الكرم

خالد بن عبدالله الشايع

2022-10-09 - 1444/03/13
عناصر الخطبة
1/ الكرم من صفات الله 2/ مواقف من كرم النبي صلى الله عليه وسلم 3/ الكرم المحمود 4/ من مساوئ البخل 5/ أولى الناس بالإكرام 6/ الصحابة والكرم 7/ من صفات الكرماء

اقتباس

من لم يكن كريما لله، يبتغي بذلك وجه الله، فإنما يصرف ماله فيما لا فائدة فيه، وإن الناظر لكرم بعض الناس في هذه الأيام يجد أنه رياء وسمعة إلا من رحم الله وقليل ما هم، فتجد البعض يكرم ضيفه بما يشق عليه ليس لشيء إلا أن يقال كريم، بل ..

 

 

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله..

 

أما بعد:

 

أيها المؤمنون: إن المؤمن في هذه الدار يألف ويؤلف، ولا يزال يتحلى بصفات المروءة، ويتباعد عن صفات الدناءة ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

 

وإن الصفات التي يجب ألا ينفك عنها المؤمن كثيرة جدا، ولكن من أبرزها صفة عظيمة لا يخلو منها مؤمن، وذلك أن الإيمان يدعو إليها، إنها صفة الكرم والبذل والجود، وهي -في الحقيقة- صفة يجبل عليها المرء ويصعب عليه تصنعها، وإن تصنعها دهرا فإنها سرعان ما تختفي من فعاله، فهي لا تدوم إلا مع الكرماء، الذين يتصفون بصفة الكرم سجية، أو أنهم يتحلون به دينا وتقربا إلى الله، فينبغي للمؤمن أن يحاول اكتسابها، والتحلي بها؛ فإن النفس على ما عودها صاحبها، ومن كانت همته عظيمة قاد نفسه إلى معالي الأمور.

 

يكفي شرفا في الكرم أنه من صفات الله -تعالى- كما قال -سبحانه- في قول سليمان: (فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) [النمل:40] وقال: (مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ) [الانفطار:6].

 

وصفات الله عليا لا يتصف بها أحد؛ فالله -تعالى- الكريم الكرم المطلق، والعبد إذا اتصف بالكرم فهو في جانب أو جوانب من الكرم، ولا يأتي على الكرم المطلق، ولهذا كان العبد كريما كرما يليق ببشريته، والله -سبحانه- كريم كرما يليق بألوهيته جل جلاله.

 

أخرج الإمام أحمد من حديث سلمان -رضى الله عنه- قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله تعالى حيي كريم يستحيي إذا رفع الرجل إليه يديه أن يردهما صفرا خائبتين".

 

وأخرج الطبراني من حديث سهل بن سعد -رضى الله عنه- قال -صلى الله عليه وآله وسلم-: "إن الله كريم يحب الكرم ويحب معالي الأخلاق ويكره سفسافها".

 

عباد الله: ما من صفة ممدوحة إلا وضرب النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- فيها بسهم عظيم يعجز عنه البشر؛ ومن ذلك الكرم فلقد كان النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- أكرم الناس وأجودهم، أخرج البخاري ومسلم من حديث أنس -رضى الله عنه- قال: كان -صلى الله عليه وآله وسلم- أحسن الناس وأجود الناس وأشجع الناس.

 

ولئن أردنا الإتيان بالقصص في ذلك لنعجزن، ولكن نذكر -على سبيل المثال- ما أخرجه البخاري من حديث جبير بن مطعم أنه بينما هو يسير مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومعه الناس مقفلة من حنين، فعلقه الناس يسألونه حتى اضطروه إلى سمرة، فخطفت رداءه فوقف النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: "أعطوني ردائي لو كان لي عدد هذه العضاة نعما لقسمته بينكم ثم لا تجدوني بخيلا ولا كذوبا ولا جبانا".

 

وأخرج البخاري في صحيحه من حديث سهل بن سعد -رضى الله عنه- قال أهدي إلى النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- بردة فلبسها محتاجا إليها، فقال له رجل من الصحابة: يا رسول الله اكسنيها، فأعطاه إياها وقال: عرفت أنه لا يسأل شيئا فيمنعه.

 

وأخرج مسلم في صحيحه من حديث أنس -رضى الله عنه- قال: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئا إلا أعطاه قال فجاءه رجل فأعطاه غنما بين جبلين فرجع إلى قومه فقال: يا قوم أسلموا فإن محمدا يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة.

 

أيها المؤمنون: من لم يكن كريما لله، يبتغي بذلك وجه الله، فإنما يصرف ماله فيما لا فائدة فيه، وإن الناظر لكرم بعض الناس في هذه الأيام يجد أنه رياء وسمعة إلا من رحم الله وقليل ما هم، فتجد البعض يكرم ضيفه بما يشق عليه ليس لشيء إلا أن يقال كريم، بل يتعدى البعض ذلك حتى في باب الانفاق في سبيل الله، والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه".

 

الكرم عبادة تحتاج إلى نية، ويخطئ البعض فيتجاوز الكرم إلى حد الإسراف، والقاعدة في الإنفاق كما قال -سبحانه-: (وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا) [الفرقان:67] وكما أخرج الإمام أحمد وأبو داود وعلقه البخاري من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده مرفوعا: "كل واشرب والبس وتصدق في غير سرف ولا مخيلة".

 

معاشر المؤمنين: إن منع الجود سوء ظن بالمعبود، وإن البخيل بماله من أضعف الناس توكلا على الله، وإن الكريم من أعظم الناس توكلا على الله، فهو ينفق اعتمادا على الله وحسن ظن به -جل جلاله-.

 

ولنعلم أن الكرم والشجاعة مقرونان لا ينفك أحدهما عن الآخر، كما أن البخل والجبن قرينان.

 

قال الذهبي -رحمه الله-: "فمن ظن بماله فلن يجود بنفسه".

 

عباد الله: إن الكرم من صفات المؤمن أخرج الترمذي في جامعه من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن غر كريم والفاجر خب لئيم".

 

وأخرج البخاري ومسلم من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرا أو ليصمت".

 

وإن أولى من سعى المسلم في إكرامه من كان كريما؛ فقد أخرج ابن ماجه في سننه من حديث ابن عمر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا أتاكم كريم قوم فأكرموه".

 

ومنهم كذلك: ذو الشيبة المسلم وحامل القرآن والسلطان المقسط؛ فقد أخرج أبو داود في سننه من حديث أبي موسى الأشعري قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن من إجلال الله إكرام ذي الشيبة المسلم وحامل القرآن غير الغالي فيه والجافي عنه وإكرام ذي السلطان المقسط".

 

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا...

 

أقول قولي...

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين ...

 

معاشر المؤمنين: لا ينقضي ضرب المثل بحاتم الطائي في كرمه؛ ولقد كان رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- أكرم منه، ولقد تعلم الصحابة منه الكرم..

 

فها هو أبو بكر -رضى الله عنه- ينفق ماله كله في سبيل الله في غزوة تبوك، وعمر ينفق نصف ماله فيها، وهذا عثمان بن عفان -رضى الله عنه-؛ ووالله له أكرم من حاتم. أخرج البخاري في صحيحه من حديث أبي عبد الرحمن السلمي أن عثمان -رضي الله عنه- حين حوصر أشرف عليهم، وقال: "أنشدكم الله ولا أنشد إلا أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم- ألستم تعلمون أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "من حفر رومة فله الجنة" فحفرتها؟ ألستم تعلمون أنه قال: "من جهز جيش العسرة فله الجنة" فجهزتهم. قال فصدقوه بما قال. فلقد أخرج في غزوة تبوك ثلاثمائة بعير مخطومة.

 

ولا يخفى على أحد منا فعال الأنصار -رضى الله عنهم- لما قدم عليهم المهاجرون، أخرج البخاري في صحيحه من حديث عبدالرحمن بن عوف -رضي الله عنه- لما قدمنا المدينة آخى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيني وبين سعد بن الربيع فقال سعد بن الربيع: إني أكثر الأنصار مالا فأقسم لك نصف مالي وانظر أي زوجتي هويت نزلت لك عنها فإذا حلت تزوجتها. قال فقال له عبدالرحمن: بارك الله لك في مالك وأهلك لا حاجة لي في ذلك. دلني على السوق.

 

وهذا أبو طلحة وما أدراك ما كرم أبي طلحة الأنصاري -رضى الله عنه- فقد أخرج البخاري من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: أتى رجل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أصابني الجهد. فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئا، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ألا رجل يضيفه هذه الليلة يرحمه الله" فقام رجل من الأنصار فقال: أنا يا رسول الله. فذهب إلى أهله فقال لامرأته: ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لا تدخريه شيئا، قالت: والله ما عندي إلا قوت الصبية، قال: فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم، وتعالي فأطفئي السراج، ونطوي بطوننا الليلة؛ ففعلت ثم غدا الرجل على رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، فقال: "لقد عجب الله -عز وجل- أو ضحك من فلان وفلانة" فأنزل الله عز وجل (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) [الحشر:9].

 

أيها المؤمنون: إن الكرم من أعلى صفات المروءة، وإن الكريم حقا للذي يتخذ الكرم دينا، قال عبد الرحمن بن المهدي: "ليتق الرجل دناءة الأخلاق كما يتقي الحرام".

 

بل إن الكريم للذي يضيق إذا لم يجد من يسأله، أو لم يجد ضيفا يكرمه، قال حكيم بن حزام: "ما أصبحت قط فرأيت بفنائي طالب حاجة قد ضاق بها ذرعا فقضيتها إلا كانت من النعم التي أحمد الله عليها، ولا أصبحت صباحا لم أر بفنائي طالب حاجة إلا كان ذلك من المصائب التي أسأل الله الأجر عليها".

 

وكذلك تجد الكريم إذا رأى صاحب الحاجة لم يستطع الصبر حتى يقضي حاجته حتى ولو كان في ذلك ذهاب أنفس ماله؛ كما أخرج البخاري ومسلم من حديث جابر بن عبد الله -رضى الله عنه- قال: رأيت النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- يوم الخندق وقد ربط على بطنه حجرا من الجوع فقلت: ائذن لي إلى البيت، فجئت امرأتي فقلت: لقد رأيت بالنبي -صلى الله عليه وآله وسلم- شيئا ما كان في ذلك من صبر فعندك شيء؟ قالت: "عندي شعير وعناق فذبحت العناق وطحنت الشعير..." القصة.

 

عباد الله: إن الكريم للذي يجود بما فضل عنده، وإن الأكرم للذي يجود بما يحتاج إليه، كما قال تعالى (وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ) يعني حاجة.

 

قال ابن حجر في الفتح وعند ابن مردويه من طريق محارب بن دثار عن ابن عمر أهدي لرجل رأس شاة فقال: إن أخي وعيالَه أحوج منا إلى هذا فبعث به اليه، فلم يزل يبعث به واحد الى آخر حتى رجعت إلى الأول بعد سبعة.

 

وأضف لذلك أن الكريم هو الذي يتفضل على كل مسلم ولا ينتظر رد الكرم ولا المجازاة عليها. قال عبد الله بن جعفر لغلامه: "أمطر المعروف مطرا فإن أصاب الكرام كانوا له أهلا وإن أصاب اللئام كنت له أهلا".

 

قال شيخ الإسلام: "إن جميع بني آدم يتمادحون بالشجاعة والكرم حتى إن ذلك عامة ما يمدح به الشعراء ممدوحيهم في شعرهم وكذلك يتذامون بالبخل والجبن"، وقال رحمه الله: "وبالشجاعة والكرم في سبيل الله فضَّل الله السابقين فقال: (لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى) [الحديد:10]".

 

قال بعض السلف: "إن الذي يعاشر الناس ولا يكرمهم ويتكبر عليهم فذلك لقلة عقله ورأيه، فإنه يعادي صديقه ويكرم عدوه، فإن إخوانَه في الله أصدقاؤه ونفسَه عدوه".

 

معاشر المؤمنين: إن الكرم يدعو صاحبه إلى الإيثار، والجود والسخاء، ويدعوه إلى المسارعة في الخيرات وتفريج الكربات عن ويبتعد به عن البخل والشح والكنز والتفريط. وبهذا يتبين أن الكرم دليل على كمال الإيمان وحسن الظن بالله، وأن الكريم في كرامة في الدنيا والآخرة، وأن الكريم محبوب من الخالق والكريم قريب من الخلق أجمعين، وأن الكريم نفعه متعد إلى الغير، بل إن الكرم ليزيد في البركة في الرزق والعمر.

 

اللهم اجعلنا من الأسخياء الأتقياء...

 

اللهم قنا شح نفوسنا...

 

اللهم وفقنا لهداك واجعل عملنا في رضاك...

 

 

 

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات