اقتباس
فهو مع الأصدقاء: يزيد المودة ويعمق الألفة والمحبة، ويقطع كيد الشيطان، ويسدُّ مساربه؛ فيحيا الجميع في ظلال الإخاء بقلوب صافية، وأرواح متآلفة متآخية، وهو مع الأعداء سبيل لانتزاع أحقادهم، وإطفاء ثائرتهم، وتخفيف خصومتهم، ومن ثم...
أفضل سبيل لتحقيق هدف المتكلم - متحدثاً كان، أو محاضراً، خطيباً، أو مناقشاً-: هو القول الحسن، والمنطق العَفُّ، المتأدب؛ إنه طريقه إلي القلوب.
ومنذ فجر النبوات والوحي يعلم الأنبياء وأتباعهم: أن يستعينوا على تبليغ دعوتهم واستمالــة الناس إليهم بالجميل من القول، والْحَسَنِ من الكلام؛ قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللهَ وَبِالوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي القُرْبَى وَاليَتَامَى وَالمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ)[البقرة:83]، وقال لموسى وهارون -عليهما السلام-: (فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى)[طه:44].
واستمر هذا التوجيه المنهجي في أمة الإسلام حيث خوطب رسولنا -صلى الله عليه وسلم- بوحي محكم؛ (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا)[الإسراء:53]
القول الطيب يسمو على بذل المال والتصدق به، إذا لم يكن مصحوبا بالكلام الجميل، أو كان مقروناً بالمن والأذى؛ (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ)[البقرة:263].
ويوضِّح المصطفى -صلى الله عليه وسلم- ذلك بقوله: "إنكم لن تسعوا الناس بأموالكم، فليسعهم منكم بسط الوجه، وحسن الخلق".
ويأبى عظماء الرجال غير هذا المسلك في جميع أحوالهم، روى الإمام مالك فيما بلغه عن يحيى بن سعيد: أن عيسى بن مريم -صلى اللـه عليه وسلم- مر بخنزير على الطريق؛ فقال له: انفذ بسلام، فقيل له: أتقول هذا لخنزير؟ فقال: إني أخاف أن أعود لساني كلام السوء.
ويوجب الجنة: إطعام الطعام، وإن حسن الكلام، وإطعام الطعام طريق إلى جنة الرحمن -عز وجل-.
أثر الكلام الطيب :
المسلم مطالب أن يلين قوله، ويسمو بمنطقه، سواء مع أصدقائه أو مع أعدائه، ولكل حالة فائدتها والثمرة المرجوة منها :
فهو مع الأصدقاء: يزيد المودة ويعمق الألفة والمحبة، ويقطع كيد الشيطان، ويسدُّ مساربه؛ فيحيا الجميع في ظلال الإخاء بقلوب صافية، وأرواح متآلفة متآخية، وهو مع الأعداء سبيل لانتزاع أحقادهم، وإطفاء ثائرتهم، وتخفيف خصومتهم، ومن ثم كسب مودتهم، ولفت أنظارهـم إلى سمو المبادئ التي يعاملهم المسلم من خلالها؛ قال تعالى: (وَلَا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصِّلت:34]
خلق عباد الرحمن :
التحلِّي بالطيب من القول، وتعويد اللسان على عفيف الكلام، والجميل منه: صفة من صفات عباد الرحمن، الذين أثنى الله عليهم في محكم كتابه، ونصبهم قدوة للصالحين من عباده؛ قال تعالى :(وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)[الفرقان:63].
إنهم فوق سفه الجاهلين، ولغو العابثين، لا يصيخون السمع إليهم، ويعرضون عنه إعراضا كريماً؛ قال تعالى: (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الجَاهِلِينَ)[القصص:55].
كل ذلك يأتي ضمن دائرة الحوار الهادف، والأسلوب المهذب، ونشدان الحق، أما إذا تجاوز الخصم هذه الحدود، فلا بد من الانتصار للحق.
فما الأسلوب الذي وجهنا إليه الإسلام؟
الانتصار للحق: إن إلانة القول، والتحلي بكريم الخلق، وعفة المنطق: أصل تعامل المؤمنين فيما بينهم، وأساس تعاملهم مع أعدائهم.
غير أن المؤمن كثيراً ما يَمَسُّه الأذى، أو يُسام الضيمَ، وُيعتدي على حرماته؛ فماذا عساه فاعلاً؟
لا يليق به -والحال كذلك- أن يرضى الدنية، أو يغضي عن الظلم؛ إنه في فسحة من أمره إذا ما ذب عن عرضه، وثأر لكرامته، ودافع عن حقوقه، وله أن يسلك من الوسائل ما كان محظوراً عليه زمن الرخاء والعافية؛ قـال تعالى: (لَا يُحِبُّ اللهُ الجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ القَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللهُ سَمِيعًا عَلِيمًا)[النساء:148]؛ وذلك كيلا تضيع الحقوق، أو يستذل المؤمن؛ قال تعالى: (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ)[الشُّورى:41].
بيد أن الإسلام -وهو يبيح الانتصار ورفع الحيف- لم يترك الأمور لأهواء النفوس وضغائن الصدور، ونزغات الشيطان، تطيش بألباب المؤمنين، وتستخف أحلامهـم؛ بل وجَّههم إلى الأفق السامي من العفـو والمسامحــة؛ فإن لم تطب نفوسهم إلا بالانتصاف، فالقاعدة العامة في دفع كل ظلـم: (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ)[الشُّورى:40].
إذ بذلك يُدْرَكُ الحق، وَيُقْمع الشر، وينحسر الفساد، ويعلم مقترفوه أن أهل المبادئ لهم بالمرصاد.
وفي أولى واجبات المسلم -لاسيما أبناء الدعوة- التحلي بهذه الآداب والالتزام الكامل بها؛ كي يعطوا المثل الراقي للخلق الإسلامي الرفيع؛ وليكونوا الصورة العملية المتحركة على الارض لهذي الإسلام ومبادئه، وبدلوا الناس على الخير بأفعالهم قبل أقوالهم.
إنهم يحققون بذلك سعادة الدنيا، ويضمنون في الآخرة النجاة وحُسْنَ العقبى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم