عناصر الخطبة
1/مظاهر تشريف الله لبني آدم 2/اختلاف وجهات نظر الناس للكرامة 3/المفهوم الصحيح للكرامةاقتباس
إن سبيل الكرامة الحقة الذي يخطئه كثير من الناس، ولا يلقاه إلا الصفوة منهم إنما هو في متابعة النفس لرضا الله، وبلوغها غاية الجهد في طاعته، وإن غاية الكرامة لفي لزوم الاستقامة والجريان في مضمار الهداية، فلا كرامة لضالٍّ شقيٍّ، وإن تمتَّع من زخرف الدنيا بما تمتَّع...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، الحمد لله الذي كرَّم بني آدم على سائر الأجناس، واصطفاهم بحمل رسالته على العاتق والرَّاس، أحمده -سبحانه-، وهو رب الجِنَّة والناس، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدا عبده ورسوله، أزكى الخليقة وأنداهم في السراء والضراء وحين البأس، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الأعلام الأكياس، وسلَّم تسليمًا كثيرًا يدوم ما دامت الأنفاس.
أما بعد: فاتقوا الله -أيها المسلمون-؛ فالتقوى خير زاد، وأسبغ لباس، واعلموا أن الدنيا قد ارتحلت مدبرةً، وأن الآخرة قد ارتحلت مقبلةً، ولكل واحدة منهما بنون، فكونوا من أبناء الآخرة، ولا تكونوا من أبناء الدنيا؛ فإن اليوم عمل ولا حساب، وغدا حساب ولا عمل.
أيها المسلمون: إن للإنسان شأنًا ليس لسائر المخلوقات، فقد اختصه الله من بين خلقه بأن كرَّمَه وفضَّلَه وشرَّفَه، وخلَق كلَّ شيء له، وخلَق أباه بيده، ونفَخ فيه من روحه، وأسجَد له ملائكتَه، وعلَّمه أسماءَ كل شيء، وسخَّر له ما في سماواته وأرضه وما بينهما، حتى ملائكته الذين هم أهل قُرْبه جعَلَهم حَفَظَةً له في منامه ويقظته، وظعنه وإقامته، وأنزل إليه وعليه كُتُبَه، وأرسَلَه وأرسل إليه، وخاطَبَه وكلَّمه منه إليه، واتخذ منهم الخليل والكليم والأولياء والأحباء، وجعلهم محلَّ حكمته، وموضع حبه، ولهم خلَق الجنةَ والنارَ، فالخلق والأمر والثواب والعقاب مداره على النوع الإنساني الذي هو خلاصة الخَلْق، قال سبحانه: (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا)[الْإِسْرَاءِ: 70]، وقال تعالى: (الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ)[الرَّحْمَنِ: 1-4].
عباد الله: وكل إنسان ساعٍ في هذه الدنيا يبتغي كرامةَ نفسه ورفعتها، وينأى بها عن مهاوي الذلة والضِّعَة، حتى اختلفت بالناس السُّبُل طرائق قِدَدًا، كل يبتغي سبيلا إلى الكرامة، ويلتمس سببًا إلى الحظوة والرفعة، فمِنَ الناس مَنْ رأى الكرامةَ في قوة ومنعة، وكبرياء وأنفة وسرعان ما يسلب الله هذه القوة والمنعة فيحيلها ضَعْفًا وهوانا، وذلة وخزيا وصغارا، والأيام شاهدة والعبر ماثلة، (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ * فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ)[فُصِّلَتْ: 15-16].
ومنهم من حسب الكرامة والعزة في وفرة المال وكثرة المتاع وسعة الرزق وممدود النعم؛ فصار بها مغرورا مختالًا، وصار الناس في شأنه بين مفتون يطمع في مثل حاله، وموفَّق يرى بعين البصيرة دائرة السوء والصَّغار تحيط به، ويعلم بهداية الله له أنه قد مُكِرَ به، وقد حكى الله في كتابه عمن كان هذا حاله فقال عز وجل: (إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ)[الْقَصَصِ: 76]، إلى أن بيَّن خاتمة أمره بقوله -تعالى-: (فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ)[الْقَصَصِ: 81].
ولقد خُدِعَ فريقٌ بظاهر ما هو فيه من الكرامة الزائفة الزائلة؛ إيثارا منهم للنعيم العاجل على الآجل، فتمنَّوْا ما ناله؛ إذ خرَج عليهم بزينته: (قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)[الْقَصَصِ: 79]، فقابلهم الفريقُ الآخَرُ وهم أهل العلم والإيمان، الذين دلَّهم العلمُ على ترك الاغترار بالظواهر، ودلَّهم الإيمان على إيثار النعيم الآجل على العاجل: (وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ)[الْقَصَصِ: 80]، ويبلغ الأمر ببعض المنعَّمين أن يختال على ربه ويدل بنعمته عليه، يظن أن له عنده حقًّا أن يكرمه: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا)[الْكَهْفِ: 35-36].
وإن أبلغ الخَطْب أن يرى الإنسان المفتون بالنعم أن علامة إكرام الله له أن يُغدِق عليه من نعيم الدنيا، ويوسِّع عليه، وأن علامة إهانته له أن يقدر عليه رزقه، (فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِي * وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِي)[الْفَجْرِ: 15-16]، ومن الناس من يلتمس الكرامة في الجاه والمنزلة وعلو الصيت ونباهة الذِّكْر، فيسلك لذلك مسالك مرذولة، ويعمل أعمالا ممقوتة، يتخذها قربانا لقلوب الناس وثنائهم واستحسانهم وإعجابهم، فليس يبالي لو اتبع سخطَ الله وكره رضوانه، ما دام مكانه في الناس منظورًا، وذكَرَه مسطورًا، وشأنه مشهورا، وهذا السبيل مِنْ أَضَلِّ سُبُلِ طلبِ الكرامةِ، ولن يلبث أن تنقلب حال صاحبه ويرتد قصده عليه؛ جزاء وفاقا؛ فإن من التمس رضا الله بسخط الناس كفاه الله مؤنة الناس، ومن التمس رضا الناس بسخط الله وكله الله إلى الناس، كما في الحديث الذي أخرجه الترمذي في سننه عن عائشة رضي الله عنها.
وكل تلك السبل حائدة عن حقيقة الكرامة، ناكبة عن شريف مكانها، وهي سبيل إلى المهانة والضعة، والله المستعان.
نفعني الله وإياكم بما أنزله من البينات والهدى، وبارك لنا في سنة خير الورى، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه كان للأوابين غفورا.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، الحمد لله الذي أكرم أهل محبته بالطاعة، وألزمهم الحق واتباعه، وجنَّبَهم الباطلَ وسماعَه، أحمده -سبحانه-، والحمد واجب الإذاعة، وصلى الله وسلم على عبده ورسوله محمد، صاحب الحوض والشفاعة، سلاما دائما إلى أن تقوم الساعة.
أما بعد: فيا أيها المسلمون: إن سبيل الكرامة الحقة الذي يخطئه كثير من الناس، ولا يلقاه إلا الصفوة منهم إنما هو في متابعة النفس لرضا الله، وبلوغها غاية الجهد في طاعته، وإن غاية الكرامة لفي لزوم الاستقامة والجريان في مضمار الهداية، فلا كرامة لضالٍّ شقيٍّ، وإن تمتَّع من زخرف الدنيا بما تمتَّع؛ فإن الدنيا زهرة زاوية، والآخرة نعمة باقية، وحسنة دائمة، والعاقل لا يطلب الفاني بتضييع الباقي، ومن علم ذلك اطمأنت نفسُه وسكنت روحُه، فلا يبالي بفوات الدنيا بأسرها ما دام عند ربه كريما، ولا يبالي أَزْدَادَ في الناس ذِكْرُه أم نقص، ما دام عند ربه مذكورا، فهو على نور من ربه، يسير في ظل الكرامة في دنياه، ويرجو أن يبلغ غاية الكرامة في أخراه، فيدخل الجنة دار النعيم المقيم، ومستقر رحمة الرب الكريم، مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، جعلنا الله وإياكم ممن كَتَبَه في عباده المكرَمِينَ، في جنات النعيم، على سرر متقابلين.
ثم صلوا وسلموا على خيرته من خلقه، المصطفى لوحيه، والمنتَخَب لرسالته، من ختم الله به نبوته، وفتَح به رحمته، المرفوع ذِكْره، مع ذكره في الأولى، والشافع المشفَّع في الأخرى، كما أمركم بذلك -جل وعلا-: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56].
اللهم صل وسلم على عبدك ورسولك محمد، وعلى آله وصحبه، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة، الذين كانوا على الحق وبه يعدلون، وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين، اللهم ما سألناك من خير فأعطنا، وما لم نسألك فابتدئنا، وما قَصُرَتْ عنه آمالُنا وأعمالُنا من خيرَي الدنيا والآخرة فبَلِّغْناه، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، وأيِّد بالحق والتوفيق والتسديد إمامَنا ووليَّ أمرنا، اللهم اجعل عمله في رضاك، وخذ بناصيته للبر والتقوى، وأصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفقه وولي عهده لما فيه صلاح الإسلام وعز المسلمين يا رب العالمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، والموت راحة لنا من كل شر.
اللهم بفضلك عُمَّنا، وبلطفك حُفَّنا، وعلى الإسلام والسنة والجماعة جَمْعًا تَوَفَّنَا، تَوَفَّنَا مسلمين، وألحقنا بالصالحين، غيرَ خزايا ولا مفتونين، ولا مبدِّلين ولا مغيِّرين يا رب العالمين، اللهم اجعلنا من أهل الصلاح والاستقامة، وهيئ لنا سلوك سبيل الكرامة، ولا تخزنا يوم القيامة، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا، اللهم كن لهم معينا وظهيرا، ومؤيِّدًا ونصيرا، يا رب العالمين.
(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201]، (رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)[الْأَعْرَافِ: 23].
عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على فضله وآلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم