عناصر الخطبة
1/ ضوابط القوة البشرية واستخداماتها 2/ المواضع التي تُمدَح فيها القوة وتُذَم 3/ أهمية اجتماع القوة والأمانة 4/ أشرف مواضع القوة 5/ القوة في أخذ الدِّين، وعلو الهمّة في تطبيقه.اقتباس
إن من المحزن أن ترى كثيراً من الشباب لا ينظر إلى الدراسة والتعليم إلا على أنها نمط اجتماعي، ووسيلة للحصول على لقمة العيش فحسب، أمّا أن يراها سبباً في رفع الجهل عن النفس وعن الأمة، وسبباً في الرقي بالأمة، والنهوض بها إلى مدارج الكمال فهذا نادر وقليل..! وإنني لأحمِّل الآباءَ جزءاً من المسؤولية في هذا، فالتربية لها أثرها في ذلك ولا شك.
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله...، أما بعد:
فإن من المفردات التي يحبها الإنسانُ بفطرته مفردةُ القوة، ألم تفتخر عادٌ بقوتها حين جاءتهم الرسل: (فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً؟ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ) [فصلت: 15].
وهذه القوة تتخذ ألواناً شتى، وتتقلب على معانٍ مختلفة .. وإذا تجاوزنا حديثَ القرآن عن اسم الله القوي، وصفة القوة لله -عز وجل-؛ فإننا سنجد حديثاً آخر عن القوة عند هذا المخلوق الضعيف .. متى يكون محموداً عند استعمالها، ومتى يكون مذموماً.
إن هذه القوة في الأصل محمودة ومطلوبة في الأعم الأغلب، لكنها تنقلب وبالاً على صاحبها إذا لم يوظفها التوظيف الصحيح الذي يتفق مع مراد الله، عش مع هذه الحسرات التي يعيشها أولئك الذين استخدموا القوة في غير محلها: (وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ) [البقرة : 165].
وهذا قارون يقول -متكبراً-: (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) فذكَّره بأن هذه القوة العلمية والحسية التي تفتخر بها قد سبقك بها أقوام: (أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ) [القصص : 78].
ولهذا لما هدد الله قريشاً -ومن هم على شاكلتها- قال: (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ)[غافر: 21].
أيها المسلمون:
إن الوحيين -كتاباً وسنة- لم يتركا هذه المفردة هملاً، بل تَحدثا عنها بحديث يبيّن المواضع التي تُمدح فيها القوة وتذم .. وفي هذا المقام سنركز الحديث عن القوة في القرآن، الذي هو مصدر الهداية الأول لنا.
ولعل من المواضع اللافتة للنظر -لمن تدبر القرآن- التركيز على وصفي "الأمانة" و"القوة" في أداء المهام والأعمال التي تُناط بالإنسان:
1) فهل تخفى قصة نبي الله موسى -صلى الله عليه وسلم- مع صاحب مدين -في سورة القصص-؛ ذلك الرجل الذي كان عاجزاً عن طلب الماء فخرجت ابنتاه للسقيا، بيد أنهما تأخرتا انتظاراً لصدور الناس عن البئر، إلا أن مروءةَ موسى وشهامته حملته على أن يبادر -من غير أن ينتظر سؤالهما- بقضاء حاجتهما، والسقيِ لهما.
فأعجبَ هذا الفعلُ الفتاتين، فذكرتاه لوالدهما المقعد عن العمل، فأرسل في طلبه، فلما جاء وحدثه بخبره، قالت له إحداهما -وهي العالمة بعجز والدها عن القيام بمهام الرجال-: (يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)[القصص : 26] فتأمل قولها: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ) تعليل لطلبها، فالقوة: في العمل، والأمانة: في أدائه على الوجه المطلوب.
2) وفي قصة نبي الله يوسف -لما طَلَبَ تولي إدارة المال في زمان العزيز- ذكر هذين الوصفين للملك فقال: (اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ)[يوسف : 55]، "أي: حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محلِّه، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصاً من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرَّف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه" (تفسير السعدي ص(400).
3) وثالث هذه المواضع التي مدحت فيها القوة والأمانة: ما جاء في قصة سليمان -عليه السلام- وهو يعرض على من كان عنده أمر إحضار عرش بلقيس ملكة سبأ: (قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ)[النمل : 38 ، 39].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله، معلقاً على ما سبق من الموضع الثلاثة الماضية بكلام نفيس-: "وينبغي أن يعرف الأصلح في كل منصب، فإن الولاية لها ركنان: القوة والأمانة؛ كما قال تعالى: (إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ)...، والقوة في كل ولاية بحسبها؛ فالقوة في إمارة الحرب ترجع إلى شجاعة القلب، وإلى الخبرة بالحروب والمخادعة فيها، فإن الحرب خَدْعَةٌ، وإلى القدرة على أنواع القتال- من رمي وطعن وضرب وركوب وكر وفر...- والقوة في الحُكم بين الناس ترجع إلى العلم بالعدل الذي دل عليه الكتاب والسنة، وإلى القدرة على تنفيذ الأحكام.
والأمانة ترجع إلى خشية الله، وألا يشتري بآياته ثمناً قليلاً، وتركِ خشية الناس، وهذه الخصال الثلاث التي اتخذها الله على كل من حَكم على الناس في قوله تعالى: (فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) [المائدة : 44]..".
إلى أن قال -رحمه الله-: "واجتماع القوة والأمانة في الناس قليل، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: اللهم أشكوا إليك جلد الفاجر وعجز الثقة، فالواجب في كل ولاية الأصلح بحسبها"(ينظر: السياسة الشرعية -مع تعليق شيخنا العثيمين عليها- ص(42-63) باختصار وتصرف).
وكان -رحمه الله- قد قال كلمة ينبغي أن نعيها جيداً -معشر المسلمين- وهي قوله: "ثم إن المؤدي للأمانة -مع مخالفة هواه- يثبته الله، فيحفظه في أهله وماله بعدَه، والمطيع لهواه يعاقبه الله بنقيض قصده؛ فيذل أهلُه، ويذهب مالُه، وفي ذلك الحكاية المشهورة:
أن بعض خلفاء بني العباس سأل بعض العلماء أن يحدثه عما أدرك؟ فقال: أدركتُ عمر بن عبد العزيز، فقيل له: يا أمير المؤمنين! أقفرتْ أفواه بنيك من هذا المال، وتركتهم فقراء لا شيء لهم -وكان في مرض موته- فقال: أدخِلوهم علي، فأدخلوهم، وهم بضعةَ عشر ذكراً، ليس فيهم بالغ، فلما رآهم ذرفت عيناه، ثم قال: يا بَنَيّ! والله ما منعتكم حقاً هو لكم، ولم أكن بالذي آخذ أموالَ الناس فأدفعها إليكم، وإنما أنتم أحد رجلين: إما صالح؛ فالله يتولى الصالحين، وإما غير صالح؛ فلا أترك له ما يستعين به على معصية الله، قوموا عني!
قال هذا العالم -الذي يحكي هذه القصة-: فلقد رأيتُ بعض بنيه حَمَل على مائة فرس في سبيل الله! يعني أعطاها لمن يغزو عليها.
ثم قال -أي هذا العالم الذي يحدث بهذه القصة ويعظ ذلك الخليفة العباسي-: وحضرتُ بعض الخلفاء، وقد اقتسم تركتَه بنوه، فأخذ كلُّ واحدٍ منهم ستّمائة ألف دينار، ولقد رأيتُ بعضهم يتكفف الناس!" أي: يسألهم بكفه! (ينظر: السياسة الشرعية -مع تعليق شيخنا العثيمين عليها- ص(29-31)، وسيرة عمر بن عبدالعزيز: (338).
عباد الله: ومن المواضع التي امتدح اللهُ بها القوة، بل وأمر بها، في الإعداد للجهاد في سبيل الله: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ)[الأنفال: 60].
وهذا يشمل جميع أنواع القوة العلمية والحسية.
وإذا تحدث الإنسانُ عن القوة، فإن من أشرف المواضع التي ينبغي التنبه لها -ونحن نتحدث عن موضوع القوة- موضعان:
الأول: القوة في العبادة، ومَن تدبر القرآن جيداً أدرك كم هو الثناء العاطر الذي أثنى الله به على سادة الخلق من الأنبياء والرسل -عليهم الصلاة والسلام- في هذا الباب، قال تعالى وهو يثني على بعض رسله:(وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ)[الأنبياء : 73]، وقال سبحانه يثني على جميع رسله: (أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا)[مريم: 58].
ولقد كان نبينا -صلى الله عليه وسلم- أقوى الناس عبادة، ما يترك شيئاً التزمه حتى ولو كان في حالٍ من الضعف .. حتى قيام الليل إذا فاته صلاّه من الغد، وكان في آخر حياته يصلي بعض صلاته جالساً من الضعف الذي لحقه في بدنه، لكنه لم يترك تعبده لربه -سبحانه وتعالى-.
الموضع الثاني: من المواضع الشريفة لاستخدام القوة: القوة في أخذ الدِّين، وعلو الهمّة في تطبيق جميع ما يستطيع من شعائره، استمعوا ماذا قال ربكم لنبيه يحيى عليه السلام: (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا)[مريم: 12]، وقبله قال الله لموسى وقومه: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ)[الأعراف : 145]، وقال لقومه خصيصاً: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)[البقرة : 63].
ومع وضوح هذه الأوامر القرآنية في هذه المسألة؛ إلا أن الإنسان ليتألم جداً من حال كثير من الناس اليوم الذين يقرءون هذه الآيات ولا تحرك فيهم ساكناً!! بل وجد في الناس -خصوصاً بعد هذا الضخ الفضائي للفتاوى التي يتحدث فيها من هب ودبّ- من يتتبع الرُّخَص، ويبحث عن أيسر قولٍ يسوِّغ له فعل هذا الأمر الذي اختُلف في تحريمه، أو يبحث عن مسوغ لترك ذاك الأمر الذي اختُلف في وجوبه! فضَعُف التدين، ورقّت العبوديةُ بمعناها الخاص، وظهر جيلٌ من الناس دينُهم مرقّع، ويحسبون أنهم مهتدون!
ويزداد العتبُ أكثر على من كان يوماً من الأيام معتزاً بشعائر دينه التي كان يفعلها تديناً وطاعة -مِن حرص على صلاة الجماعة، وإعفاء للحية، وتقصير للثوب- فإذا بها مع ضعف التدين تعدو عليها العوادي! ولأحبابنا هؤلاء نقول كما قال الله: (فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ)[الأعراف: 145].
نسأل الله تعالى للجميع الهداية والثبات على دينه، والقوة في الأخذ بالدين.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة...أقول قولي هذا وأستغفر الله...
الخطبة الثانية:
الحمد لله...، أما بعد:
فبعد هذا الحديث الموجز عن القوة في القرآن -يا عباد الله- أليس من المهم أن نستشعر هذا المعنى جيداً، ونربِّي عليه أنفسنا، ونربي عليه أبناءنا -وهم يستعدون لاختبارات نصف العام- وأن نذكِّرهم بأن الأمة أشد ما تكون حاجة إلى الطالب القوي في علمه، القوي في تحصيله، الجاد في أداء عمله، وأن التفوق الدراسي ليس مطلباً اجتماعياً أو دنيوياً فحسب؛ بل هو مطلب شرعي، ألسنا نحفظ قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير"؟! (مسلم ح(2664)
إن من المحزن أن ترى كثيراً من الشباب لا ينظر إلى الدراسة والتعليم إلا على أنها نمط اجتماعي، ووسيلة للحصول على لقمة العيش فحسب، أمّا أن يراها سبباً في رفع الجهل عن النفس وعن الأمة، وسبباً في الرقي بالأمة، والنهوض بها إلى مدارج الكمال فهذا نادر وقليل..! وإنني لأحمِّل الآباءَ جزءاً من المسؤولية في هذا، فالتربية لها أثرها في ذلك ولا شك.
اللهم أصلح قلوبنا .. وأعمالنا .. واجعلنا ممن يأخذ دينه بالقوة التي تحبها.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم