عناصر الخطبة
1/الهلع صفة جبلِّية في الإنسان ونفيه عن المحافظين على الصلاة 2/من رحمة الله بعباده أن شرع الصلاة في أوقات تتناسب مع حاجاتهم 3/ماهية الصلاة وحقيقتها 4/بعض المشاهد الدالة على إهمال الناس للصلاة وعدم عنايتهم بها 5/حث الآباء على اصطحاب الأبناء عند الذهاب إلى المساجداقتباس
عبادَ الله: لم تكن هذه الصلاةُ أداءً بالبدن، وليستْ قضاءً للواجب، إنَّ الصلاةَ في حقيقتِها هي الصلةُ الروحيةُ بين الإنسانِ وخالقِه، يصعدُ فيها عن الدنيا بروحِه المشعَّثةِ المرهَقةِ، فتطهِّرَه الصلاةُ من الأدران، تصفِّي قلبَه، وتشرحُ صدرَه، وتُزيلُ همَّه، ليعودَ من جديدٍ إلى...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يُضللْ فلا هاديَ له، وأشهد ألا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسولُه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا.
أما بعد: عبادَ الله: أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فإن التقوى هي سبيلُ قبول الأعمال، قال تعالى: (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ)[المائدة: 27].
أيها المسلمون: وَصَفَ اللهُ الإنسانَ بشدةِ الهلع، فهو غيرُ متوازنٍ في حياتِه، تعصفُ به أحوالُ الزمانِ مِن شرٍّ وخيرٍ فيدور في دوامتِها، ويميلُ حيثُ مالت، هذه حقيقتُه وإن ادَّعى أو ظنَّ من نفسِه غيرَ ذلك، لكنَّ اللهَ عزَّ شأنُه استثنى من حالةِ الاضطرابِ الإنساني الدائمِ، استثنى المصلِّين: (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ)[المعارج: ١٩-22].
ثم ذكر صفاتِ أولئك المصلِّين، فبدَأها بالمداومَةِ على الصلاة، وخَتَمَهَا بالمحافظةِ على الصلاة، فكأنَّ المبتدأ والمنتهى بالصلاة، وكأنَّ صلاحَ الصلاةِ يُصلح باقيَ الأعمال.
ومن رحمةِ اللهِ بنا: أنْ جَعَلَ الصلاةَ وسيلةً عظيمةً للاتصالِ به، وتحقيقِ العِلاقةِ الوثيقةِ مَعَه تبارك وتعالى، تلكمُ الصِّلةُ اليوميةُ المتكررةُ خمسَ مرات، وفي أوقاتٍ مختلفة، راعتْ هذهِ الأوقاتُ الحاجاتِ الإنسانيةَ، ولاءمتِ الظروفَ الكونيةَ والفِطرية، فصارتْ أولُ صلاةٍ مع بدايةِ اليوم، ليستهلَّ الموظفُ والعاملُ والطالبُ جِدِّيَّته بصلاةِ الفجرِ، فيباركُ اللهُ في يومِهِ وعملِه؛ لأنَّه في ذمةِ اللهِ حتى يُمسي، ثم تمضي الساعاتُ بهذا الكادحِ حتى يستريحَ من الرَّهَقِ والتَّعب بصلاةِ الظهر، فتتجدَّدَ طاقتُه ويواصلَ عملَه، أو ربما ارتاحَ، لكنَّه لن يسرفَ في الراحةِ فأمامَه الصلاةُ الوسطى التي أكَّدَ اللهُ -سبحانه- المحافظةَ عليها فقال: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُواْ لِلّهِ قَانِتِينَ)[البقرة: 238].
يعودُ المسلمُ من جديدٍ لإنجازِ المشاغلِ وقضاءِ اللوازمِ حتى يحينَ داعي المغربِ فيقطعُ ما بين يديه، أو يتوقَّفُ في الطريق إلى ما هو سائرٌ إليه لأدائها، فهي فوَّاتةٌ ووقتُها قصير، وبين العشاءين ربما وصلَ رَحِمَهُ أو جَلَسَ في بيتِه أو قضى لازمًًا من لوازمِه حتى يحينَ العشاءُ فيصلِّيها ليكتملَ عِقْدُ يومِه، ويتوثقَ الحبلُ الممدودُ بينكَ وبيَن الله، وبعد العشاء أنجزَ الإنسانُ ما بقيَ من لوازمِ يومِه، وربما قضى بعضَ الوقتِ في الخُلطةِ بالآخرين، وبعضِ العبثِ والمرح، لكنه لن يُسرفَ في إنفاقِ وقتِه، فمِنْ ورائِه صلاةُ الفجر، ليستريحَ إلى النوم، وهكذا دواليك تستمرُّ دورةُ يومِه بهذه الطريقةِ التي صار عمودَها إقامةُ الصلاة، وصارت الصلاةُ هي الميقاتَ الأساسَ الذي يوقِّتُ به المسلمُ سائرَ يومِه، فأشغالُه مرتبطةٌ بها، وراحتُه قائمةٌ عليها، ومواعيدُه مؤقتةٌ بها، هي المبدأُ والمنتهى.
عبادَ الله: لم تكن هذه الصلاةُ أداءً بالبدن، وليستْ قضاءً للواجب؛ إنَّ الصلاةَ في حقيقتِها هي الصلةُ الروحيةُ بين الإنسانِ وخالقِه، يصعدُ فيها عن الدنيا بروحِه المشعَّثةِ المرهَقةِ فتطهِّرَه الصلاةُ من الأدران، تصفِّي قلبَه، وتشرحُ صدرَه، وتُزيلُ همَّه، ليعودَ من جديدٍ إلى الأرضِ، إلى الناس، إلى المشاغل، وقد تجددت روحُه، فلا يكسرُه همٌّ، ولا يُكدِّره غمٌّ، وهذا المعنى الذي طلبَ به الرسولُ -ﷺ- من بلال أن يُريحَه بالصلاة فقال: "أرحنا بها يا بلال".
هذه الصلاةُ هي الكتابُ الموقوتُ الذي ينظِّم حياةَ الإنسان كلَّها: ينظِّمُ وقتَه وأعمالَه وأولوياتِه، وأهمُّ من ذلك: أنه ينظِّمُ علاقتَه مع ربِّه -سبحانه وتعالى-: هل هي علاقةٌ موصولةٌ بحبلٍ متين؟ أم بحبلٍ مهترئٍ بالٍ متشقق؟
هذه الصلاة التي أوجبها الله على المسلم، لكن -يا عبدَ الله- شاهد ولن تحتاج للتأمل، شاهدْ حالَ الشبابِ مع الصلاة، تجدْ بعضَ الموظَّفين قد وقَّت حياتَه بناءً على وظيفتِه، فالنومُ والاستيقاظُ مؤقَّتان على موعدِ الوظيفة، والأعمالُ والاجتماعاتُ تُبنى على الوقتِ الوظيفي.
أما الصلاةُ فلا حاجةَ لإقامتِها جماعةً في وقتها؛ إنما يؤدِّيها متى سنحت الفرصة، وكأنها عبءٌ إضافيٌّ أو شيءٌ هامشيٌّ يُنجز حسب الظروف والأهواء.
شاهدْ تجدْ بعضَ الشبابِ قد وقَّت حياتَه بناءً على مرحِه ولهوه، مواقيتُه قائمةٌ على جداولِ المبارياتِ وعبثِ الاستراحات.
وأما الصلاةُ فيجمعُها، ثم ينقرُها، ثم تُلفُّ كما يُلفُّ الثوبُ الخَلِقُ فيُضربَ بها وجهُه، وهي تقول: ضيَّعكَ اللهُ كما ضيَّعتني.
وإذا التفتَّ لحالِ بعضِ البناتِ تجدهنَّ يسمعنَ المؤذِّنَ فيتراخين عن إقامةِ الصلاةِ في أولِ وقتِها أو يتثاقلنَ الاستيقاظَ من النومِ لأدائها، حتى إذا ذهب الوقتُ الفاضلُ نَفَضْنَهَا في وقتِ الاضطرار، فهل لأجلِ ذلك فُرضَت الصلاة؟ وهل تحققتْ مقاصدُها العُظمى بهذا الشكل؟ وهل هذهِ الصلاةُ هي التي تنهى عن الفحشاءِ والمنكرِ؛ كما في قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ)[العنكبوت: 45]؟ أم هي الصلاةُ التي يستعينُ بها الإنسانُ على النوائبِ والصعابِ؛ كما في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ)[البقرة: 45]؟ أم لعل هذه الصلاةَ هي التي تُذهبُ السيئاتِ كما في قوله تعالى: (وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ)[هود: 114]؟
بل تلكَ صلاةُ الغافلين، صلاةُ الخُلُوفِ الذين سيلقون الخسارةَ والعاقبةَ السيئةَ؛ كما توعَّد اللهُ -عز شأنه- بقوله: (فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا)[مريم: 59].
تلك الصلاة هي التي تحقق الويل لصاحبها؛ كما قال تعالى: (فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ)[الماعون: 4-5].
عبادَ الله: إن الصلاةَ صلاحُ الدينِ والدنيا، ونجاةُ الآخرةِ والأولى.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه.
أما بعد: عباد الله: ما أجلَّ ذلك المنظر الذي نراه الآن في صلاةِ الجمعة وفي سائرِ الصلواتِ خاصةً الفجر؛ حين يصحبُ الوالدُ أبناءَه معه إلى الصلاةِ، فلا يخرجُ من المنزلِ إلا بهم، يتسابقون إلى الصفِّ الأولِ وتكبيرةِ الإحرام، فيكونُ خيرَ قدوةٍ لهم، وتكونُ الصلاةُ السلوكَ الأصيلَ الذي تقومُ عليه حياتُهم.
إنَّ مشروعَ صلاحِ الأبناءِ وجعلَهم مقيمي الصلاةِ مِن أعظمِ مشاريعِ الإنسانِ في الدنيا والآخرة، وهو همٌّ نبويٌّ جليلٌ دعا به إبراهيم -ﷺ- فقال: (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء)[إبراهيم: 40].
وأمر الله رسولَنا الكريمَ أن يأمرَ أهلَه بها، قال تعالى: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا)[طه: 132] فهل نحن نحمل هذا الهمّ والمسؤولية؟!
ربنا اجعلنا مقيمي الصلاةِ ومن ذرياتِنا ربنا وتقبلْ دعاءنا.
ربنا هبْ لنا من أزواجِنا وذرياتِنا قرةَ أعين، واجعلنا للمتقين إماما.
اللهم ارفعْ عنا الوباء والغلاء، اللهم ارفع عنا الوباء والغلاء، اللهم ارفع عنا الوباء والغلاء.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، اللهم أصلحْ أحوالَ المسلمين في كل مكان، وولِّ عليهم خيارَهم.
اللهم وفقْ وليَّ أمرِنا لما تحب وترضى، وخذ بناصيتِه للبر والتقوى، اللهم وفقه ووليَّ عهده لما فيه خيرُ البلادِ والعباد.
اللهم صل وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم