عناصر الخطبة
1/ بعض أسرار الحجرات النبوية 2/ كيف كانت حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- وأهل بيته؟ 3/ فضل القناعة والرضا بما قسم الله 4/ أهمية القناعة في حياة المسلم 5/ ذم التكاثر وسؤال الناس بدون سبب مقنع 6/ الذل والهوان في الطمع 7/ أفضل الغنى غنى القلب.اقتباس
ليست العبرة بكثرة المال ووفرته، لتتحقق السعادة، ويطمئن القلب، وتسكن النفس كلا.. بل عماد ذلك كله في القناعة والرضا بما قسم الله، ولو كان قليلاً، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان. فالقناعة تناقض اللهث خلف سراب الدنيا، والطمع في متاعها الزائل، وظلها الفاني، فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلاً، ويمقت الحرام ولو كان كثيرًا، وقناعته لا تُقعده عن الكسب الحلال، والتزود من متع الدنيا ومباحاتها،.. والنفس إذا لم تُلجَم بلجام من الاعتدال شطَّت وتمردت، حتى تغلب صاحبها، فلا يقوى على أَطْرِها! فيتوسع في المشتريات، ويسرف في التزود من الكماليات، دون تدبير، أو حسن تقدير...
الخطبة الأولى:
الحمد لله..
عباد الله: في مجلس الذكريات النبوية، دلفت السيدة الكريمة أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها-، وهي تخاطب ابن أختها عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- تحكي له بعبرات الشوق، ودموع الحنين، طرفًا من تلك الرحلة المحمدية، وشيء من أسرار تلك الحجرات النبوية، تلكم البقعة المطهرة التي شهدت عبق نزول وحي السماء، وتدثرت بعباءة المحبة والصدق والإخلاص، إنه شوق المحب لحبيبه، وتلهف المشتاق..
إذ كان عروة يسأل أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- عن عيش النبي -صلى الله عليه وسلم- فإذ بالخبر الذي يفجأه! والجواب الذي لم يكن يتوقعه! حيث قالت: "يا ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقدت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار، فقلت: ما كان يعيشكم؟ قالت: الأسودان؛ التمر والماء" (أخرجه البخاري).
بل و"كان فراش رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- من أدم وحشوه من ليف" (متفق عليه).
يا لله .. ما أعظم هذه القدوة! وما أجلَّ هذه الأسوة!
لقد ضرب النبي -صلى الله عليه وسلم- النموذج الأمثل في القناعة والرضا، قولاً وعملاً، ولا غرابة فقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يدعو الله أن يرزقه القناعة، فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان يدعو: "اللهم قنِّعني بما رزقتني، وبارك لي فيه، واخلف على كلِّ غائبة لي بخير" "أخرجه الحاكم، وصححه ووافقه الذهبي".
إذن – معاشر المؤمنين- ليست العبرة بكثرة المال ووفرته، لتتحقق السعادة، ويطمئن القلب، وتسكن النفس كلا.. بل عماد ذلك كله في القناعة والرضا بما قسم الله، ولو كان قليلاً، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الآخرين، وهي علامة على صدق الإيمان.
قال المناوي في تعريف القناعة هي: "الاقتصار على الكفاف" (التعاريف لابن المناوي: 275).
أيها المؤمنون: "القناعة نعمة جسيمة، ورزق واسع، وحصن حصين، وألفة دائمة، وراحة عظيمة، وعيش صافٍ، ودعة للبدن، وعزة للنفس، وصيانة للعرض، وحياة طيبة، وسلامة وعافية فإن وفق صاحبها للصواب في التمييز، واختيار ما يستحق به الاصطفاء صفا من الشكوك وعصمه الله (وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) [الحديد: 23] " (الآمل والمأمول للجاحظ).
القناعة – يا عباد الله- متعلقة بالرضا، فإذا رضي العبد عن ربه، وأيقن بعدله ورحمته، وامتلأ قلبه بالثقة بموعوده، قنع بما قسم الله له، كما قال الله -جل وعلا- في كتابه (أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا) [الزخرف: 32].
القناعة –أيها الكرام- تناقض اللهث خلف سراب الدنيا، والطمع في متاعها الزائل، وظلها الفاني، فالمؤمن يقنع بالحلال ولو كان قليلاً، ويمقت الحرام ولو كان كثيرًا، وقناعته لا تُقعده عن الكسب الحلال، والتزود من متع الدنيا ومباحاتها، لكنها تناقض الحسد لمن آتاه الله رزقًا وفيرًا، وتناقض تكليف النفس فوق طاقتها طمعًا في الاستكثار، مما يشغل النفس ويلهيها.
(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ * حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) [التكاثر: 1-2].
ومما يروى من موعظة جعفر الصادق لابنه موسى: "يا بني! مَن قنَع بما قُسِمَ له استغنى، ومن مدَّ عينيه إلى ما في يد غيره، مات فقيرًا" (سِيَر أعلام النبلاء).
وقال الحسن: "يا ابن آدم! إن كنت تطلب ما يكفيك فأدنى ما في الدنيا يكفيك، وإن لم يقنعك ما يكفيك فليس شيء من الدنيا يغنيك" (الآمل والمأمول للجاحظ).
والنفس –أيها الكرام- إذا لم تُلجَم بلجام من الاعتدال شطَّت وتمردت، حتى تغلب صاحبها، فلا يقوى على أَطْرِها! فيتوسع في المشتريات، ويسرف في التزود من الكماليات، دون تدبير، أو حسن تقدير، فتتضخم ميزانيته، وتتضاعف مصروفاته، وتتوالى ديونه، ولقد صدق من قال: "من اشترى ما لا يحتاج إليه، باع ما يحتاج إليه".
وقد قيل: "التقدير نصف العيش"، وهو ما يعبَّر عنه في المصطلحات المعاصرة بـ"الميزانية المالية للفرد أو العائلة أو المؤسسات".
ولقلة القناعة عند البعض استمرءوا –والعياذ بالله- سؤال الناس، والوقوف بأبوابهم، وإذلال أنفسهم لهم، ليس عن قلة أو حاجة، بل تكثرًا من المال، متناسين أو متجاهلين الوعيد الشديد الوارد في ذلك. فعن أَبي هريرة -رضي الله عنه-، قَالَ: قَالَ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ سَألَ النَّاسَ تَكَثُّراً فإنَّمَا يَسْألُ جَمْراً؛ فَلْيَسْتَقِلَّ أَوْ لِيَسْتَكْثِرْ" (أخرجه مسلم).
وقد قيل: تجنَّب السؤال فإنه يُذهِب ماء الوجه، وأعظم من هذا استخفاف الناس بك.
قال أحد الحكماء: "يا بني! ذقت الطيّبات كلها فلم أجد أطيب من العافية، وذقت المرارات كلها فلم أجد أمرَّ من الحاجة إلى الناس، ونقلت الحديد والصخر فلم أجد أثقل من الدَّيْن".
والعز كل العز في القناعة، والذل والهوان في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزًا بينهم، والطماع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعًا: "شرف المؤمن قيامه بالليل، وعزه استغناؤه عن الناس" (الحلية لأبي نعيم).
وكان محمد بن واسع -رحمه اللّه تعالى- يبل الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد".
وقال الحسن -رحمه الله تعالى- : "لا تزال كريمًا على الناس، ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم، فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك".
أيها المؤمنون: ومع كثرة ما أفاء الله به على كثير من الناس، من توفُّر المال، وتيسر الوظائف الحكومية والخاصة، وتهيؤ فرص كثيرة لسبل الراحة ورغد العيش –ولله الحمد-إلا أن كثيرا منهم لا يقدِّر النعمة التي وُهِبَت له، وربما تطلَّع إلى ما عند غيره، فيفقد لذة ما بين يديه!
وكل ذلك عائد إلى ضعف القناعة في النفوس، ومد أعينها إلى ما ليس عندها، فتصاب بالألم والحسرة، وتقع فريسة للمقارنات، واللهث خلف سراب التوسع في المباحات، وفي الحديث الصحيح عند الإمام مسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال: "انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم؛ فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم" (أخرجه مسلم).
قال أحد الحكماء: "سرور الدنيا أن تقنع بما رُزِقْتَ، وغمها أن تغتم لما لم ترزق".
وقيل: "العبيد ثلاثة: عبد رِقّ، وعبد شهوة، وعبد طمع".
فكم من أسير لشهوته، مطيع لهواه، أوثقت يداه، وألجم فاه لأنه كان عبدًا للطمع.
وقد قيل: "من أراد أن يعيش حرًّا أيام حياته فلا يسكن قلبَه الطمع".
بارك الله لي ولكم ..
الخطبة الثانية:
في نصوص الوحيين المطهرين، والسراجين المنورين، سلوة للقلوب، وأنس للأرواح، وطمأنينة للقلوب، ومع استغراق فئام من الناس في وحل الماديات، ولهثهم خلف حطام الدنيا، وتناسيهم أن السعي فيها وسيلة لا غاية، كان من علامة التوفيق أن يتدبر المؤمن هذه النصوص العظيمة، لما فيها من زيادة ثقة العبد بموعود ربه، وحسن الظن به، وتمام التوكل عليه؛ فإن من أعظم ما يمنح للقنوع الفلاح والبشرى في الدنيا والآخرة: فعن فضالة بن عبيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طوبى لمن هُدِيَ إلى الإسلام، وكان عيشه كفافًا، وقَنع".
وعن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: «قد أفلح من أسلم ورُزِقَ كفافًا، وقنَّعه الله بما آتاه» (أخرجه مسلم).
كما يجب أن يعلم أن حقيقة الغنى في القناعة: ولذا رزقها الله تعالى نبيه محمدًا -صلى الله عليه وسلم- وامتنَّ عليه بها فقال تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 8].
وذهب بعض المفسرين إلى أن الله- تعالى- جمَع له الغَنَائين: غِنَى القلب، وغِنَى المال بما يسَّر له من تجارة خديجة.
وقد بيَّن -عليه الصلاة والسلام- أن حقيقة الغنى غنى القلب، فعن أبي ذر -رضي الله عنه- قال: قال رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر! أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم يا رسول الله، قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟" قلت: نعم يا رسول اللّه. قال: "إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" (صحيح ابن حبان).
وقام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطيبًا في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر، لأن اليأس غنى، وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه" (مسند أحمد).
وأوصى سعد بن أبي وقاص -رضي الله عنه- ابنه فقال: "يا بني! إذا طلبت الغنى فاطلبه بالقناعة؛ فإنها مال لا ينفد".
ثم صلوا وسلموا..
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم