الكبر

محمد بن عبدالله السحيم

2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/ المتكبر مهين وضيع القدر 2/ ذم الكبر في الشرع ووعيده 3/ معنى الكبر وكيف يكون 4/ أنواع الكبر 5/ علاج داء الكبر

اقتباس

وما تكبّر امرؤ على من دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه. والكبر مطيّة السفه والزلل؛ لأنه... عباد الله: وداء الكبر كامن في نفوس البشر الظلومة الجهولة إلا من سلّمه الله، وغالبًا ما يبدو عند إهمال النفس وتَرْكِها تَلغُ في أهوائها دون تزكية أو مجاهدة، سيما إن أذكى أوارَ الكبر مهيّجٌ مما قد تضعف النفوس أمامه. ومن تلك المهيجات...

 

 

 

 

الخطبة الأولى: 

إن الحمد لله؛ نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.
 

أما بعد:

(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ) [النساء: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ) [آل عمران: 102]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا) [الأحزاب: 70].
 

أيها المؤمنون: تجاهُل الأقدار من سمات الخَرَق وضروب السفه. ويقبح ذلك إن ترفّع به المرء وتاه إعجابًا بنفسه وكِبرًا على غيره؛ فالكِبر فضل حمق لم يدر صاحبه أين يضعه، وشؤم وباله على صاحبه مذهِبٌ شرفَ دنياه وآخرته، فالمتكبر مهينٌ وضيعُ القدر، يقول عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه-: "مَنْ تَطَاوَلَ تعظُّمًا خَفَضَهُ الله"، وقال الحسن البصري: "المتكبر كالصاعد فوق الجبل يرى الناس صغارًا ويرونه صغيرًا".

وما تكبّر امرؤ على من دونه إلا ابتلاه الله بالذلة لمن فوقه. والكبر مطيّة السفه والزلل؛ لأنه أعظم مانع من قبول الحق وإن تجلّى، يقول الله تعالى: (سَأَصْرِفُ عَنْ آَيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ) [الأعراف: 146]، ويقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "مَا مِنْ آدَمِيٍّ إِلَّا فِي رَأْسِهِ حِكْمَةٌ -وهو مَا يَجْعَل تَحت حنك الدَّابَّة يمْنَعهَا الْمُخَالفَة- بِيَدِ مَلَكٍ، فَإِذَا تَوَاضَعَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ارْفَعْ حِكْمَتَهُ، وَإِذَا تَكَبَّرَ قِيلَ لِلْمَلَكِ: ضَعْ حِكْمَتَهُ". رواه الطبراني وحسنه الهيثمي والمنذري وجوّده الذهبي. وما اكـتُسبت البغضاء بمثل الكبر؛ لاشتماله خسيسَ المعايب، يقول الشافعي: "الْكِبْرُ فِيهِ كُلُّ عَيْبٍ".

عباد الله: والدار الآخرة إنما جُعلت للذين سلموا من وضر الكبر ودنسه، يقول الله -تعالى-: (تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا...) [القصص: 83]؛ إذ الوعيد بالعذاب لاحقٌ كلَّ متكبر، قَالَ رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فيما يرويه عن رب العزة: "الْعِزُّ إِزَاري، وَالْكِبْرِيَاءُ رِدَائي، فَمَنْ يُنَازِعُنِي عَذَّبْتُهُ". رواه مسلم.

عذاب مهانة في الحشر والمصير، يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "يُحْشَرُ المُتَكَبِّرُونَ يَوْمَ القِيَامَةِ أَمْثَالَ الذَّرِّ فِي صُوَرِ الرِّجَالِ يَغْشَاهُمُ الذُّلُّ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ، فَيُسَاقُونَ إِلَى سِجْنٍ فِي جَهَنَّمَ يُسَمَّى بُولَسَ تَعْلُوهُمْ نَارُ الأَنْيَارِ، يُسْقَوْنَ مِنْ عُصَارَةِ أَهْلِ النَّارِ طِينَةَ الخَبَالِ". رواه الترمذي وحسنه، وحسنه البغوي والألباني.

وأشد الوعيد حرمان دخول الجنة بحبة خردل من كبر تحلُّ في القلب، يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ أَحَدٌ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِنْ كِبْرِيَاء". رواه مسلم.

وذلك الوعيد الشديد متحقق بأقل مقدار: مثقال حبة من خردل، وأسهل تصرف: جرِّ إزارٍ، يقول الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "ثَلاثَةٌ لا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ وَلا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، فَقَرَأَهَا رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ثَلاثَ مِرَارٍ، قَالَ أَبُو ذَرٍّ: خَابُوا وَخَسِرُوا! مَنْ هُمْ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَالَ: "الْمُسْبِلُ، وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ". رواه مسلم.
 

أيها المسلمون: إنما كان هذا الوعيد والعذاب الشديد على تلكم الخصلة الذميمة؛ لأجل منازعة العبدِ الحقيرِ ربَّه القديرَ فيما هو من خصائصه التي لا يشاركه فيها أحد؛ فالكبرياء من خصائص الربوبية، كما أن فيه -بل هو الأصل الذي نشأ منه- العجبَ بالنفس والتِّيهَ بتعظيمها فوق قدرها وجحودَ نعمة الرب -سبحانه- ونسيانَها.

وكذلك، فإن هذا التكبر من أعظم ما يستطيل به العبد على الخلق ويغرق في ظلمهم، يقول رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ: أَنْ تَوَاضَعُوا؛ حَتَّى لا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ". رواه مسلم.
 

معشر المؤمنين: وحقيقة الكبر الذي يمنع من دخول الجنة مثقالُ الذرة منه، بيّنها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أوضح البيان فيما رواه مسلم؛ إذ يقول: "لا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ"، فقَالَ رَجُلٌ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحِبُّ أَنْ يَكُونَ ثَوْبُهُ حَسَنًا وَنَعْلُهُ حَسَنَةً، قَالَ: "إِنَّ اللهَ جَمِيلٌ يُحِبُّ الْجَمَالَ، الْكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ، وَغَمْطُ النَّاسِ".

فالكبر يكون بفعل أحد أمرين: رد الحق بعد اتضاحه وعدم قبوله، واحتقار الناس بأي صورة: في هيئة أو نسب أو مهنة أو مال أو جنسية. فليس الكبر بسكنى القصور وركوب الفواره وارتداء نفيس الثياب واقتناء جيِّد المتاع، كلا، بل هو ردُّ الحق واحتقار الناس. فأبصر -يا رعاك الله- ذينك الأمرين في قلبك وفعلِك؛ فالميزان مثقال ذرة!! والعقاب حرمان جنة!!

عباد الله: وداء الكبر كامن في نفوس البشر الظلومة الجهولة إلا من سلّمه الله، وغالبًا ما يبدو عند إهمال النفس وتَرْكِها تَلغُ في أهوائها دون تزكية أو مجاهدة، سيما إن أذكى أوارَ الكبر مهيّجٌ مما قد تضعف النفوس أمامه. ومن تلك المهيجات الشهرة وكثرة الأتباع، فقد رَأَى ابْنَ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه- نَاسٌ فَجَعَلُوا يَمْشُونَ خَلْفَهُ، فَقَالَ: "أَلَكُمْ حَاجَةٌ؟!"، قَالُوا: لا، قَالَ: "ارْجِعُوا؛ فَإِنَّهَا ذِلَّةٌ لِلتَّابِعِ فِتْنَةٌ لِلْمَتْبُوعِ". رواه ابن أبي شيبة.

والثراء المالي من مهيجات الكبر، كما قال الله -تعالى-: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى) [العلق: 6، 7].

والقدرات والمواهب التي يفيضها المولى على العباد ويختبرهم بها كثيرًا ما تحمل أصحابها على الكبر والبطر، وأيُّ إعجاب بشيء ليس للمرء يد في إيجاده؟! والمنصب والجاه قرينان للكبر إلا من عصمه الله.

والتعصب الجاهليّ الباطل مما لم يُبنَ على أساس متين من الحق مهيّج للكبر، يقول رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللَّهَ -عَزَّ وَجَلَّ- قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَفَخْرَهَا بِالآبَاءِ. مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، وَفَاجِرٌ شَقِيٌّ. أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ. لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ، إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللَّهِ مِنَ الْجِعْلانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتِنَ". رواه أبو داود وحسنه المنذري والألباني.

وأما أسوء المتكبرين حالاً وأبأسهم عذابًا، فهو ذلك الشقيُّ الذي زها بنفسه وتكبّر على غيره ولم يكن عنده ما يدعو إلى ذلك كالفقير المستكبر، يقول رَسُولُ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَلَا يُزَكِّيهِمْ، -قَالَ أَبُو مُعَاوِيَةَ: وَلا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ-، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ: شَيْخٌ زَانٍ، وَمَلِكٌ كَذَّابٌ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ". رواه مسلم.

 

 

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

وبعد:

فاعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله...
 

أيها الإخوة في الله: وشفاء داء الكبر المقيت إدراكُ مغبّة خطره وألمِ عقابه، ولزومُ خصلة التواضع؛ وذلك بأن يستحضر المرء حقيقة حاله؛ كما قال الأحنف بن قيس -رضي الله عنه-: "مَا يَنْبَغِي لِمَنْ خَرَجَ مِنْ مَخْرَجِ الْبَوْلِ مَرَّتَيْنِ أَنْ يَفْخَرَ"، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: "مَا بَالُ مَنْ أَوَّلُهُ نُطْفَةٌ مَذِرَةٌ، وَآخِرَهُ جِيفَةٌ قَذِرَةٌ، وَهُوَ بَيْنَ ذَلِكَ وِعَاءٌ لِقَذَرِهِ، أَنْ يَفْخَرَ".
 

يا مظهرَ الكبرِ إعجـابًا بصـورته *** انظـر خلاك فـإن النتن تثريبُ
لو فكّر النـاس فيـما في بطونهمُ *** ما استشعر الكِبْرَ شبانٌ ولا شيبُ
هل في ابن آدم مثلُ الرأس مكرمةٌ *** وهو بخمس من الأقـذار مضروبُ
أنـف يسـيل وأذن ريحها سهك *** والعين مرفظة والثغـر ملعـوبُ
يا ابن التراب ومأكولَ التراب غدًا *** أقصر فإنك مأكول ومشـروبُ

وليلزم مريدُ السلامةِ نظرة التواضع التي أبانها بكر بن عبد الله المزني -رحمه الله- في قوله: "إذا رأيتَ أكبرَ منك فقل: سبقني بالإسلام والعمل الصالح؛ فهو خير منّي، وإذا رأيت أصغر منك فقل: سبقته بالذنوب والمعاصي؛ فهو خير منّي، وإذا رأيت إخوانك يكرمونك فقل: نعمة أحدثوها، وإذا رأيت منهم تقصيرًا فقل: بذنب أحدثتُه".

وليباشر من الأعمال ما يَكْسِرُ به شَرَهَ نفسه حين تنازعه للكبر دون إذلال، فقد مرّ عبد الله بن سَلام -رَضِي الله عَنهُ- فِي السُّوق وَعَلِيهِ حزمة من حطب، فَقيل لَهُ: مَا يحملك على هَذَا وَقد أَغْنَاك الله عَن هَذَا؟! قَالَ: أردْت أَن أدفَع الْكبر؛ سَمِعت رَسُول الله -صلى الله عَلَيْهِ وَسلم- يَقُول: "لا يدْخل الْجنَّة من فِي قلبه خردلة من كبر". رَوَاهُ الطَّبَرَانِيّ وحسنه المنذري.

وكَانَ أَبُو سِنَانٍ يَشْتَرِي الشَّيْءَ مِنَ السُّوقِ فَيَحْمِلُهُ، فَيَأْتِيهِ الرَّجُلُ، فَيَقُولُ لَهُ: يَا أَبَا سِنَانٍ: أَنَا أَحْمِلُهُ لَكَ، فَيَأْبَى، وَيَقُولُ: (إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ) [النحل: 23].
 

اللَّهُمَّ اهْدِنِا لأَحْسَنِ الأَعْمَالِ وَأَحْسَنِ الأَخْلَاقِ لا يَهْدِي لِأَحْسَنِهَا إِلَّا أَنْتَ، وَقِنِا سَيِّئَ الْأَعْمَالِ وَسَيِّئَ الْأَخْلَاقِ لَا يَقِي سَيِّئَهَا إِلَّا أَنْت، نعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ مِنْ نَفْخِهِ وَنَفْثِهِ وَهَمْزِه.
 

 

 

 

المرفقات

2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات