عناصر الخطبة
1/ الدنيا دار ابتلاء 2/إذا قلت القناعة زاد السخط 3/معنى القناعة وبيان حقيقتها 4/فوائد القناعة 5/من أقوال السلف في القناعة 6/نماذج من غنى النبي وبذله.اهداف الخطبة
1/بيان مفهوم القناعة وفوائدها 2/ بيان زهد النبي وآل بيته 3/ تحذير المؤمنين الطمع وما يجر إليه من رذائل 4/دعوة المؤمنين إلى العناية بأمر الآخرةاقتباس
القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة, ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال, ولا أن تمـسك يداه الملايين, ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه, وتملك عليه نفسه, حتى يمـنـع حق الله فيها, ويتكاسل عن الطاعات, ويفرط في الفرائض من أجلها, ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث حفاظاً عليها أو تنمية لها. فكم من صاحب مال وفير وخـير عظيم رزق القناعة! فلا...
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره…
أما بعد: فاتقوا الله تعالى حق تقواه, واستعدوا بالأعمال الصالحة ليوم لقاه, خافوا من الجليل واعملوا بالتنزيل, واقنعوا من دنياكم بالقليل, واستعدوا ليوم الرحيل, (يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ * مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ) [غافر: 39، 40]
أيها المسلمون: إن من سنة الله – تعالى - في هذا الكون أن جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان, وقدَّر أن تكون مليئة بالمصاعب والمتاعب, دائمة التغيّر والتحوّل, لا تثبت على حال, ولا تدوم على شأن (سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) [الأحزاب: 62] (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً) [الأنبياء: 35] (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ) [محمد: 31].
هذه هي حقيقة الدنيا, دار شقاء وعناء, ومرحلة نَصَب وتَعَب, متاعها قليل وكثيرها ضئيل, عيشها نكد وصفوها كدر, حلالها حساب وحرامها عقاب, لا تصفو لشارب ولا تبقى لصاحب, من استغنى فيها فُتِن, ومن افتقر فيها حزن, من أحبها أذلته, ومن تبعها أعمته, سرورها غرور, ونعيمها عديم, من ملكها هلك, وغناؤها عناء.
هي الدارُ دارُ الأذى والقَذَى *** ودارُ الفَنَــاء ودارُ الغِـيَرْ
فـلو نلتَهـا بحـذافِيــرهـا *** لمَتَّ ولم تَقْضِ منها الوَطَرْ
أيها المسلمون: ويزداد التسخط في الناس وعدم الرضى بما رُزقوا إذا قلّت فيهم القناعة, وحينئذ لا يرضيهم طـعام يشبعهم, ولا لباس يواريهم, ولا مراكب تحملهم, ولا مساكن تكنهم؛ حيث يريدون الزيادة على ما يحتاجونه في كل شيء, ولن يشبعهم شيء لأن أبصارهـم وبصائرهـم تنظـر إلى من هم فوقهــم, ولا تُبصر من هم تحتهم, فيزدرون نعمة الله عليهم, ومهما أوتوا طلبوا المزيد؛ فهم كشارب ماء البحر لا يـرتـوي أبداً. ومن كان كذلك فلن يحصل السعادة أبداً؛ لأن سعادته لا تتحقق إلا إذا أصبح أعلى الناس في كل شيء, وهـذا من أبعد المحال, ذلك أن أي إنسان إن كملت له أشياء قصرت عنه أشياء, وإن علا بأمور سفلت به أمور, ويأبى الله - تعالى - الكمال المطلق لأحد من خلقه كائناً من كان؛ لذا كـانـت الـقـنـاعــة والرضى من النعم العظيمة والمنح الجليلة التي يُغبط عليها صاحبها.
ولأهـمـيـة هــذا الأمر -ولا سيما مع تكالب كثير من الناس على الماديات, وانغماسهم في كثير من الشهوات- أحببت أن أذكر نفسي وإخواني -والذكرى تنفع المؤمنين- بخلق من أخلاق الإسلام العظيمة, والتي قل وندر وجودها في عصرنا الحاضر, ألا وهو خلق القناعة.
أما مفهوم القناعة فقد عرَّف بعض أهل اللغة القناعة بالرضى, والقانع بالراضي. قال ابن فارس: "قنع قناعة: إذا رضي, وسميت قناعة؛ لأنه يُقبل على الشيء الذي له راضياً" وعلى هذا المعنى فإن القناعة لا تمنع التاجر من تنمية تجارته، ولا أن يـضـرب المـسـلم في الأرض يـطـلـب رزقـه, ولا أن يـسـعـى المــرء فيما يعود عليه بالنفع؛ بل كل ذلك مطلوب ومـرغـوب, وإنـمـا الـذي يـتـعـارض مع القناعة أن يغش التاجر في تجارته, وأن يتسخط الموظف من مرتبه, وأن يتبرم الـعـامل من مهنته, وأن يُنافَق المسؤول من أجل منصبه, وأن يتنازل الداعية عن دعوته أو أن يميّع مبدأه رغبة في مال أو جاه, وأن يحسد الأخ أخاه على نعمته, وأن يُذِلَّ المرء نفسه لغير الله - تعالى - لحصول مرغوبه.
وليس القانع بالذي يشكو خـالـقـه ورازقه إلى الخلق, ولا بالذي يتطلع إلى ما ليس له، ولا بالذي يغضب إذا لـم يـبلـغ مــا تمنى من رتب الدنيا؛ لأن الخير له قد يكون عكس ما تمنى. وفـي الـمـقـابــل فإن القناعة لا تأبى أن يملك العبد مثاقيل الذهب والفضة, ولا أن يمتلئ صندوقه بالمال, ولا أن تمـسك يداه الملايين, ولكن القناعة تأبى أن تلج هذه الأموال قلبه, وتملك عليه نفسه, حتى يمـنـع حق الله فيها, ويتكاسل عن الطاعات, ويفرط في الفرائض من أجلها, ويرتكب المحرمات من رباً ورشوة وكسب خبيث حفاظاً عليها أو تنمية لها.
فكم من صاحب مال وفير وخـير عظيم رزق القناعة! فلا غَشَّ في تجارته, ولا منع أُجراءه حقوقهم, ولا أذل نفسه من أجـل مــال أو جاه, ولا منع زكاة ماله؛ بل أدى حق الله فيه فرضاً وندباً, مع محافظةٍ على الـفـرائـض, واجتنابٍ للمحرمات, إن ربح شكر, وإن خسر رضي؛ فهذا قنوع وإن ملك مال قارون.
وفي المقابل: فكـم مـن مـسـتـور يـجد كفافاً ملأ الطمع قلبه حتى لم يُرضه ما قُسم له! فجزع من رزقه, وغضب على رازقه, وبث شكواه للناس, وارتكب كل طريق محرم حتى يغني نفسه؛ فهذا منزوع القناعة وإن كان لا يملك درهماً ولا فلساً.
أيها الإخوة في الله: إن للقناعة فـوائـد كـثـيرة تعود على المرء بالسعادة والراحة والأمن والطمأنينة في الدنيا والآخرة, ومن تلك الفوائد:
* امـتـلاء القلب بالإيـمـان بالله - سبحانه وتعالى - والثقة به, والرضى بما قدر وقسم, وقوة اليقين بما عنده - سبحانه وتعالى - ذلك أن من قنع برزقه فإنما هو مؤمن ومتيقن بأن الله -تعالى- قد ضمن أرزاق الـعـبـاد وقـسـمـها بينهم حتى ولو كان ذلك القانع لا يملك شيئاً. يـقـول ابن مسعود - رضي الله عنه -: "إن أرجى ما أكون للرزق إذا قالوا: ليس في البيت دقـيــق". وقـال الإمـــام أحمد - رحمه الله تعالى -: "أسرُّ أيامي إليَّ يوم أُصبح وليس عندي شيء". وقال الـفـضـيل بن عياض - رحمه الله تعالى -: "أصل الزهد الرضى من الله -عز وجل-". وقال الحسن - رحمه الله تعالى -: "إن من ضعف يقينك أن تكون بما في يدك أوثق منك بما في يد الله عز وجل".
* ومن فوائد القناعة: الحـيـاة الـطـيـبـة: قـال - تعالى -: (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) [النحل: 97], فَسَّر الحياةَ الطـيـبـة عليٌّ وابن عباس والحسن -رضي الله عنهم- فقالوا: "الحياة الطيبة هي القناعة", وفي هذا المعنى قال ابن الجوزي -رحمه الله تعالى-: "من قنع طاب عيشه, ومن طمع طال طيشه".
* ومن فوائدها: تحقيق شـكــر المنعم -سبحانه وتعالى-: ذلك أن من قنع برزقه شكر الله -تعالى– عليه, ومن تقالّه قـصَّر فـي الـشـكر، وربما جزع وتسخط -والعياذ بالله- ولذا قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كن ورعاً تكن أعبد الناس, وكن قنعاً تكن أشكر الناس" أخرجه ابن ماجة والبيهقي في الزهد الكبير.
* ومن فوائد القناعة وثمارها: الفلاح والبُشْرى لمن قنع: فـعـن فـضـالة بن عبيد -رضي الله عنه- أنه سمع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يقول: "طوبى لـمـن هُـدي إلـى الإســلام, وكان عـيـشــه كفافاً, وقـنـع" أخرجه احمد والترمذي, وقال: حسن صحيح, وعن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنهما- أن رســول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "قد أفلح من أسلم ورُزق كفافاً, وقنّعه الله بما آتاه " أخرجه مسلم والترمذي.
ومن ثمارها: الـوقـايـةُ مـن الـذنـوب التـي تـفـتـك بالقلب وتذهب الحسنات: كالحسد, والغيبة, والنميمة, والكذب, وغيرها من الـخـصـال الذميمة والآثام العظيمة؛ ذلك أن الحامل على الوقوع في كثير من تلك الكبائر غـالـبـاً ما يـكـون استجلاب دنيا أو دفع نقصها, فمن قـنع برزقه لا يحتاج إلى تلك الآثام, ولا يداخل قلبه حسد لإخوانه على ما أوتوا؛ لأنه رضي بما قسم له.
قال ابن مسعود -رضي الله عنه-: "اليقين ألا ترضي الناس بسخط الله, ولا تحسد أحداً على رزق الله, ولا تَلُمْ أحداً على ما لم يؤتك الله؛ فإن الرزق لا يـسـوقه حرص حـريـص, ولا يرده كراهة كاره؛ فإن الله - تبارك وتعالى - بقسطه وعلمه وحـكـمـتـه جـعــل الرَّوْح والفرح في اليقين والرضى, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط". وقال بعض الحكماء: "وجدت أطول الناس غماً الحسود, وأهنأهم عيشاً القنوع".
ألا ولتعلموا -عباد الله- أن حقيقة الغنى في القناعة, ولذا رزقها الله -تعالى- نبيه محمـداً -صلى الله عليه وسلم- وامـتـن عليــه بهــا فقال تعالى: (وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى) [الضحى: 8] نزّلها بعض الـعـلـمـاء على غنى النفس لأن الآية مكية, ولا يخفى ما كان فيه النبي -صلى الله عليه وسلم- قبل أن تُفتح عليه خيبر وغيرها من قلة المال. وذهب بعض المفسرين إلى أن الله -تعالى- جمع له الغنائيْن: غنى القلب، وغنى المال بما يسر له من تجارة خديجة.
وقـد بـيّـن -عليه الصــلاة والـســلام- أن حقيقة الغنى غنى القلب فقال - عليه الصلاة والسلام -: "ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس" متفق عليه. وعن أبي ذر -رضي الله عنه- قــال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "يا أبا ذر، أترى كثرة المال هو الغنى؟" قلت: نـعم! يا رسول الله, قال: "فترى قلة المال هو الفقر؟" قلت: نعم! يا رسول الله. قال: "إنما الغنى غنى القلب, والفقر فقر القلب" الحديث أخرجه ابن حبان في صحيحه.
وتلك حقيقة لا مرية فيها؛ فكم من غني عنده من المال ما يكفيه وولدَه ولو عُمِّر ألف سنة؛ يخاطر بدينه وصحته ويضحي بوقته يريد المزيد! وكم من فقير يرى أنه أغنى الناس؛ وهو لا يـجـد قــوت غــده! فالعلة في القلوب: رضىً وجزعاً, واتساعاً وضيقاً, وليست في الفقر والغنى.
ولأهـمـيـة غـنـى القلب في صلاح العبد قام عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- خطيباً في الناس على المنبر يقول: "إن الطمع فقر, وإن اليأس غنى, وإن الإنسان إذا أيس من الشيء استغنى عنه" أخرجه أحمد في الزهد وأبو نعيم في الحلية, وســـئـل أبو حازم فقيل له: "ما مالك؟ قال: لي مالان لا أخشى معهما الفقر: الثقة بالله, والــيـأس مـمـا في أيدي الناس", وقيل لبعض الحكماء: "ما الغنى؟" قال: "قلة تمنيك, ورضاك بما يكفيك".
أيها الإخوة في الله: لقد جعل الله العز في القناعة, والذل في الطمع: ذلك أن القانع لا يحتاج إلى الناس فلا يزال عزيزاً بينهم, والـطـمــاع يذل نفسه من أجل المزيد؛ ولذا جاء في حديث سهل بن سعد مرفوعاً: "واعلم أن شرف المؤمن قيامه بالليل, وعزه استغناؤه عن الناس". وجاء التوجيه النبوي بالاستغناء عن الناس, فعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله -عليه الصلاة والسلام-: "استغنوا عن الناس ولو بشَوصِ السواك".
وكان محمد بن واسع -رحمه الله تعالى- يبلُّ الخبز اليابس بالماء ويأكله ويقول: "من قنع بهذا لم يحتج إلى أحد". وقال الحسن -رحمه الله تعالى-: "لا تزال كريماً على الناس, ولا يزال الناس يكرمونك ما لم تَعَاطَ ما في أيديهم؛ فإذا فعلت ذلك استخفُّوا بك وكرهوا حديثك وأبغضوك". وقال الحافظ ابن رجب -رحمه الله تعالى-: "وقد تكاثرت الأحاديث عن النبي -صلى الله عليه وسلم- بالأمر بالاسـتـعـفـاف عـن مسألة الناس, والاستغناء عنهم؛ فمن سأل الناس ما بأيديهم كرهوه وأبغضوه؛ لأن المال مـحـبـوب لنفوس بني آدم, فمن طلب منهم ما يحبونه كرهوه لذلك".
والإمامة في الدين والسيادة والرفعة لا يحـصـلـها المرء إلا إذا استغنى عن الناس, واحتاج الناس إليه في العلم والفتوى والوعظ. قال أعـرابي لأهل البصرة: "من سيد أهل هذه القرية؟" قــالـــوا: "الـحـســن", قـــال: "بِمَ سادهم؟ " قالوا: "احتاج الناس إلى علمه, واستغنى هو عن دنياهم".
فاللهم اكفنا بحلالك عن حرامك واغننا بفضلك عمن سواك.
أقول قولي هذا...
الخطبة الثانية
الحمد على إحسانه, والشكر له على توفيقه وامتنانه...
أما بعد: فاتقوا الله عباد الله..
أيها الإخوة المؤمنون: لـقـد كـان رســولكم -صلى الله عليه وسلم- أكمل الناس إيماناً ويقيناً, وأقواهم ثقة بالله -تعالى- وأصلحهم قلباً, وأكثرهم قناعة ورضىً بالقليل, وأنداهم يداً وأسخاهم نفساً, حتى كان -عليه الـصـلاة والـسـلام- يفرِّق المال العظيم: الوادي والواديين من الإبل والغنم ثم يبيت طاوياً, وكان الرجل يُـسْـلــم من أجل عطائه -صلى الله عليه وسلم- ثم يحسن إسلامه. قال أنس -رضي الله عنه-: "إن كان الـرجــل ليسلم ما يريد إلا الدنيا؛ فما يمسي حتى يكون الإسلام أحب إليه من الدنيا وما عليها".
وقال صفوان بن أمية -رضي الله عنه-: "لقد أعطاني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ما أعطاني وإنه لمن أبغض الناس إليَّ؛ فما برح يعطيني حتى إنه لأحب الناس إليَّ". قال الزهري: "أعطاه يوم حنين مائة من النعم ثم مائة ثم مائة", وقال الواقدي: "أعطاه يومئذ وادياً مملوءاً إبلاً ونعماً" حتى قال صفوان -رضي الله عنه-: "أشهد: ما طابت بهذا إلا نفس نبي" أخرجه مسلم.
وقال أنس -رضي الله عنه-: ما سئل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على الإسلام شيئاً إلا أعطاه, فجاءه رجل فأعطاه غنماً بين جبلين, فرجع إلى قومه فقال: "يا قوم أسلموا؛ فإن محمداً يعطي عطاء من لا يخشى الفاقة" متفق عليه.
أما تلك الصورة الرائعة من بذله -عليه الصلاة والسلام- التي جعلت أقواماً وسادة وعتاة من أهل الجاهلية تلين قلوبهم للإسلام وتخضع للحق, فأمامها صور عجيبة لا تقل في جمالها عنها من قناعته -عليه الصلاة والسلام- ورضاه بالقليل, وتقديم غيره على نفسه وأهله في حظوظ الدنيا؛ بل وترك الدنيا لأهل الدنيا, ومن ذلك:
قناعته صلى الله عليه وسلم في أكله: فقد روت عائشة -رضي الله عنها- تخاطب عروة بن الزبير -رضي الله عنهما- فقالت: "ابن أختي! إن كنا لننظر إلى الهلال ثلاثة أهلة في شهرين وما أُوقِدَت في أبيات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نار, فقلت: "ما كان يعيشكم ؟" قالت: "الأسودان: التمر، والماء, إلا أنه قد كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- جـيـران مـن الأنـصــار كـان لـهــم منائح, وكانوا يمنحون رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أبياتهم فيسقيناه" مسلم. وعن أنس: "أن فاطمة ناولت رسول الله -عليه الصلاة والسلام-كسرة من خبز الشعير, فقال: "هذا أول طعام أكله أبوك منذ ثلاثة أيام".
وعن النعمان بن بشير قال: "ذكر عمر بن الخطاب ما أصاب الناس من الدنيا, فقال: "لقد رأيت رسول الله -عليه الصلاة والسلام- يظل اليوم يتلوّى ما يجد من الدَّقَل ما يملأ به بطنه". والدقل هو رديء التمر! وعن عائشة رضي الله عنها قالت: "ما شبع آل محمد -عليه الصلاة والسلام-من خبز الشعير يومين متتابعين حتى قبض". وعـنـهــا - رضي الله عنها – قالت: "لقد مات رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وما شبع من خبز وزيت في يوم واحد مرتين" أخرجه البخاري.
وعن قـتـــادة رضي الله عنه – قال: كنا نأتي أنس بن مالك وخبّازه قائم, وقال: "كلوا؛ فما أعلم النبي -صلى الله عليه وسلم- رأى رغيفاً مُرقَّقاً حتى لحق بالله, ولا رأى شاة سميطاً بعينه قط" أخرجه أحمد والترمذي وقال حسن صحيح وابن ماجه والحاكم.
وأما قناعته -صلى الله عليه وسلم- في فراشه: فعن عائشة رضي الله عنها – قالت: "كان فراش رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أدم وحشوه من ليف". وعن ابن مسعود -رضي الله عنه– قال: "نام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على حصير فقام وقد أثّـر فـي جـنـبـه, قلنا: "يا رسول الله! لو اتخذنا لك وطاءً"؛ فقال:" ما لي وللدنيا؛ ما أنا في الدنيا إلا كراكب استظل تحت شجرة ثم راح وتركها" أخرجه ابن حبان.
وعن عائشة -رضي الله عنها– قالت: "كان لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- سرير مشبك بالبردي عليه كــســاء أســود قد حشوناه بالبردي, فدخل أبو بكر وعمر عليه فإذا النبي -صلى الله عليه وسلم- نائم عليه, فلما رآهما استوى جالساً فنظر, فإذا أثر السرير في جنب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال أبو بـكـر وعمر -وبكيا-: "يا رسول الله! ما يؤذيك خشونة ما نرى من ســريـرك وفـراشـــك, وهذا كسرى وقيصر على فرش الحريــر والديباج؟" فقال: "لا تقولا هذا؛ فإن فراش كسرى وقيصر في النار, وإن فراشي وسريري هذا عاقبته إلى الجنة" متفق عليه. ثم قال: "أولئك قوم عُجِّلَت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا". هكذا كان رسول الله زاهدًا في الدنيا, قانعًا منها بالقليل, راضيًا منها باليسير, كانت تلك صفته وهو أفضل عباد الله وصفوة خلقه, وهو الذي لو شاء لحيزت له الدنيا بحذافيرها, ولصيغت له جبالها ذهبًا وفضة.
أيها الإخوة في الله: لقد ربى النبي -صلى الله عليه وسلم- أهله على القناعة بعد أن اخــتـــار أزواجه البقاء معه, والصبر على القلة والزهد في الدنيا حينما خبرهن بين الإمساك على ذلك أو الفراق والتمتع بالدنيا كما قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا * وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا) [الأحزاب: 28، 29] فاخترن -رضي الله عنهن– الآخرة, وصبرن على لأواء الدنـيــا, وضعف الحال, وقلة المال طمعاً في الأجر الجزيل من الله - تعالى -, ومن صور تلك الـقـلة والـزهـد إضافة إلى ما سبق:
ما روت عائشة -رضي الله عنها- قالت: "ما أكل آل محمد -صلى الله عليه وسلم- أكلتين في يوم إلا إحداهما تمر" رواه مسلم. وعنها -رضي الله عنها- قالت: "ما شبع آل محمد -صلى الله عليه وسلم- من خبز شعير يومين متتابعين, حتى قبض رسول الله- صلى الله عليه وسلم-" أخرجه البخاري ومسلم.
ولم يـقـتـصــر صـلى الله عليه وسلم في تربيته تلك على نسائه بل حتى أولاده رباهم على الـقـنـاعـة, فقد أتاه سـبي مرة, فشكت إليه فاطمة -رضي الله عنها- ما تلقى من خدمة الــبـيـت, وطـلـبـت منه خادما يكفيها مؤنة بيتها, فأمرها أن تستعين بالتسبيح والتكبير والتحميد عند نومها, وقال: "لا أعطيك وأدع أهل الصفة تطوى بطونهم من الجوع". ولم يكن هذا المـسـلـك مــن القـناعة إلا اختيارا منه -صلى الله عليه وسلم- وزهداً في الدنيا, وإيثاراً للآخرة.
نعم إنه رفض الدنيا بعد أن عرضت عليه, وأباها بعد أن منحها, وما أعطاه الله من المال سلطه على هلكته في الحق, وعصب على بطنه الحجارة من الجوع -صلى الله عليه وسلم-. قال عليه -الصلاة والسلام-: "عــرض عـلـي ربـي ليجعل لي بطحاء مكة ذهبا, قلت: لا يا رب؛ ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً, فإذا جعت تــضـرعــت إلـيــك وذكرتك, وإذا شبعت شكرتك وحمدتك " أخرجه أحمد والترمذي وحسنه.
ألا فاتقوا الله -عباد الله- واعلموا أنه لا يُذْهِب الهمَّ والغمَّ دواءٌ مثل الرضا بما قدَّر الله وقضى, فهنيئًا لمن ملأ الرضا فؤاده, لا يتحسَّر على ماض باكيًا حزينًا, ولا يعيش حاضرًا ساخطًا جَزُوعًا, ولا ينتظر المستقبل خائفًا وَجِلاً, لا يعيش في رهبة من غموض, ولا يتوجّس من جبروت, إيمانه مصدر أمانه, (الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ) [الأنعام: 82].
فأقبلوا على طاعته, فإن في القلب شَعَثًا لا يلمّه إلا الإقبال على الله, وإن فيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله, وإن فيه حزنًا لا يُذْهِبه إلا السرور بمعرفة الله وصدق معاملته, وإن فيه قلقًا لا يُسكّنه إلا الفرار إليه, وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه ودوام ذكره وصدق الإخلاص له, وفيه حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه, والصبر على قضائه إلى يوم لقائه, ففروا من الله إلى الله, (فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ) [الذاريات: 50].
اللهم إنا نعوذ بك من الهم والحزن,، دعاء...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم