القوي الأمين (بمناسبة الانتخابات)

د. منصور الصقعوب

2022-10-11 - 1444/03/15
عناصر الخطبة
1/ تأملات في قصة نبي الله موسى عليه السلام مع صاحب مدين وابنتيه 2/ حاجة الأمة للرجال الأكفاء 3/ القوة والأمانة أهم صفتان لمن يقوم بالعمل 4/ وصايا للناخبين والمرشحين 5/ بلاء الأمة من تصدُّر الضعيف والخائن 6/ وجوب تقديم الكفء في سائر الأمور.

اقتباس

القوي الأمين مطلبٌ لكل منصب, وهدف لكل ولاية, ومقصد لكل عمل, وهما خلتان بهما تحسن الأعمال وتصلح الأحوال وفيهما يرغب الرجال. إذا تولى المناصبَ من تحقق فيه ذلك فالخير منتظر, وإذا تولى المناصب من تخلف عنه ذلك فقد وسد الأمر إلى غير أهله.. إن أكثر ما تشكو الأمة ممن تخلُّف فيه تينك الصفتين, فالقوي إن لم يكن أميناً كانت قوته في الشر، والأمين إن لم يكن قويا لم يكن ذا أثر, فإن لم يكن قويا ولا أميناً فذلك بلية البلايا وما أكثرهم في زماننا...

 

 

 

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله.....

 

حين خشي موسى -عليه السلام- بطش فرعون, اتجه إلى مدين كي يأمن, وبينما هو فيها خائف يترقب, هارب من فرعونَ, إذ به يقف أمام بئرٍ يرتوي منها الناس لأغنامهم وأنفسهم, كلٌ يزاحم ويشرب ويروّي, لكن الذي لفت نظره امرأتان قد ابتعدتا عن الناس وانتظرا جمع الرجال يتفرق, سألهما موسى متعجباً ما بالكما لا تسقيان مع الناس فقالتا (لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) [القصص: 23].

 

 لن نخالط الرجال في السقي ونزاحمهم وقد أُلجئنا لذلك العمل فوالدنا كبير لا يقدر على السقي لنفسه, وحين تفرق الرجال وضعوا صخرة على رأس البئر ومضوا فبقيت البنتان أمام الصخرة بلا سقي, تلك الصخرة التي وضعت يجتمع عليها العدد من الرجال كي يضعوها فمن ذا الذي يحملها, دنا موسى من الصخرة وحملها بكل شجاعة وقوة حتى استقت المرأتان ثم ردّ الصخرة لحالها وهو في كل هذا غاضّ بصره عافّ لسانه حافظ فرجه.

 

في البيت أبو البنتين يستمع لما حصل من موقف شهم شجاع, وقوة من ذلك الرجل الغريب, قرر دعوته لبيته مكافئة له, حملت الدعوة ابنته, جاء موسى; ملبيا دعوته, تقول الأخبار بأنه تقدم أمام البنت كي لا يراها وهي سائرة تسفعها الرياح فربما حجمت بعض أعضائها, وحين قص موسى خبره على شعيبٍ والد البنتين, قدّمت إحداهما لأبيها اقتراحا مفاده: استأجره كي يخدمك ويكفينا مغبة مخالطة الرجال وعناء الرعي, وذكرت فيه صفتين تؤهلانه لكل عمل (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) [القصص: 26].

 

بالله ما أحلى المنطق, وما أشد فراسة المرأة, وما أكمل عقلها إذ حكت بأن من يولى ويستأجر, من حقق القوة والأمانة, ولا عجب فهما أهم صفتين تطلبان في كل من يتولى عملاً.

 

القوي الأمين مطلبٌ لكل منصب, وهدف لكل ولاية, ومقصد لكل عمل, وهما خلتان بهما تحسن الأعمال وتصلح الأحوال وفيهما يرغب الرجال.

 

إذا تولى المناصبَ من تحقق فيه ذلك فالخير منتظر, وإذا تولى المناصب من تخلف عنه ذلك فقد وسد الأمر إلى غير أهله.

 

معشر الكرام : إن أكثر ما تشكو الأمة ممن تخلُّف فيه تينك الصفتين, فالقوي إن لم يكن أميناً كانت قوته في الشر، والأمين إن لم يكن قويا لم يكن ذا أثر، ولذا كان عمر يقول: "أشكو إلى الله جلد الفاجر وعجز الثقة", فإن لم يكن قويا ولا أميناً فذلك بلية البلايا وما أكثرهم في زماننا.

 

ويبقى القوي الأمين عملةٌ نادرة, ورقمٌ صعب, فالناس كالإبل المائة حين تبحث عن الراحة لا تكاد تجدها, وقد قيل: "إذا اجتمعت هاتان الخصلتان في القائم بأمرك، فقد فرغ بالك، وتم مرادك".

 

إن القوة والأمانة هي التي حملت يوسف -عليه السلام- على أن يعرّض نفسه لتحمل المسؤولية في وقت الشدة، فالأمة قادمة على سبع شداد سمتُها الجوع، وشعارها شدُّ الأحزمة، ولما تقدم لم يقل إني نبي كريم، بل قال إني حفيظ عليم، فهذا قوام القوة في هذه المهمة، ولقد احتاج إلى أن يعرض نفسه في أمة لم تكن تعرف قدر رجالها، لقد رأى أن تحمل المسؤولية في وقت الشدائد من خصائص الرجال الذين يرون تحملها مغرماً لا مغنماً.

 

والنماذج في أمة الإسلام ممن حققوا هذين كثيرة وفيرة

ولكن الأهم هنا يا فضلاء, من هو القوي الأمين, وما معنى القوة والأمانة.

       

القوة هي قوة البدن, وقوة الفكر, من فطنة وكياسة، وسرعة بديهة، وحسن تصرف، والأمانة أمانة الدين, وهما يختلفان باختلاف الأشخاص والأزمان والأعمال, قال ابن تيمية: "وينبغي أن يُعرف الأصلحُ في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة، والقوة في كل ولاية بحسبها: فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال: من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر، والقوة في الحكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام".

والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس.

 

عبد الله: يا من توليت مهمة للمسلمين الله اللهَ أن تولي من لا يستحق, فالمناصب والأعمال, لا تولى بالقرابة أو المعرفة, بل تولى من اتصف بالقوة والأمانة.

 

كم بُليت مصالح المسلمين من جرّاء تولية غير الكفء لأنه قريب أو صاحب, كم تعطلت منافع المسلمين جراء تفريط مسئول ليس بأمين, وكم تئن بعض مدارسنا من مدرس أمين غير قوي, أو قوي غير أمين.

 

يا من توليت أمراً لا تستجلب دعوات المسلمين عليك بوضع غير القوي, الأمين, وقد روي عن ابن عباس قوله: "من استعمل رجلاً من عصابة وفيهم من هو أرضى لله منه فقد خان الله و رسوله و المؤمنين".

 

وأنت -يا مبارك- راءٍ في المجتمع من تقصُر عنه تلك الصفتان كثير, سترى قوياً لا يؤتمن, وأميناً عاجزاً, واكتمال القوة والأمانة في امرئٍ نادر, وهنا يبقى تقديم من له منهما حظ أكبر.

 

وقد سئل الإمام أحمد عن الرجلين يكونان أميرين في الغزو، وأحدهما قوي فاجر، والآخر صالح ضعيف مع أيهما يُغزى؟ فقال: "أما الفاجر القوي فقوته للمسلمين، وفجوره على نفسه، وأما الصالح الضعيف فصلاحه لنفسه وضعفه على المسلمين، فيغزى مع القوي الفاجر".

 

وهنا يا كرام فنحن لا نطالب دائماً بتسليم المناصب للمتدين, بل للكفء ولو كان لديه بعض القصور, فالمصطفى ; عيّن في الحرب القوي, برغم أنه كان في الصحابة من هم أتقى وأورع, لأن القوة في الجيش تطلب أكثر من الأمانة, وهكذا يا موفق أنت حين تريد أن تولي أحداً على عملٍ عليك التحري في الكفء كلٌ بحسبه.

 

قال ابن تيمية: "ولذلك كان النبي ق يستعمل الرجل لمصلحةٍ مع أنه قد كان يكون مع الأمير من هو أفضل منه في العلم والإيمان".

 

وبعد يا كرام: فالقوة والأمانة صفتان تطلبان في حق كل امرئٍ, ولو وُلي القوي الأمين في مجالاتنا لتلاشت كثير من مشاكلنا, فجلّ القصور هو من تولي غير الكفء, وإذا صارت معاييرنا في تولي المناصب أي منصب هي القرابة, والمعرفة, والصداقة, والقبيلة, فالأمور إلى اضطراب, وحينها ستوسد الأمور إلى غير أهلها, حمانا الله جميعاً من كل سوء.

 

اللهم صل على محمد...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله وحده..

 

حديث الساحة اليوم هو عن الانتخابات, بين متفائل ومحبط, بين مرشح ومنتخب, بين مؤيد ومعارض, ما بين طامح في الترشح, ممنٍ نفسه بالتقدم, وما بين مثبط لا يفتأ عن تثبيط غيره من المشاركة, وليس بنا اليوم التطويف حول كل هذا, لكننا أمام هذا الحراك, وبما أن الحديث حول القوي الأمين, يطيب لنا أن نذكر بأمور:

 

أولاً: أتخايل ذلك الرجل وهو يتوجه لمراكز الانتخاب ليقدم نفسه كمرشح للجماهير, يدور في ذهنه أمور كثيرة, يمنّي نفسه أن يكون من المقدمين, ويتخيل نفسه في وسط المجالس.

 

 دعني -يا مبارك- أقول لك: حين تفكر في تقديم اسمك كمرشح فعليك أن يتفقد هاتين الصفتين فيك: القوة والأمانة, فإن وجدتا وأحب المرء نفع أمته, فهو مأجور إذا طاب مقصده, وقد طلب يوسف ; تولي الخزائن حين خاف أن يتولاها من ليس يحسن, وإن لم تكن كذلك فانج بنفسك, فالقضية ليست منصباً شرفياً, بل عمل ومشروع, وقد قال المصطفى لأبي ذر: "إني أراك ضعيفاً وإني أحب لك ما أحب لنفسي, لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم".

 

وإذا كان الحديث عن الضعف والقوة فالفطرة الإنسانية هي أن المرأة ضعيفة, وقد قال عليه السلام "إني أحرّج حق الضعيفين اليتيم والمرأة"، فعملٌ كهذا ينبني عليه مخالطة للرجال, وخروج منها بلا ضرورة, لا يجوز للمرأة أن تمارسه, أو تترشح له, لما ينبني عليه من مفاسد, ومن انفتاح أبوابٍ لا تُرتضى, والولاية هي للرجال لا لغيرهم.

 

 وليس عيباً في المرأة أن ترتبط في بيتها فَمِن البيوت تبدأ صناعة المجتمع والجيل, وربنا ? أكد على ذلك فقال (وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ) [الأحزاب: 33] وقال (لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ) [الطلاق: 1]، وقال (وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا) [يوسف: 23]، ولم يقل في بيت سيدها, وقال (وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آَيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ) [الأحزاب: 34]، فهل يجوز للمرأة أن تقدّم نفسها كمرشحة وفي الأمر ما تقدم, وفي مجتمعنا من الرجال من هم أقوياء أمناء؟!

 

ثانياً: بغض النظر عن مقدار الصلاحيات الممنوحة لهذه المجالس فإن مما ينبغي التأكيد عليه التواصي بتسجيل الأسماء كناخبين, كي يكون لك دور في اختيار القوي الأمين, وإن اللغة التثبيطية التي نراها اليوم في مجالسنا ربما كان نتيجتها غداً أن تذوب الأكثرية في الأقلية, وأن يتسنم هذه المجالس من لا ترضاه ديناً ولا دنيا.

 

 والواقع يقول بأن ثمة قوماً يعدّون لإبراز صوتهم عبر هذه الانتخابات, فإن كان ثمة صلاحيات كان لهم حظوة, وإن لم يكن قالوا للناس أن المجتمع يريدنا, الليبراليون اليوم في تواصٍ كبير, وإعداد وتهيئة, لا سيما في مدن التأثير, الرافضة اليوم يعدون العدة, وقد قال خطيبهم في الجمعة الماضية: المشاركة في الانتخابات هو إثبات لجدارتنا لحقوق أكبر, فما هي هذه الحقوق التي يريدون!

 

كل هذا الأمر يا كرام نريد منه أن يكون لي ولك دور في اختيار القوي الأمين, قال الشيخ البراك -حفظه الله-: "إذا طُلب من الناس أن ينتخبوا فينبغي لطلاب العلم وأهل الخير أن يشاركوا باختيار الأصلح في أمور الدين والدنيا من المرشحين, حتى لا يستبد الجهال والفساق وأهل الأهواء باختيار من يوافق هواهم, ففي مشاركة أهل الخير تكثير للخير وتقليل للشر بحسب الاستطاعة".

 

ثالثاً وأخيراً: يبقى أهمية التواصي والتواصل مع أهل القوة والأمانة وحثهم على الترشح, وأن يتولى هذا الأمر من يحسن إدارة الأمر كما يقال, وإن أخشى ما أخشاه أن نفاجأ غداً بقوم فسدت مناهجهم ومرجت عهودهم, ولا يجد الناس من يرشحونه ممن يرضون قوته وأمانته.

 

نعم نحن ليس مطلبنا أن يتولى المشايخ, بل نريد من لديه القوةُ الأمانة ولو لم يكن متديناً, نريد من لديه مشروع يبغي نفع المسلمين, ليست قضيتنا أن نسد المكان, بل مرادنا أن يتولى الكفء.

 

وبعد عباد الله: فهذا حديث عن القوي الأمين, واليقين أن هاتين الصفتين, بهما صلاح الدنيا وصلاح الدين, فإن أردت أن تتولى فاتصف بهما, وإن أردت أن تولِّي فتلمس من اتصف بهما, ولا تكن الثالثة فتُهلِكَ وتَهْلَك.

 

اللهم....

 

 

المرفقات

الأمين (بمناسبة الانتخابات)

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات