الكذب

محمد بن حسن المريخي

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ حث الإسلام على الأخلاق الحسنة وذمه للأخلاق السيئة 2/ ذم الإسلام للكذب وتحذيره منها 3/ مراتب الكذب 4/ أضرار الكذب 5/ المقصود بكذبة إبريل والتحذير منها 6/ انتشار الكذب عبر لآفاق 7/ حالات جواز الكذب

اقتباس

الكذب مذكور في كتاب الله في مائتين وثمانين آية جاءت هذه الآيات ذامة للكذب، ومبينة عاقبة الكاذبين، ومعلمة سخط الله وبغضه لهذا الخلق وأهله، فهو مذموم محرم على المسلم قولاً وفعلاً ضاحكاً به أو جاداً ومخادعاً أو محتالاً، ويكون...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله فهو المهتد، ومن يضلل فلا هادي له.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله ومصطفاه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، ومن اهتدى بهديه، وسار على دربه إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فيا أيها المسلمون: اتقوا الله ما استطعتم، واستمسكوا بشرعه وملته، والتزموا طاعته ومرضاته.

 

اتقوا الله واسمعوا وأطيعوا، واشكروه على نعمته وعافيته، فقد أسبغ عليكم النعم، ودفع عنكم النقم، وأسدى إليكم المنن، فاقدروا الله حق قدره، وثمنوا النعم، واشكروا منعمها.

 

عباد الله: إن الله -تبارك وتعالى- إذا أراد بعبده خيراً وفقه للصلاح والعمل الصالح والخلق الكريم؛ فكان أحسن المخلوقين، وإذا أراد بعبده سوءًا أوكله إلى نفسه بما كسبت يداه، فظهر فاسداً مفسداً، ذا خلق سيء، وطبع فاسد.

 

ولقد حرص الإسلام على أتباعه ليتحلوا بالأخلاق الكريمة، ويحذروا من الأخلاق السيئة التي تؤدي بمروءة المرء وشيمته ودينه، وتسقط آدميته وإنسانيته: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ) [النور: 21].

 

ومما حذر الله -تعالى- منه عباده ورسوله -صلى الله عليه وسلم-: خلق الكذب، وكفى بالمرء خسة أن يكون كذاباً يشار إليه من بعيد، وإذا ذكر الكذب تذكروا المتصف به.

 

أيها المسلمون: الكذب مذكور في كتاب الله في مائتين وثمانين آية جاءت هذه الآيات ذامة للكذب، ومبينة عاقبة الكاذبين، ومعلمة سخط الله وبغضه لهذا الخلق وأهله، فهو مذموم محرم على المسلم قولاً وفعلاً ضاحكاً به أو جاداً ومخادعاً أو محتالاً، ويكون اختراعاً لقصة لا أصل لها أو زيادة في القصة أو نقصاناً يغيران المعنى أو تحريفاً أو إخباراً عما لا وجود في الواقع بقصد التحايل، واجتلاب النفع، واستدفاع الضر وحب الظهور والبروز، ونيل المراتب المزيفة من رتب هذه الدنيا من الثناء والمدح والوصف بالمعرفة والثقافة، أو التشفي من إنسان بوصفه بأقبح الأوصاف، أو حب الترأس أو لسوء الطويّة، وقلة الأدب حتى ترادف عليه فألفه فصار عادة له ومنهجاً.

 

وأعظم الكذب: الكذب على الله ورسوله الذين يقولون على الله ما لم ينزل به سلطاناً يضللون الناس، ويصدون عن سبيل الله، فيقولون على الله ويفترون عليه الكذب، فيبتدعون البدع والطرق والسبل والمخالفات والتأويلات، ويقولون هذا من عند الله، وهذا دين رسول الله، وهذه سنته وهم يكذبون، يقول الله -تعالى- عن هؤلاء: (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) [الصف: 7]، وتوعدهم فقال: (وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ) [الأعراف: 182].

 

وتوعدهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبشرهم بمقعدهم في نار جهنم بقوله: "من كذب عليّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار".

 

أيها المسلمون: لقد وصف الله أهل الكذب بأقبح الأوصاف وذمهم ونفي عنهم الإيمان بآياته، فهم المنافقون ضعاف النفوس المخادعون خبثت نفوسهم وانتكست بصائرهم وظنوا أنهم سيخدعون الله -تعالى- كما يخدعون الناس، يقول تعالى: (إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ) [النحل: 105]، وقال جل وعلا: (يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة: 9 - 10].

 

ويكفي خسة بالكذب أنه لا يتصف به إلا شرار الخليقة المنافقون والشياطين واليهود والكفرة والمفسدون، يقول تعالى: (وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ) [المائدة: 103]، ويقول سبحانه: (وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون: 1]، ويقول جل وعلا: (أَلَا إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الصافات : 151 - 152].

 

وإن المتتبع لآيات الله –تعالى- يجد كل الوعيد والتهديد للكاذبين: (وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ) [الجاثية: 7]، والأفاك هو الكذاب في أقواله، والأثيم في أفعاله، وقال سبحانه: (قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ) [الذاريات: 10] (أي لعن وقبح الكذابون)، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "آية المنافق ثلاث: إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا أؤتمن خان"، وقال عليه الصلاة والسلام: "أربع من كن فيه كان منافقاً خالصاً ومن كانت فيه خصلة منهن كانت فيه خصلة من نفاق حتى يدعها: إذا حدث كذب، وإذا عاهد غدر، وإذا وعد أخلف، وإذا خاصم فجر" (رواه البخاري ومسلم).

 

أيها المسلمون: لخطورة الكذب على خلق المسلم ودينه ومروءته وشرفه حذر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أمته من الكذب أيّاً كان حاله مازحاً أو جاداً فيه، فقال: "إياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وإن الرجل ليكذب، ويتحرى الكذب، حتى يكتب عند الله كذاباً" (رواه البخاري ومسلم).

 

وإن المؤمن المسلم الحق لا يتصف بالكذب ولا يكون كذاباً ولا يرضى أن يلطخ إيمانه وإسلامه بما يشينه، سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أيكون المؤمن جباناً؟ قال: "نعم"، أيكون بخيلاً، قال: "نعم"، أيكون كذاباً، قال: "لا" (رواه مالك)، يقول ابن عبد البر: "معناه أن المؤمن لا يكون كذاباً يعني يغلب عليه الكذب حتى لا يكاد يصدق؛ لأن هذا ليس من أخلاق المؤمنين"، وعند مالك في الموطأ موقوفاً على ابن مسعود -رضي الله عنه-: "لا يزال الرجل يكذب ويتحرى الكذب فينكت في قلبه نكتة سوداء حتى يسود قلبه، فيكتب عند الله من الكاذبين"، فالمؤمن يمنعه إيمانه ويرده إسلامه عن الكذب ولو كان مازحاً لأن الكذب كله حرام وهو كبيرة من الكبائر، ولا صحة لمن يسمى بالكذبة البيضاء، بل الكذب كله أسود.

 

أيها المسلمون: لقد اعتاد الغافلون اللاهون أن يتعمدوا الكذب أو يحدثوا أحداثاً مكذوبة في أول الشهر الرابع الأفرنجي الميلادي يسمونها بكذبة إبريل، يضحك بعضهم بعضاً ويتعمد الكذب ليسجل موقفاً محرجاً لصديقه أو زميله أو يحدث ممازحة يمازح بها أصدقاءه وزملاءه ورفقاءه، فيقول: هذا مزاح، أو هذه كذبة بيضاء.

 

والبعض يحاول أن تكون كذبة إبريل قوية جداً، جهلاً منه وغفلة عما يسببه الكذب من مآس ومحن ، فيوقظ نائماً من نومه ليبلغه خبراً مفجعاً، أو يتصل بصاحبه أو قريبة وهو في بلده يستدعيه للمساعدة لمصيبة نزلت به، فإذا وصل إليه أخبره بكذبة إبريل، يقول عبد الله بن عامر -رضي الله عنه-: "دعتني أمي ذات يوم ورسول الله -صلى الله عليه وسلم- قاعد في بيتنا، فقالت: تعال أعطيك، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لها: "وما أردت أن تعطيه؟" قالت: أعطيه تمراً، فقال: "أما أنك لو لم تعطيه شيئاً كتبت عليك كذبة" (رواه أبو داود).

 

وتطور الكذب عند البعض حتى طارت الكذبة في الآفاق وعلى أعلى مستويات حتى بدا البعض لا يعرف الحديث والتحدث إلا كاذباً فاجراً فيكذب ليضحك الآخرين، ويكذب ليمازح المغفلين، ويكذب ليضيع حقوق الناس، ويكذب حتى يبدد جهود المخلصين، حتى صار الكذب فاكهة للبعض فلا يستغني عنه فهو كذاب قائما وقاعدا ومضجعا وآكلا وشاربا وأحيانا وهو نائم أو قبل نومه يصنع الكذب حتى إذا أصبح نشره، يقول رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم- في رؤيا منامه: "أتاني الليلة آتيان وإنهما قالا لي: انطلق، وإني انطلقت معهما فأتينا على رجل مستلق لقفاه، وإذا آخر قائم عليه بكلوب من حديد، وهي حديدة معوجة الرأس، وإذا هو يأتي أحد شقي وجهه فيشرشر شدقه إلى قفاه، ومنخره إلى قفاه، وعينه إلى قفاه، ثم يتحول إلى الجانب الآخر فيفعل به مثل ما فعل بالجانب الأول، فما يفرغ من ذلك الجانب حتى يصح ذلك الجانب كما كان، ثم يعود عليه فيعمل مثل ما فعل في المرة الأولى، قال: قلت: سبحان الله ما هذا؟ قالا لي: انطلق انطلق حتى قالا له: فأما الرجل الذي أتيت عليه يشرشر شدقه إلى قفاه ومنخره إلى قفاه وعينه إلى قفاه فإنه الرجل يغدو من بيته فيكذب الكذبة تبلغ الآفاق، يعني تنشر في الأرض وتحدث ما تحدث من الخراب والدمار والإشاعات" (رواه البخاري).

 

لقد أفتى البعض بأن الكذب أبيض وأسود، ولقد افتروا على الله الكذب: (وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ) [النحل: 116]، يقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "ويل للذي يحدث فيكذب ليضحك به القوم، ويل له ثم ويل له".

 

لقد تسببت: "كذبة إبريل" في مصائب ومشاكل ومحن؛ فمن أخبر بوفاة عزيز عليه، أو حدوث حادث لحبيب إليه، أو نزول مرض بصديق له، وأصيب البعض بأمراض السكر، وضغط الدم بسبب شدة الصدمة بالخبر المكذوب، وفقد البعض صوابه ورشده وعقله، وتقاطع البعض بسبب الكذب واللعب بدين الله والاستهتار بحدود الله والاستهزاء بزجر الله ورسوله: (فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُم مِّن ذِكْرِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ) [الزمر: 22].

 

فاتقوا الله -يا عباد الله- ولا تبطلوا أعمالكم ولا تفسدوا أخلاقكم، ولا تهدموا بنيانكم، فالكذب كله حرام، وهو سيئات وأوزار وآثام، وخسة للعبد في دنياه وبين الناس وصغار له.

 

وقد يفقد المرء الثقة فلا يصدقه الناس أبداً لكثرة كذبه عليهم.

 

وإن الكذب من أصحاب القدوات وذي المسؤوليات ليس كباقي الكذب فأثره كبير وخطره عظيم، ولا يجوز الكذب في الشريعة إلا في ثلاث مواضع يقول رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: الرجل يكذب في الحرب، والحرب خدعة، والرجل يكذب بين رجلين ليصلح بينهما، والرجل يكذب للمرأة ليرضيها بذلك" (رواه أحمد ومسلم بمعناه)، وقال رسولنا الكريم -صلى الله عليه وسلم-: "ليس الكذاب الذي يصلح بين اثنين أو قال: بين الناس، فيقول خيراً أو ينمي خيراً" (رواه البخاري ومسلم).

 

حفظ الله علينا ديننا وأخلاقنا.

 

 

المرفقات
إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات
عضو نشط
زائر
21-01-2021

الخطبة الثانية جزاكم الله خيرا

عضو نشط
زائر
23-02-2024

الحمد لله.

الحديث المذكور رواه مالك في "الموطأ" (2/990) (19) عن صفوان بن سليم أَنَّهُ قَالَ : " قِيلَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ جَبَانًا ؟ فَقَالَ: ( نَعَمْ ) ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ بَخِيلًا؟ فَقَالَ: ( نَعَمْ ) ، فَقِيلَ لَهُ: أَيَكُونُ الْمُؤْمِنُ كَذَّابًا ؟ فَقَالَ: ( لَا ).
ومن طريقه رواه البيهقي في "شعب الإيمان" (6/456) (4472).
وهو حديث ضعيف ؛ لأنه مرسل أو معضل ، إذ أن صفوان بن سليم لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ، فهو من التابعين ، فيحتمل أن يكون سقط من الإسناد راوٍ أو راويان غير الصحابي .
وقد قال ابن عبد البر في "الاستذكار" (8/575) : لَا أَحْفَظُ هَذَا الْحَدِيثَ مُسْنَدًا مِنْ وَجْهٍ ثَابِتٍ.
وقال الحافظ ابن حجر في "تخريج مشكاة المصابيح" (4/389): معضل.
وضعفه الألباني في ضعيف "الترغيب والترهيب" (1752).
والله أعلم.