الكعبة بين البناء والهدم تاريخ حافل

فريق النشر - ملتقى الخطباء

2024-02-20 - 1445/08/10
التصنيفات:

 

 

أ. مشبب بن سعد آل ناصر

 

الكعبة المشرفة إذا ذُكرت عند المسلم اهتز القلب بالتعظيم، وتتحرك بالحنين جوانحه، إذا شاهدها المسلم صغرت الدنيا في عينه، وزهدت عينه في كل منظر سواها، كم من الدعوات رفعت حولها؟ وكم من عبره سكبت أمامها؟ وكم من قلوب تقطعت تريد بلوغها؟

 

الكعبة المشرفة ما فضلت لجمال جدرانها أو ثمنيه بابها وميزابها أو فخامة كسوتها، فكل ذلك يوجد ما هو أفخم منه، وأعلى ثمناً، وإنما فضلت الكعبة لموضعها، فقد جعله الله تعالى مباركاً وفضله على غيره من البقاع، وشرع فيه عبادة تخصه دون غيره، كالطواف وكتقبيل الحجر الأسود.

 

الكعبة المشرفة، وما أدراك ما الكعبة؟ إنها ذلك البناء القديم، والبيت العتيق، أول بيت وضع للناس في الأرض، رفعه الخليل وابنه عليهما السلام، وضعا قواعده على أساس كان قبله، قال تعالى ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لَّا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴾ [الحج:26]، رفعا بناينه وأعليا شانه ﴿ وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة:127ْ]، وبعد ان أحكما البناء أمره الله تعالى أن يؤذن فيه بالحج ﴿ وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالاً وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴾ [الحج27]، فتتابعت أجيال على التعبد فيه، وطافت به أمم تلو أمم، ولا يعلم بناء في الأرض طِيف به قدر ما طِيف بالكعبة، ولا تعبد عنده كما تعبد عندها، ولا يُحصي ذلك إلاّ الله تعالى.

 

الكعبة المشرفة امتازت الكعبة أنها تضرب في عمق التاريخ البشري، لم يتغير مكانها، ولم يُطمر تاريخها، ولم يتخذ المؤمنون بناءً غيرها، ولم يختلفوا عليها، ويملوا من التوجه إليها، وكل مؤامرات هدمها أو صرف الناس عنها باءت بالفشل.

 

الكعبة المشرفة انفردت أن التعبد تعبد عندها تعبد بحق، والطواف حولها طواف بحق، واستقبالها استقبال بحق، قال تعالى ﴿ وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ﴾ [البقرة 149

 

الكعبة المشرفة لم تكن في أول الإسلام قبلة للمسلمين بل كان المسلمون يتوجهون في صلاتهم إلى بيت المقدس، حتى نزل قول الله تعالى ﴿ قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ... ﴾  [البقرة144]، فكانت الكعبة المشرفة هي قبلة المسلمين إلى يومنا هذا، وإلى ما شاء الله تعالى.

 

الكعبة المشرفة هي الكعبة منذ زمن الخليل عليه السلام على يومنا هذا وإلى أن ينزل المسيح عيسى بن مريم عليه وعلى امه السلام فيطوف بها، وإلى أن تقوم الساعة.

 

الكعبة المشرفة ذكر أهل التاريخ والسير أنه أنهد بناءها مرة فبناها العمالقة، وانهدت أخرى فبنتها قبيلة جرهم، وكانت العرب تعظمها وتكسوها، كما أخبرت بذلك عائشة رصي الله عنها قالت: (كانوا يصومون عاشوراء قبل أن يفرض رمضان وكان يوماً تُستر فيه الكعبة) رواه البخاري.

 

الكعبة المشرفة ذكره أهل التاريخ والسير أيضاً أن أشهر حوادثها أنها احترقت أو هدمها السيل والنبي صلى الله عليه وسلم في ريعان شبابه قبل أن يبعث بالنبوة، فوهت أركانها، فهدمتها قريش بعد تردد وخوف من التجرؤ على الكعبة، وأعادت بناءها حتى إذا بلغوا موضع الركن اختصموا فيمن يضعه، وتنازعت قريش في ذلك كل منهم يدعي أنه الأحق بوضع الركن، ثم اتفقوا على أن يحكموا أول من يطلع من هذه السكة فاصطلحوا على ذلك فطلع محمد الأمين صلوات ربي وسلامه عليه، فحكموه فأمر بالركن فوضع في ثوب، ثم أمر بسيد كل قبيلة فأعطاه ناحية ذلك الثوب، ثم ارتقى هو وأمرهم أن يرفعوه إليه، فرفعوا إليه الركن فكان هو من وضعه.

 

الكعبة المشرفة قبل بناءها وتحكيم النبي صلى الله عليه وسلم بخمس وثلاثين سنة ابتنى ابرهة كنسية وأحكم بنائها، وزينها، وأراد أن يحول الناس إليها بدل الكعبة، وأمر العرب بقصدها في الحج، فلم يحجوا إليها، بل أقذروها حين أحدث بعضهم فيها، لأنهم رأوا أن الكعبة بيت الله المعظم، توارثوا تعظيمه منذ زمن الخليل عليه السلام، فكبُر في نفوسهم أن يزاحم الكعبة غيرها، فسيّر ابرهة جيشاً عظيماً لهدمها، فلم تقوى قريش على مواجهته ففرت إلى الجبال (وللبيت رب يحميه)، فانتصر الله تعالى لبيته، وأهلك ابرهة وجيشه، وسورة الفيل تشرح الحادثة ببيان موجز وبلاغة عالية.

 

الكعبة المشرفة سار تبع اليماني إليها يريد هدمها، فهاجت عليه رياح فردته عنها حتى ثاب إلى رشده، ورجع عن قصده.

 

الكعبة المشرفة حفظها الله بيتاً للعبادة، وقبلة للصلاة وقصداً للنسك، قال تعالى ﴿ جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾  [المائدة: 97].

 

الكعبة المشرفة زادها الله تعظيماً وتشريفاً حين صيّرها قبلة للمسلمين، فيتوجهون إليها من أصقاع الأرض في كل يوم خمس مرات، عدا النوافل الأخرى، وفي صلوات الجمع، والأعياد، والجنائز، وصلاة الكسوف والخسوف، فهي القبلة في كل صلاة للمسلم سواء كانت فرضاُ أم نفلاً، سواء أداها المسلم جماعة أو فرداً.

 

الكعبة المشرفة ما بُنيّ مسجد في صقع من أصقاع الأرض إلاّ كان قبلته نحوها ومحرابه متجهاً إليها، وكل من يصلي يتجه نحوها سواء صلى في البنيان أم صلى في الخلاء.

 

الكعبة المشرفة حين يسافر المسلم إلى مكان في العالم فأول السؤال الذي يشغل باله ويبحث له عنه إجابة، أين اتجاه القبلة؟ فكانت الكعبة حاضرة بشكل دائم في حيلة المؤمن.

 

الكعبة المشرفة حين بذبح المسلم ذبيحته يوجهها إليها تقرباً لله بذبحها.

 

الكعبة المشرفة الميت حين يوضع في قبره يوجه إليها، وقد جاء في الحديث أنها قبلة المسلمين أحياءاً وأمواتا، والداعي حين يدعو الله تعالى يتوجه إلى الكعبة.

 

الكعبة المشرفة فضلت الصلاة في المسجد الذي يحويها بمائة ألف صلاة عما سواه من المساجد.

 

الكعبة المشرفة ينسب المسجد الحرام إليها فيقال مسجد الكعبة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن مسجده في المدينة: (صلاة فيه أفضل من ألف صلاة فيما سواه من المساجد إلاّ مسجد الكعبة) رواه مسلم.

 

الكعبة المشرفة من تشريف الله لها أنها لا تستقبل في قضاء الحاجة مهما كان الإنسان بعيداً عنها، كما في حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوها ولا تستدبروها ولكن شرقوا أو غربوا) رواه البخاري.

 

الكعبة المشرفة، ما دامت هذه الأمة تعظمها وتقدرها حق قدرها فهي على خير، ولا يزول الخير عنها إلاّ بزوال تعظيم هذه البناء العتيق من قلوبهم كما جاء في الحديث: (أن هذه الأمة لا تزال بخير ما عظموا هذه الحرمة يعني الكعبة - حق تعظيمها فإذا ضيعوا ذلك هلكوا) رواه أحمد وحسنه ابن حجر.

 

الكعبة المشرفة كان النبي صلى الله عليه وسلم يغرس تعظيمها والحفاظ على قدسيتها في قلوب أصحابه رضي الله عنهم، ففي يوم فتح مكة اشتد فرح سعد بن عبادة رضي الله عنه، فقال: يا أبا سفيان اليوم يوم الملحمة اليوم تستحل الكعبة، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: (كذب سعد، ولكن هذا يوم يعظم الله فيه الكعبة، ويوم تكسى فيه الكعبة) رواه البخاري.

 

الكعبة المشرفة لموضعها خصوصية ولذلك قال الفقهاء لو زالت الكعبة - والعياذ بالله - صحت الصلاة إلى موضع جدرانها.

 

الكعبة المشرفة باقية إلى آخر الزمان كما دل على ذلك الأحاديث، والله جل وعلا يدفع عنها عدوان المعتدين وكيد الكائدين فينقلبوا على أعقابهم خاسرين، في حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال الرسول صلى الله عليه وسلم: (يغزو جيشاً الكعبة فإذا كانوا ببيداء من الأرض يخسف بأولهم وآخرهم) رواه البخاري.

 

الكعبة المشرفة في آخر الزمان سيطوف بها عيسى بن مريم عليهما السلام، وذلك بعد نزوله وقتله المسيح الدجال، وكما ورد في الحديث الصحيح عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (أُراني الليلة عند الكعبة فرأيت رجلاً أدم كأحسن ما أنت رأي من أُدم الرجال عليه، لمه كأحسن ما أنت رأي من اللمم قدر رجلّها وهي تقطر ماء متكئاً على رجلين أو على عواتق رجلين، يطوف بالبيت، فسألت من هذا؟ فقيل المسيح ابن مريم) رواه البخاري. وبعد أن يقبض الله تعالى المسيح إليه ويفسد الناس، يتجرأ الأشقياء الكعبة المشرفة.

 

الكعبة المشرفة يهدمها الأحباش كما جاء ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يُبايع لرجل بين الركن والمقام، ولن يستحل البيت إلاّ أهله، فإذا استحلوه فلا تسأل عن هلكت العرب، ثم تجيء الحبشة، فيخربونه خراباً لا يعمر بعده أبداً، هم الذين يستخرجون كنزه) رواه أحمد بسند صحيح.

 

الكعبة المشرفة يهدمها رجل من الأحباش، جاءت صفته في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) رواه البخاري، وفي حديث ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجرا) رواه البخاري، وفي حديث عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها حليتها ويجردها من كسوتها ولكأني أنظر أليه أُصيلع أفيدع يضرب عليها بمساحته ومعوله) رواه أحمد.

 

الكعبة المشرفة، هذي هي التي بناها الخليل عليه السلام وبعث عندها محمد وتعبد عندها وحولها وإليها عبر الزمان كثير من بني الإنسان في خلق لا يعلم عدده إلاّ الله، يهدمها في آخر الزمان حبشي بمسحاته، يهدمها شرير من أشرار الخلق عند فساد الناس والزمان.الكعبة المشرفة بين البناء والهدم تاريخ طويل حافل بالأحداث مليء بسير الرسل والصحابة والأخيار من العلماء والدعاة ومن الطائفين والعاكفين في ساحات الكعبة، وأخبار العباد والصالحين والركع السجود.الكعبة المشرفة هي قبلتنا نتوجه إليها بوجوهنا، وقبل ذلك بقلوبنا شوقاً إليها وإجلالاً وتعظيماً لها وقدسية لموضعها وبناءها.

 

 

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات