القرض الحسن

سليمان الحربي

2024-10-18 - 1446/04/15 2024-11-10 - 1446/05/08
التصنيفات الفرعية: الأخلاق المحمودة
عناصر الخطبة
1/حكم القرض للمقرض والمقترض 2/فضل الإقراض وإعانة المحتاج 3/الحث على إقراض المحتاجين 4/تنبيهات وتوجيهات للمقترضين

اقتباس

فإنَّ مِنَ العَجَبِ أنْ يَكُونَ بعضُ الأثرياءِ يَتْرُكُ مالَهُ في البنوكِ سَنَوَاتٍ، يُحْرَمُ مِنْ خَيْرِها، وهي باقيةٌ عندَه لا تَذْهَبُ عنه، كَمْ مِنَ الثقاتِ الذين يَذْهَبُونَ إلى البنوكِ؛ ليَشْتَرُوا منها عَنْ طريقِ المرابَحَةِ والتوَرُّقِ، وهو بحاجةٍ لها مِنْ أَجْلِ إكمالِ بَيْتِهِ، أو زَوَاجِهِ، أو لعلاجِ مَرِيضِهِ...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ للهِ، نحمدهُ ونستعينُه ونستغفرُه، ونَعُوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أنفُسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فلا مُضِلَّ له، ومَنْ يُضْلِلْ فلا هَادِيَ له، وأشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، صَلَّى اللهُ عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ، ومَنْ سَارَ على نَهْجِهِ، واقْتَفَى أَثَرَهُ إلى يَوْمِ الدِّينِ، وسَلم تسليمًا كثيرًا.

 

فاتَّقُوا اللهَ -عِبَادَ اللهِ-؛ (وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلمونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ)[الشعراء:132 - 133].

 

مَعْشَرَ الإِخْوَةِ: لقد مَرَّ على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياتِه مِنْ قِلَّةِ ذاتِ اليَدِ والجُوعِ، والحاجةِ مع كَثْرَةِ الأَهْلِ والالتزاماتِ اليوميةِ الماديةِ؛ ما جَعَلَتْهُ يقْتَرِضُ مِنْ غيرِه، وهو رسول الله  -صلى الله عليه وسلم-، وأَجْمَعَ العُلماءُ على أنَّ القَرْضَ والإقراضَ جائزانِ، وقال جماهيرُهم: إنَّ القَرْضَ في حَقِّ المقْرِضِ مُسْتَحَبٌّ ومندوبٌ إليه؛ لما جَاءَ في ذلك مِنَ الأحاديثِ الصحيحةِ، وأمَّا في حَقِّ المقْتَرِضِ فهو مباحٌ، إنْ شاءَ اقْتَرَضَ لحاجَتِهِ، وإنْ شاءَ صَبَرَ، قال الإمامُ أَحْمَدُ -رحمه الله تعالى-: "ليس طَلَبُ القَرْضِ مِنَ المسألةِ المكْرُوهَةِ"؛ وذلك لأنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- اقترضَ واسْتَسْلَفَ، وهذا يَدُلُّ على أنَّ طَلَبَ القرضِ ليس مِنَ المسألةِ التي حَرَّمَها الشَّرْعُ أو كَرِهَها؛ فإنَّ طَلَبَ القَرْضِ لأَجْلِ أنْ يَفِيَ الإنسانُ بحاجته هو على نِيَّةِ المعاوَضَةِ، وعلى نِيَّةِ القضاءِ، فهو يَعْرِضُ لإخوانِه للفَضْلِ والإحسانِ العامِّ، وهو يَنْوِي قضاءَ ذلك، ويَنْوِي رَدَّه.

 

وقد رَوَى مُسْلم في صحيحِه، عَنْ أَبِى رَافِعٍ: "أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- اسْتَسْلَفَ مِنْ رَجُلٍ بَكْرًا -هو الفَتِيُّ من الإبل-، فَقَدِمَتْ عَلَيْهِ إِبِلٌ مِنْ إِبِلِ الصَّدَقَةِ، فَأَمَرَ أَبَا رَافِعٍ أَنْ يَقْضِىَ الرَّجُلَ بَكْرَهُ، فَرَجَعَ إِلَيْهِ أَبُو رَافِعٍ فَقَالَ: لم أَجِدْ فِيهَا إِلاَّ خِيَارًا رَبَاعِيًا -أي: ما طلت رباعيته وهي السن التي بين الثنية والناب، وذلك إذا دخل في السنة السابعة-، فَقَالَ: "أَعْطِهِ إِيَّاهُ؛ إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً".

 

إنَّ تفريجَ الكُرْبَةِ عن أَخِيكَ المؤمنِ بإقراضِه مِنْ أَحَبِّ القُرَبِ إلى اللهِ -تَعَالَى-، وقد ثَبَتَ في صَحِيحِ مُسْلم أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا؛ نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ؛ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلما؛ سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ".

 

والقَرْضُ لا يختصُّ بالفقيرِ أَوِ المحتاجِ؛ بل قد يحتاجُه مَنْ ليس كذلك، إمَّا لنَقْصِ مالٍ، أو عُرُوضِ ضائقةٍ، وقد تواترتِ النصوصُ بفَضْلِ الإقراضِ، فرَوَى ابنُ ماجَهْ وابنُ حِبَّان في صحيحِه مِنْ حديثِ ابْنِ مَسْعُودٍ -رضي الله عنه-، أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "مَا مِنْ مُسْلم يُقرِضُ مُسْلما قَرْضًا مَرَّتَيْنِ؛ إِلَّا كَانَ كَصَدَقَتِهَا مَرَّةً"، يعني: أنَّ مَنْ أقْرَضَ أخاه المسْلم مرَّتَيْنِ كان كمَنْ تَصَدَّقَ بذلك المالِ مَرَّةً واحدةً وخَرَجَ مِنْ مِلْكِهِ.

 

ورَوَى البيهقيُّ في شُعَبِ الإيمانِ أَنَّ الأَسْوَدَ بْنَ يزيدَ كان يَسْتَقْرِضُ مِنْ تاجِرٍ، فإذا خَرَجَ عطاؤُه قَضَى به دَيْنَه، وَأَنَّهُ مرة خَرَجَ عَطَاؤُهُ، فقال له الأَسْوَدُ: إِنْ شِئْتَ أَخَّرْتَ عَنَّا؛ فَإِنَّهُ قَدْ كَانَ عَلَيْنَا حُقُوقٌ فِي هَذَا الْعَطَاءِ، فقال له التاجِرُ: لستُ فَاعِلًا، فَنَقَدَهُ الأَسْوَدُ خَمْسَمِائَةِ دِرْهَمٍ، حتَّى إذا قَبَضَهَا التَّاجِرُ، قال له التاجِرُ: دُونَكَ فَخُذْهَا، فقال له الأَسْوَدُ: قد سَأَلْتُكَ هذا فَأَبَيْتَ، فقال له التَّاجِرُ: إني سَمِعْتُكَ تحدِّثُنا عن عبدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يقول: "مَنْ أَقْرَضَ شَيْئًا مَرَّتَيْنِ كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ أَحَدِهِمَا لَوْ تَصَدَّقَ بِهِ"(أخرجه البيهقي في الشعب).

 

ولهذا قال أبُو الدَّرْدَاءِ حَكِيمُ هذه الأُمَّةِ –رضي الله عنه-: "لَأَنْ أُقرِضَ دينارَيْنِ أَحَبُّ إليَّ مِنْ أنْ أتَصَدَّقَ بهما؛ لأنِّي أُقْرِضُهُما فيرجعانِ إليَّ، فأتصدَّقُ بهما، فيَكُونُ لي أَجْرُهُما مَرَّتَيْنِ"(أورده الشيرازي في المهذب في فقه الإمام الشافعي)، يعني: لأنَّه حَصَلَ له الفَضْلُ بالصَّدَقَةِ مرةً، وبالإقراضِ مَرَّةً أُخْرَى، حيثُ رَجَعَ إليه مالُه، ثم هو يَرْجِعُ فيُقْرِضُه آخَرِينَ، ثُمَّ بعدَ ذلك يَتَصَدَّقُ به، وبهذا يتَحَقَّقُ لنا أنَّ القَرْضَ فيه فَضْلٌ عظيمٌ.

 

ومِنْ فَضْلِهِ أنَّه إذا أَقْرَضَ الإنسانُ كان في ذلك زكاءُ نَفْسِهِ، وكان في ذلك سلامةُ نَفْسِهِ مِنْ حُبِّ المالِ، وكان في ذلك تفريجُ حوائجِ المسلمين، وتفريجُ كُرُبَاتِهِمْ، وقضاءُ حوائجِهِمْ، وعَوْنُهُمْ على أَمْرِ دنياهم، وهذا مِنَ التواصُلِ والتعاونِ على البِرِّ والتقوى، رَوَى البيهقيُّ عَنِ ابنِ مسعُودٍ -رضي الله عنه-، أنَّه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ قَرْضٍ صَدَقَةٌ".

 

أَعُوذُ باللهِ مِنَ الشيطانِ الرجيمِ: (فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى * وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى * وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى * وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى * فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى)[الليل:5 -10].

 

بارَكَ اللهُ لي ولكُم في القرآنِ العظيمِ، ونَفَعَنِي وإيَّاكُم بما فيه مِنَ الآياتِ والذِّكْرِ الحكيمِ، أقُولُ ما سَمِعْتُمْ، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولسائرِ المسلمين مِنْ كلِّ ذنبٍ وخطيئةٍ، فاستَغْفِرُوه وتُوبُوا إليه؛ إنَّه هو الغفورُ الرحيمُ.

 

 

الخُطْبةُ الثانيةُ:

الحمدُ للهِ على إحسانِهْ، والشُّكْرُ على توفيقه وامتنانِهْ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلا اللهُ تعظيمًا لشانِهْ، وأشْهَدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه الداعي إلى جَنَّتِهِ ورِضْوَانِهْ، صَلَّى اللهُ عليه وعلى آلِهِ وأصحابِهِ وأعوانِهْ، أمَّا بَعْدُ:

 

معاشِرَ المصَلِّينَ: ولو لم يَأْتِ في فَضْلِ الإقراضِ إلَّا ما رواه ابْنُ ماجهْ عن عبدِ اللهِ بنِ جَعْفَرٍ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إِنَّ اللهَ مَعَ الدَّائِنِ حَتَّى يَقْضِيَ دَيْنَهُ، مَا لم يَكُنْ فِيمَا يَكْرَهُ اللهُ"، قال: فكان عبدُ الله بنُ جعفرٍ يقول لخازِنِهِ: اذْهَبْ فَأَقْرِضْ؛ فإنِّي أَكْرَهُ أنْ أبيتَ ليلةً إلَّا واللهُ معي، بعدَ الذي سَمِعْتُ مِنْ رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

 

فلو لم يأتِ إلا مثلُ هذا الفَضْلِ لَكَفَى به غنيمةً؛ ولهذا فإنَّ مِنَ العَجَبِ أنْ يَكُونَ بعضُ الأثرياءِ يَتْرُكُ مالَهُ في البنوكِ سَنَوَاتٍ، يُحْرَمُ مِنْ خَيْرِها، وهي باقيةٌ عندَه لا تَذْهَبُ عنه، كَمْ مِنَ الثقاتِ الذين يَذْهَبُونَ إلى البنوكِ؛ ليَشْتَرُوا منها عَنْ طريقِ المرابَحَةِ والتوَرُّقِ، وهو بحاجةٍ لها مِنْ أَجْلِ إكمالِ بَيْتِهِ، أو زَوَاجِهِ، أو لعلاجِ مَرِيضِهِ، أو شِرَاءِ سيَّارَتِهِ!.

 

إنَّنا نعرفُ مَنْ عندَه مِئَاتُ الآلافِ لسَنَوَاتٍ لم يُحَرِّكْها مِنَ البنكِ، لم هذا الحرمانُ؟! لم هذا الشُّحُّ والبُخْلُ؟! نتَفَهَّمُ ألَّا يُقْرِضَها مَنْ لا يَعْرِفُ بالسداد أو اللامبالاة، ولكِنَّنا نَعْلم مِنَ الثقاتِ مَنْ لا يَتَأَخَّرُ عَنِ السدادِ، فلم لا يَسْتَغِلُّ التاجِرُ هؤلاء الثقاتِ، ولا أقولُ: يُعِينُهُمْ، بل يُعِينُ نَفْسَه، ومِنَ الذين وَفَّقَهُمُ اللهُ مَنْ يَبْحَثُ عَنِ المحتاجِ الذي يَعْمُرُ بيته، ويَعْرِضُ عليه، ويُلِحُّ عليه بِأَخْذِها، واللهِ إنَّها غنيمةٌ باردةٌ، وكما قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "مَنْ أَخَذَ أَمْوَالَ النَّاسِ يُرِيدُ أَدَاءَهَا، أَدَّى اللهُ عَنْهُ"(رواه البخاري).

 

ومِنَ التنبيهاتِ المهِمَّةِ: أنَّ المقتَرِضَ إذا أَخَذَ القَرْضَ عليه أنْ يُبَيِّنَ للمقْرِضِ حَالَهُ، وكيف سَيَرُدُّها؟ ومَتَى يستطيعُ؟ ويُبَيِّنُ حالَه مِنَ القُدْرَةِ وعَدَمِها، فهذا مِنْ كمالِ الأمانةِ.

 

ومِنَ الآدابِ: أنَّ المقتَرِضَ إذا أَدَّى القَرْضَ فإنَّه يُسْتَحَبُّ له أنْ يكونَ قَضَاؤُه أَحْسَنَ مِنَ القَرْضِ، كما فَعَلَ الرسول -صلى الله عليه وسلم- وقال: "إِنَّ خِيَارَ النَّاسِ أَحْسَنُهُمْ قَضَاءً"، بشَرْطِ ألَّا يَكُونَ عَنِ اشتراطٍ؛ فإنَّ هذا هو الرِّبَا المحَرَّمُ، فإِنِ امْتَنَعَ ذلك مِنَ القَبُولِ حُزْتَ الفَضْلَيْنِ، وللهِ الحَمْدُ والمنَّةُ.

 

ومِنْ آدابِ القَرْضِ ألَّا يَتَحَدَّثَ المقْرِضُ عَنْ قَرْضِهِ، وأنْ يكتُمَ ذلك؛ حتَّى لا يُحْرِجَهُ، ولا يُكَدِّرَ عليه، وهو نَوْعٌ مِنَ المنِّ الذي نهاه اللهُ عنه في قَوْلِهِ -تعالى-: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالمنِّ وَالْأَذَى)[البقرة: 264]، قال القرطبيُّ: "المنُّ: التحدُّثُ بما أَعْطَى حتَّى يَبْلُغَ ذلك المعْطَى فيُؤْذِيَهُ".

 

وكذلك لا تُقْرِضْ وأنت تُرِيدُ منها شيئًا غَيْرَ وَجْهِ اللهِ -تَعَالَى-، مِنْ مَنْصِبٍ، أو سُمْعَةٍ، أو شيءٍ مِنْ ذلك، قال اللهُ -تَعَالَى-: (وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ)[المدثر:6]، أي: لا تُعْطِ عَطِيَّةً تَلْتَمِسُ بها أَفْضَلَ منها.

 

 

المرفقات

القرض الحسن.doc

القرض الحسن.pdf

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات