طباعه التودد والتألّف؛ بحيث إذا دعي بعد الضرب والطرد رجع، ويقبل التأديب والتلقين والتعليم، كما قال تعالى: (تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمْ اللَّهُ)، والكلب إذا عُلّم تحصل له فضيلة على غير المعلَّم، فكيف بالإنسان إذا كان له علم، فهو أولى أن يكون له فضل على غيره!!
أيها المسلمون: شبّه الله -جل وتعالى- ذلك الشخص الذي ينحرف عن منهج الله -عز وجل- وهديه بعد معرفته بالكلب، مع الخذلان والهبوط والانسلاخ من آيات الله والعياذ بالله، ذلك الذي آتاه الله آياته، فكانت في متناول نظره وفكره، ولكنه انسلخ منها، وتعرى عنها، ولصق بالأرض، واتبع الهوى، فلم يستمسك بالميثاق الأول، ولا بالآيات الهادية، فاستولى عليه الشيطان، وأمسى مطرودًا من حمى الله، لا يهدأ ولا يطمئن، ولا يسكن له قرار؛ قال الله تعالى: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنْ الْغَاوِينَ * وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصْ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ * سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ * مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 175-178].
عجيب أمر هذا الإنسان!! يؤتيه الله آياته، ويخلع عليه من فضله، ويكسوه من علمه، ويعطيه الفرصة كاملة للهدى والارتفاع، ولكن هذا الإنسان –وباختياره- ينسلخ من هذا كله، كأنما الآيات لباس له متلبس بلحمه، فينسلخ من آيات الله، ويتجرد من الغطاء الواقي، والدرع الحامي، وينحرف عن الهدى ليتبع الهوى، فإذا هو مُسخ في هيئة الكلب، يهبط عن مكان الإنسان إلى مكان الحيوان، مكان الكلب الذي يتمرغ في الطين، يلهث إن طورد، ويلهث إن لم يطارد.
هل هناك أسوأ من هذا المثل؟! وهل هناك أسوأ من الانسلاخ والتعري من الهدى؟! وهل هناك أسوأ من الالتصاق بالأرض واتباع الهوى؟! وهل يظلم إنسان نفسه كما يظلمها من يصنع بها هكذا؟! من يعريها من الغطاء الواقي والدرع الحامي، ويدعها غرضًا للشيطان يُلزمها ويركبها، ويهبط بها إلى عالم الحيوان اللاهث لهاث الكلب؟!
ما أكثر الذين يُعْطَون علم دين الله ثم لا يهتدون به، إنما يتخذون هذا العلم وسيلة لتحريف الكلم عن مواضعه، واتباع الهوى به!! كم من عالم دين رأيناه يعلم حقيقة دين الله ثم يزيغ عنها ويعلن غيرها، ويستخدم علمه في التحريفات المقصودة، والفتاوى المقلوبة، والأخطر إذا كانت الفتاوى مطلوبة، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين، فمثله كمثل الكلب، إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، فعالم السوء مشبَّه بالكلب، الذي هو أخس الحيوانات همةً، وأسقطها نفسًا، وأوضعها قدرًا، ليس هذا فحسب، بل هو صريع الشيطان وفريسته، قد اتخذ هوى نفسه إمامًا، مستبدِلاً به هدى الله، فلحقارة همته ومقصده، آثر الدنيا على الآخرة، بل أخلد إلى الأرض بكليته، فما كان أنفه بأعلى من سطحها، وإذا كان هذا مثل من باع آخرته بدنياه، فما عساه يكون مثل من باع آخرته بدنيا غيره؟! إنه مثل لكل من آتاه الله من العلم، فلم ينتفع بهذا العلم، ولم يستقم على طريق الإيمان، وانسلخ من نعمة الله، ليصبح تابعًا ذليلاً للشيطان، ولينتهي إلى المسخ في مرتبة الحيوان.
ومصيبة الأمة اليوم من هذا النوع من علماء السوء، الذين يلبّسون على الناس دين الله، عن هوىً في قلوبهم والعياذ بالله، ليدركوا شيئًا من حطام هذه الدنيا الفانية، ولا أبلغ من وصف الله -جل وتعالى- لهؤلاء بالكلب، فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين.
أيها المسلمون: ومع معرفة نجاسة الكلب، وثبوت ذلك علميًّا، إلا أنك تستغرب وأنت ترى الغرب اليوم لهم عناية غير عادية بالكلاب، من جهة اقتنائها وتربيتها وملاعبتها، بل والنوم معها، والاعتناء الشديد بها، يصل أحياناً أنهم يقدمونها على أولادهم، وأنشأوا لها أماكن مخصصة، من أندية ومستشفيات ومحاضن خاصة، بل ويكتب بعضهم لها شيئًا من الميراث، فتسأل: أين هي عقول القوم؟! ألم يجدوا حيوانًا آخر يعتنون به سوى الكلب؟! وهذا الاهتمام ليس من العامة فقط، بل تشاهد ذلك من بعض زعمائهم ورؤسائهم، ولهذا لم نستغرب عندما أعلن البيت الأبيض نبأ وفاة كلبة رئيسهم، وضج الإعلام وقتها، وكتبت الصحف عن ذلك، وقد أحسن شاعرنا عندما نظم قصيدة عزاء له قال فيها:
نـعزيك في الكلبة الرَّاحله *** عـزاءٌ تُسَرُّ به العائلَـهْ
نعزيك فـي كلبةٍ ودَّعت *** وغابت عن الأعين الذاهلَهْ
نعزيـك فيها وقد فارقت *** حياة برحمتكـم حافلَـهْ
لقد فارقت داركم لم تعد *** هنالك خارجـةً داخلـَهْ
فقدتم عزيزًا بفقدانـها *** فكفكف دموع الأسى الهاطلَهْ
نعزِّيك في حُسْـنِ هندامها *** وفي شعر "قَصَّتها" المائلَهْ
نعزِّيك في لون أنيابـها *** وفرشاة أسنانـها الناحلَـهْ
نعزِّيك في جنبها لم تعـد *** تحك به أرجل الطاولَـهْ
تُعزيك أشلاءُ أطفالنـا *** وجدرانُ أوطاننـا الفاصلَهْ
تُعزيك أم رأت ابنهـا *** قتيـلاً ودوحتهـا ذابلَـهْ
يُعزِّيك طفل العراق الذي *** تشَّرد في أرضه القاحلَـهْ
يُعزِّيك ماء الفرات الذي *** رأى قسوة الضربة القاتلَتهْ
رأى القاذفات التي أَرسلت *** إلى الناس غازاتها السائلَهْ
رأى الطائرات التي أَسرفت *** غدوًّا رواحًا إلى الحاملَهْ
تُعزِّيك أقفاص أسرى الردى *** ببرقية بُعثت عاجلَـة
نعزِّيك فاصبر على فقدهـا *** فدنيا الورى كلها زائلَهْ
فإن العزاء لكـم واجـب *** وإن العـزاء لنا نافلَـهْ
عجيب ما يحصل في عالمنا اليوم:
كلب يتمتع باللحم
وشعوب لا تجد العظم
كلب يتحمم بالصابون
وشعوب تسبح في الدم
كلب في حضنك يرتاح
يمص عصير التفاح
وينال القُبلة بالفم
وشعوب مثل الأشباح
تقتات بقايا الأرواح
وتنام ولا يحصل نوم..
والقارئون للتاريخ والناظرون في أحوال الأمم يرون أن هذا العصر هو أعنف عصور البشرية، وأغزرها دمًا، وأشدّها دمارًا.
إن من المفارقات العجيبة، والمقارنات اللافتة، أن يكون ذلك في وقتٍ وصلت فيه الثقافة والعلوم والتعليم والمخترعات والمكتشفات إلى قوةٍ غير مسبوقة، فمن غير المنكَر ما يعيشه العالم كلُّه، من تقدم ماديّ، له منجزات خيّرة، وآثار نافعة في الاتصالات والمواصلات، والآلات والتقنيات، والصحة والتعليم وأسباب المعيشة، في آثارٍ إيجابية مشهودة في حياة الناس، ولكن ومع كلّ هذا النفع المشهود، يصبح هذا العصر أعظم العصور قسوةً ووحشية، غريب وعجيب أن يكون التنوير سبيل التدمير، ولكن يزول العجب، وترتفع الغرابة، إذا استرجع المسلم قول الله -عز وجل-: (يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) [الروم: 7]، غفلوا عن الآخرة فنسوا ربهم، وجهِلوا حقيقة مهمَّتهم، شرّعوا لأنفسهم، واستبدّوا في أحكامهم: (وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً) [الفرقان: 21]، لقد كَدّوا ذكاءهم، وسخروا علومهم، ووظّفوا مخترعاتهم في أسلحة الدمار الشامل وغير الشامل، والصراع على موارد الخيرات، والتنافس غير الشريف.
إن الذي يستحق التوقف والتأمل أن هذا الجهد وهذا التنافس والتصارع الذي يُبذل على وجه هذه الأرض من كلاب الأمم في هذه الميادين؛ لو بُذِل أقل من نصفه في الأدب مع الله، وتوقيره، وابتغاء مرضاته، لكسب الناس الدنيا والآخرة جميعًا، لأظلهم الأمن الوارف، ولأكلوا من فوقهم ومن تحت أرجلهم، ولكن كلاب اليهود والنصارى كذَبوا وظلموا، وآذوا وأفسدوا، وأوقدوا حروبًا وأشعلوا صراعات، وأثاروا مشكلاتٍ اقتصادية وسياسية، واستضعفوا أممًا، واستنقصوا حقوقًا، فأُخذوا بما كانوا يكسبون، ولا يزالون تصيبهم بما صنعوا قارعة أو تحل قريبًا من دارهم. نسأل الله أن يدمرهم تدميرًا، وأن يفجرهم تفجيرًا، وأن يعجل بهلاكهم، كما نسأله أن يعجل بفرج أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- فرجًا عاجلاً غير آجل.
أيها المسلمون: والكلب قد يكون جنديًا من جنود الله -عز وجل-، ينتقم من أعداء الملة وخصوم الشريعة، فيرسله الله على من كفر بالله أو استهزأ بدينه، والنبي -صلى الله عليه وسلم- دعا على عُتبة بن أبي جهل عندما جاءه وهو في جمع من الناس يسخر منه، ويتمادى في السخرية، ويأخذه غرور الجبابرة، وهو يقول: "يا محمد: أشهد أني قد كفرتُ بربك، وطلقت ابنتك".
وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- قد زوَّجه ابنته رقية قبل البعثة، فدعا عليه النبي -عليه الصلاة والسلام- بقوله: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك"، قالها -صلى الله عليه وسلم- في يقين ممزوج بالأسى، وعيناه وقلبه إلى السماء يستنصر الله، فخرج عتبة في قافلة تجارية إلى الشام، وليس نصب عينيه وأذنيه ومشاعره إلا دعوة محمد: "اللهم سلط عليه كلبًا من كلابك". بدأ الركب مسيره إلى الشام، وفي الليل بلغوا واديًا يسمى "وادي القاصرة"، وهو كثير السباع، فنـزلوه للاستراحة، فأصر عتبة أن لا ينام إلا وسط رفاقه، خوفًا من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم-، فلم يفق القوم إلا وأسد يشم رؤوس القوم رجُلاً رجلاً، حتى انتهى إلى عتبة، فأنشب مخالبه في صدغيه فقتله، فصرخ عتبة: "يا قوم قتلتني دعوة محمد".
والعالم الإسلامي اليوم يعج بالذين يسخرون بآيات الله، ويستهزئون بالدين وأهله، ويلمزون بالعلماء والدعاة والمصلحين، ويكتبون عن المرأة ما يخالف أحكام الله -عز وجل- صراحة، عبر كتابات عفنة، تُسوّد بها أوراق الصحف اليومية، يشم من بعضها رائحة الردة والعياذ بالله. ألا فليتقِّ اللهَ هؤلاء في أنفسهم وفي مجتمعهم، وإلاّ فنسأل الله -جل وتعالى- أن يسلط عليهم كلبًا من عنده، يمزقهم شر ممزق، كما يمزقون هم اليوم أخلاق الأمة وفكرها ومعتقدها.
أيها المسلمون: ومن طرائف ما ذكر حول الكلب ما ذكره ابن خلكان في تاريخه: أن الرافضي الحسين بن أحمد -المعروف بابن الحجاج- لما حضرته الوفاة، أوصى بأن يدفن عند رجلي الإمام موسى بن جعفر -أحد الأئمة الاثني عشر عندهم- وأن يكتب على قبره (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ) [الكهف: 18]. ولا أظن أن الخبر يحتاج إلى تعليق؛ فهذه هي منزلة القوم: (وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ). نسأل الله السلامة والعافية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما قلت، فإن كان صوابًا فمن الله وحده، وإن كان غير ذلك فمن نفسي ومن الشيطان، والله ورسوله منه بريئان، وأستغفر الله إنه كان غفارًا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه...
أما بعد:
أيها المسلمون: عندما تضعف أمة الإسلام فإن كلاب الأمم تطمع بخيراتها ومقدّراتها، بل تتجرأ إلى غزو ديارها، وإن كلاب الأمم بعامة وكلاب اليهود والنصارى بخاصة لا يُجدي معها سوى لغة إلقام الحجر! ولا يردعها سوى لغة: "خمس فواسق يُقتلن في الحلّ والحرم"، ولا يردّها خاسئة ذليلة حقيرة إلا منطق سليمان -عليه الصلاة والسلام-: (ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ) [النمل: 37]. ولا يقطع دابرها سوى مقولة: "مَنْ لِكعب بن الأشرف؛ فإنه قد آذى الله ورسوله"، ولا يردّها عما عزمت عليه غير منطق: "الجواب ما ترى لا ما تسمع".
لقد كان هذا هو منطق أمير المؤمنين وخليفة المسلمين في زمانه هارون الرشيد -رحمه الله- يوم أطلقها مُدوّية من بغداد، عندما تجرأ نقفور ملك الروم فكتب مُجرّد كِتابة: إلى هارون ملك العرب، أما بعد: فإن الملكة التي كانت قبلي أقامتك مقام الرخ، وأقامت نفسها مقام البيدق، فحملت إليك من أموالها، وذلك لضعف النساء وحمقهنّ، فإذا قرأت كتابي فاردد ما حصل قِبلك، وافتد نفسك، وإلا فالسيف بيننا!
فلما قرأ الرشيد الكتاب اشتد غضبه، وتفرق جلساؤه خوفًا من بادرة تقع منه، ثم كتب بيده على ظهر الكتاب: من هارون -أمير المؤمنين- إلى نقفور -كلب الروم-: قرأت كتابك يا ابن الكافرة! والجواب ما تراه دون ما تسمعه. ثم ركب من يومه، وأسرع حتى نزل على مدينتهم، وأوطأ الروم ذلاً وبلاءً، فقتل وسبى وأذل نقفور كلب النصارى، فطلب الموادعة على خراج يؤديه إليه في كل سنة، فأجابه الرشيد إلى ذلك.
لله در هارون الرشيد! ألا يوجد مثلك اليوم رَجُلٌ رشيد؟!!
إن الأمة اليوم بحاجة إلى مُخاطبة كلاب الروم اليوم بهذا الخطاب، وبهذه القوّة، وبهذه اللغة. وكم هم بحاجة إلى من يُعرّفهم قدرهم!!
إن كلاب الروم تعيث اليوم في الأرض فسادًا ولا هارون!!
يا ألف مليون تكاثر عدّهـم *** إن الصليب بأرضنا يتبخترُ
فالحرب دائرة على الإسلام يا *** قومي فهل منكم أبيٌّ يثـأرُ
إنا سئمنا من إدانـة مُنكـرٍ *** إنا مللنا من لسـانٍ يـزأرُ
يتقاسم الأعداء أوطاني على *** مرأى الورى وكأننا لا نشعرُ
أين النظام العالمي ألا تـرى *** شعباً يُباد وبالقذائف يُقبرُ؟!
أين العدالة أم شعار يحتوي *** سفك الدماء وبالإدانة يُسترُ؟!
ما دام أن الشعب شعب مسلمٌ *** لا حلّ إلا قولهم: نستنكرُ!
يا أمتي والقلب يعصره الأسى *** إن الجراح بكل شبرٍ تُسعِرُ
والله لن يحمي رُبـا أوطاننـا *** إلا الجهاد ومصحف يتقدّر
لقد تعادت علينا كلاب الرّوم، لقد عَوَت بنا كلاب الروم.
تعدو الذئاب على مَن لا كِلاب له *** وتتقي صولة المستأسد الضاري
فمتى نسمع زئير المستأسد الضاري؟! قل عسى أن يكون قريبًا.
إن المواجهة بين المسلمين وكلاب الأمم لم تتوقف منذ فجر الإسلام؛ مصداقًا لقول الله تعالى: (وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا) [البقرة: 217]؛ فالمعركة مستمرة، وإن تعددت ساحاتها وتبدلت أسلحتها؛ لأن الشر من لوازم الخير، يقول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنْ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) [الفرقان: 31]، فسنة التداول الحضاري من طبيعة الحياة: (وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) [آل عمران: 140].
ولعل ذلك من أقدار الله الغلابة، ومن ابتلاءات الخير والشر، فالمسلمون مستهدفون بأصل إيمانهم، وليس بسبب كسبهم أو فعلتهم في كثير من الأحيان؛ قال الله تعالى: (وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) [البروج: 8]، وسوف تتداعى عليهم كلاب الأمم لتأكل خيراتهم، وتستنـزف طاقاتهم، وتتحكم ببلادهم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها، وسوف تجتمع عليهم، ولن ترضى عنهم حتى يتخلوا عن دينهم ويصبحوا أتباعًا لليهود والنصارى: (وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ) [البقرة: 120].
وهذا قد يكون طبعيًا من الأعداء، لكن المشكلة في غالب الأحيان إنما تتمثل في غفلة المسلمين وسُبَاِتهم، وعدم اليقظة إلى مكر عدوهم: (وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً) [النساء: 102].
وهذا الذي أتينا على ذكره من القرآن يشكل قانونًا أو سنة من سنن النهوض والسقوط، والتاريخ شاهد على ذلك في القديم والحديث، وكم غفل المسلمون أو تغافلوا عن هذا القانون وركنوا إلى الذين ظلموا، ووالوا أعداء الله، واتخذوا بطانة من دونهم لا يألونهم خبالاً، وخودعوا بعهود ووعود، فكان السقوط وكان التخلف وكانت الهزيمة الثقافية والسياسية والعسكرية، لكن من نعمة الله على المسلمين أن تسليط عدوهم عليهم ليس تسليط استئصال وإبادة؛ لأنهم أمة النبوة الخاتمة، وإنما تسليط إيذاء وعقوبة على المعاصي الفكرية، والمعاصي السياسية، والمعاصي الأخلاقية التي يقعون فيها؛ قال الله تعالى: (لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى) [آل عمران: 111].
هذا الأذى ليس شرًا دائمًا، بل هو في كثير من الأحيان خير: (لا تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ) [النور: 11]؛ لأنه أشبه بالمحرّضات والمنبهات الحضارية، التي تشعر الأمة بالتحدي، وتبصَّرها بمواطن التقصير، وتقضي على الجوانب الرخوة في حياتها، فتستعد للإقلاع من جديد. فالغريب أن تتوقف المعارك، ويتوقف الأذى، والغريب أن لاّ يدرك المسلمون ذلك حق الإدراك، وهم يتلون القرآن ويقرؤون التاريخ.
اللهم...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم