الكبر

الشيخ أحمد بن ناصر الطيار

2022-10-10 - 1444/03/14
عناصر الخطبة
1/الكبر صفة مختصة بالله وحده 2/النهي عن الكبر 3/مفاسد الكبر ومخاطره 4/علامات المتكبرين 5/كبر العباد والزهاد 6/كبر العلماء وطلبة العلم

اقتباس

فالكِبْرُ والعُجْب داءان مهلكان, والمتكبر والمُعْجَب سقيمان مريضان, وهما عند الله ممقوتات بغيضان. الكِبْرُ عباد الله حمقٌ ورداءةُ عقل, قيل لبعضهم: ما الكِبر ؟ قال: حُمْقٌ لم يَدْرِ صاحبُه أين يضعُه. ولا يتكبر أحدٌ إلا بشعوره بالنقص في داخله, فالمتكبر ناقصٌ مهزوز الثقة بنفسه, يرى أن فيه عيبا ونقصا وانحطاطا, لا يزيله إلا...

 

 

 

 

 

الحمد لله ذي العظمة والكبرياء, ذلَّت لعظمته أنوفُ العظماء, ودانت لجبروته المُلوكُ والرؤساء, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, مَن نازعه الكبر صيَّره من الأذلاء, ومن تواضع لأجله أنزله منازل السعداء، وأشهد أن نبينا محمدا عبدُ الله ورسوله, سيدُ المتواضعين, يكره ويبغض الجَبَابِرَةَ المتكبرين, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه الطيبين الطاهرين, والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين, وسلم تسليما كثيرا.

 

أما بعد:

 

فاتقوا الله عباد الله: واعلموا أنَّ لِله تعالى صفاتٍ تفرَّد بها عن خلقه, لا يجوز لأحدٍ الاتصاف بها, ومن هذه الصفات الكبر، قال الله تعالى: (هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ) [الحشر: 23].

 

فلا يليق بالمخلوق الضعيف: أن يتكبر على عباد الله, ولا أن يدخلَه العُجْب والغرور.

 

فالكِبْرُ والعُجْب داءان مهلكان, والمتكبر والمُعْجَب سقيمان مريضان, وهما عند الله ممقوتات بغيضان.

الكِبْرُ عباد الله حمقٌ ورداءةُ عقل,  قيل لبعضهم: ما الكِبر ؟ قال: حُمْقٌ لم يَدْرِ صاحبُه أين يضعُه.

ولا يتكبر أحدٌ إلا بشعوره بالنقص في داخله, فالمتكبر ناقصٌ مهزوز الثقة بنفسه, يرى أن فيه عيبا ونقصا وانحطاطا, لا يزيله إلا بإظهاره للناس عكس ذلك, فَيَتَصَنَّع الكبر والغطرسة والغرور, فيرى أنه بهذا قد كمُل, وهو عند الناس أحقر من نعله, وأَرْدَأُ من حمار أهله.

 

وقد ذم الله الكبر في مواضع من كتابه, وذم كل جبار متكبر؛ فقال تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ) [الأعراف: 146].

 

فالمتكبر مصروفٌ عن الحق والهدى؛ لأنه أقل وأَحْقَرُ من أنْ يُعطاه، قال تعالى: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ) [غافر: 35].

 

فالمتكبر مطبوع على قلبه, مختوم على فؤاده, والمسكينُ لا يشعر بذلك أبدا.

 

والمتكبرون هم أهل النار وحطامُها؛ قال صلى الله عليه وسلم: "تَحَاجَّتِ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ, فَقَالَتِ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ, وَقَالَتِ الْجَنَّةُ: مَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ وَسَقَطُهُمْ, قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلْجَنَّةِ: أَنْتِ رَحْمَتِي, أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي, وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي, أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي, وَلِكُلِّ وَاحِدَةٍ مِنْكمَا مِلْؤُهَا"[متفق عليه].

 

والكبر مختص بالله وحده, فويل لمن أردا أن يكون شركا لله بصافته، قَالَ الله تعالى في الحديث القدسي: "الْكِبْرِيَاءُ رِدَائِي، وَالْعَظَمَةُ إِزَارِي، فَمَنْ نَازَعَنِي وَاحِدًا مِنْهُمَا قَذَفْتُهُ فِي النَّارِ"[رواه أبو داود وصححه الألباني].

 

والمتكبر مُتوّعَّدٌ بعدم دخول الجنة، قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: "لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرٍ"[رواه مسلم].

 

وما عصى إبليسُ ربَّه, وهو أول العاصين, إلا لمِا اَسْتقر في قلبه من الكبر: (قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ) [ص: 76].

 

بل إن الكبر أشر وأخطر من الشرك، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "التكبر شَرٌّ من الشرك، فإن المتكبر يتكبر عن عبادة الله تعالى، والمشرك يعبد الله وغيره".

 

يا مظهر الكبر إعجابا بصورته *** انظر خلاك فإنّ النّتن تثريب

لو فكّر النّاس فيما في بطونهم *** ما استشعر الكبر شبّان ولا شيب

هل في ابن آدم مثل الرّأس مكرمة *** وهو بخمس من الأقذار مضروب

أنف يسيل وأذن ريحها سهك *** والعين مرفضّة والثّغر ملعوب

يا بن التّراب ومأكول التّراب غدا *** أقصر فإنّك مأكول ومشروب

 

 

                                  

أيها المتكبر! من أنت؟ ومِمَّن خلُقت؟ ومن أين خرجت؟ وما هو مآلك.

 

أجب على هذه الأسئلة لتعرف قدرَك.

 

فأما من أنت, ومِمَّن خُلقت, وما هو مآلك, فيجيبك مالك بن دينار رحمه الله, حينما مرَّ عليه المهلب بن أبي صفرة متبختراً، فقال له: أما علمتَ أنها مِشية يكرهها الله إلا بينَ الصَّفينِ؟ فقال المهلَّبُ: أما تعرفني؟ قال: بلى، أوَّلُك نُطفة مَذِرَة، وآخِرُك جيفةٌ قذرة، وأنت فيما بين ذلك تحمِل العَذِرَة. فانكسر، وقال: الآن عَرَفْتَنِي حقَّ المعرفة.

 

وأما من أين خرجت, فيجيبك الأحنفُ بنُ قيس رحمه الله بقوله: عجبتُ لمن يجري في مَجرى البَول مرَّتين، كيف يتكبَّر!.

 

ومن تكبر لنسبه وحسبه, فهذا من جهله وقلَّة عقله, حيث تعزز وافتخر بكمال غيره, ولذلك قيل:

 

لئن فخرتَ بآباءٍ ذوي شرف *** لقد صدقت ولكنْ بئس ما وَلدوا

 

فالمتكبر بالنسب: إن كان خسيساً في صفاته, فكيف يَجْبُرُ خِسَّتَهُ بكمال غيره؟

 

واعلموا أيها المسلمون: أن الكبر له علامات, فبها يعرف أحدنا أنه متكبر أو لا, فالكلُّ يدعي أنه بريء من الكبر والغرور, وأنه من المتواضعينَ غايةَ التواضع, فلْيسمع كلُّ واحد منا لهذه العلامات, ليعرف هل هو متواضعٌ أم هو متكبر:

 

فمن علامات الكبر والأشر: أن ترى لك فضلاً على من هو دونك من المسلمين.

 

قال بعض السلف: كفى بك من الكبر أن ترى لك فضلاً على من هو دونك.

 

وقال سفيان بن عيينة رحمه الله: من رأى أنه خير من غيره فقد استكبر، وذلك أنَّ إبليس، إنما منعه من السجود لآدم عليه السلام، استكباره.

 

فاحذر أن تظن أنك خيرٌ من أحدٍ من المسلمين, وأنك أفضل منه, وأعلم وأتقى منه, ولو كان ليس على ظاهره الصلاح والتقى، فالله تعالى يقول: (فَلَا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى) [النجم: 32].

 

ومن علامات الكبر أيضا: رد الحق إذا جاء من صغير أو حقير, وعدمُ قبوله لأجل حقارَة قائله.

 

وقد سئل الفضيلُ رحمه الله عن التواضع ما هو؟ فقال: أن تخضع للحق, وتنقاد له, ولو سمعته من صبي قبلته, ولو سمعته من أجهل الناس قبلته.

 

قال ابن القيم رحمه الله: ومن تكبر عن الانقياد للحق- ولو جاءه على يد صغير أو من يُبغضه أو يُعاديه- فإنما تكبُّره على الله، فإن الله هو الحق، وكلامه حق، ودينه حق، والحق صفته ومنه وله، فإذا رده العبد وتكبر عن قبوله: فإنما رد على الله وتكبر عليه [مدارج السالكين 2/333)].

 

واحذر أن تكون ممن قال الله فيهم: (وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ) [البقرة: 206].

 

ومن علامات الكبر أيضا: احتقار الناس وازدراؤهم.

 

قَالَ صلى الله عليه وسلم: "الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وَغَمْطُ النَّاسِ"[رواه مسلم].

 

بَطَرُ الْحَقِّ: أي التكبر على الحق فلا يقبله، وَغَمْطُ النَّاسِ: احتقارهم والاستهانة بهم.

 

فالمتكبر يحتقرُ الفقراء والْمُعْوِزين, ويأنفُ أن يأكلَ أو يجلسَ معهم, واسْألْ نفسك: هل طلبتَ ولو مرةً واحدةً من خادمك وعاملك: أن يأكل أو يجلِسَ معك؟

 

ولْتَسْأَلِ المرأةُ نفسها: كم مرةٍ طلبت من خادمتها أن تشاركها الطعام, وكم مرةٍ شاركتها الحديث والكلام, أم أنها تترفع من ذلك وتستقبحه، فإن لم يسمى هذا كبرا فما يسمى؟

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.

 

أقول ما تسمعون, وأستغفر الله لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

 

الخطبة الثانية

 

الحمد لله رب العالمين, جعل الرفعة لعباده المتواضعين، والذِّلَّ والصغار على المتكبرين, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، إلهُ الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله, صلى الله عليه, وعلى آله وأصحابه, وسلم تسليمًا كثيراً إلى يوم الدين.

 

أما بعد:

 

فاعلموا أيها المسلمون: أن أخطر أنواع الكبر وأشنعه, نوعٌ لا يوفِّي حقه لسان, ولا يأتي على شناعته بيان, ولا يخطر على قلب إنسان.

 

إنه كِبْرُ العبَّاد الزاهدين, وكِبْرُ العلماء والمتعلمين.

 

فأما كِبْرُ العبَّاد الزاهدين, فقد قيل لبعض السلف: أيُّ الكِبْرِ أشر؟ قال: كبر العبادة.

 

قال ابن القيم رحمه الله: "وأكثر الناس من المتنزهين عن الكبائر الحسية والقاذورات, في كبائرَ مثلِها أو أعظمَ منها, ولا يخطر بقلوبهم أنها ذنوب ليتوبوا منها, فعندهم من الإزراء على أهل الكبائر واحتقارهم, وصولة طاعاتهم ومنتهم على الخلق بلسان الحال, واقتضاء بواطنهم لتعظيم الخلق لهم على طاعاتهم, اقتضاء لا يخفى على أحد غيرهم, وتوابع ذلك ما هو أبغض إلى الله, وأبعد لهم عن بابه من كبائر أولئك"[مدارج السالكين 1/187)].

 

فلْنتق الله معاشر المسلمين, ولْيحذر أحدُنا إذْ أنعم الله عليه وهداه, وأصلحه وزكاه, أن يحتقر العصاة والمذنبين, فالذي أضلهم قادرٌ أن يضلك, فبدلاً من احتقارهم والتسخط عليهم, ادْعُ اللهَ بالهداية لهم, وقُمْ بِمُنَاصحتهم برفقٍ ولين.

 

وأما الكِبْرُ الصادر من العلماء والمتعلمين, فهو وإن كان في العلماء الربانيين من المحال, لكنه قد يصدر ممن قل نصيبه من الدين والإيمان.

 

فما أبشعَ الكبر ممن سلكَ طريقَ العلم, وتصدَّر لإفتاءِ الناس وتعليمِهم.

 

قال صاحب الإحياء: وسبب الكبر بالعلم أمران:

 

الأمر الأول: أن يكون اشتغاله بما يسمى علماً, وليس علماً حقيقياً, فالعلم الحقيقي: ما يَعرف به ربه ونفسه, وخطرَ أمرِه في لقاء الله تعالى والحجابِ منه, وهذا يورث الخشية والتواضع، قال تعالى: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء) [فاطر: 28].

 

الأمر الثاني: أن يخوض العبد في العلم وهو خبيث الدخيلة, رديء النفس, سيءُ الأخلاق, فإنه لم يَشْتَغِلْ أولاً بتهذيب نفسه, وتزكية قلبه, فبقي خبيث الجوهر.

 

وقد ضرب وهْبُ بنُ مُنَبِّهٍ لهذا مثلا فقال: العلم كالغيث ينزل من السماء حلواً صافياً, فتشربه الأشجار بعروقها, فتحوله على قدر طعومها, فيزداد المر مرارة والحلو حلاوة.

 

وكذلك العلم يزيد المتكبر كبراً, والمتواضع تواضعاً.

 

العلم من أعظم ما يُتَكَبَّرُ به, ولذلك قال تعالى لنبيه: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشعراء: 215]..

 

ومن أمثلة الكبر مِن حَمَلة العلم وطلاب العلم: محبتهم للتَّصَدُّر في المجالس، ولفتِ الأنظار لهم.

 

ومن ذلك: كراهة أحدهم أن يُنادى باسمه أو كنيته، ولا يرضا إلا بأن ينادى بالشيخ فلانٍ، ونحو ذلك.

 

ومن ذلك: أن يترفَّع عن مخالطة الناس والعوام، ويرى أن ذلك حطٌّ من قدره.

 

ومن ذلك عدم ثني الركب عند العلماء وسؤالهم، ويرى أنه قد حوى علماً يغنيه عنهم.

 

اللهم جنبنا الكبر والغرور، وجنبنا الفتن والشرور، يا رب العالمين.

 

 

 

 

 

المرفقات

5

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات