القراءة -2

خالد بن سعود الحليبي

2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التربية
عناصر الخطبة
1/ نماذج لاهتمام السلف بالقراءة 2/ تقصير طلاب العلم في هذا الجانب 3/ دور الأسرة في تهيئة الطفل لتعلم القراءة 4/ دور المعلم في تشجيع الطلبة على القراءة 5/ عوامل تشجع لانتشار الكتاب 6/ مقترحات في معالجة ضعف القراءة.

اقتباس

لنأخذ موضوعًا من كتاب ليكون محور حديثنا بدلاً من الثرثرة حول الحر والبرد، وأنواع الطعام والترفيه، أو الغيبة أحيانًا، أفلا نشعر بالسعادة حين نخرج من سمرنا بأفكار نَمَت بالحوار وصقلت بالمناقشة؟. إنك لو خصصت من وقتك نصف ساعة كل يوم للقراءة كنت تقضيها في مكالمة هاتفية غير مهمة، أو في مشاهدة ما لا ينفعك وربما يضرك في آخرتك، لانتفعتَ دنيا وأخرى، ولقرأت في عامك هذا عشرات الكتب...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله (الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ) [الجمعة: 2]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وسلم، المعلم للكتاب والحكمة، الذي حقّق برسالته النقلة الكبرى للأمة الأمية، التي وصفت بأنها لا تقرأ ولا تحسب، من مقام التخلف والعزلة الحضارية والتاريخية، إلى مواقع السيادة والريادة، ومن التبعثر والتآكل والضلال، إلى الوحدة والوحدانية والتكامل والهدى، حتى غدت مؤهلة لمقام الشهادة على الناس والقيادة لهم إلى الخير، والتواصي بالحق، والتواصي بالمرحمة.

 

عباد الله، يا أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، اتقوا الله؛ فإنها وصية الله لرسله، ووصية الرسل لأقوامهم، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النساء: 1].

 

أيها الإخوة المؤمنون، أخي الطالب، أخي الموظف: مواصلة في موضوع القراءة، أناديكم -يا أهل العلم والإيمان- لقد كانت العقبات التي تحول بين أجدادنا الأفذاذ وإشباع رغبتهم في القراءة وتحصيل العلم النافع هائلة، لكنهم تخطّوها كلها بعزيمة ثابتة، وطموح وثّاب.

 

كانت الكتب نادرة، فنسخوها بالأيدي، وتُكلفُ المال الكثير فبذلوه بسخاء، وكانت متباعدة في أصقاع الأرض فرحلوا حيث وُجدت، يبحثون عنها بحث الظمآن عن الماء الزلال.

 

وأما أنت فها هي الكتب مبذولة من حولك، معروضة على رفوف المكتبات، متنوعة الأفكار والموضوعات، تتلألأ كالبستان يضم أنواع الزهور، تناديك لتقطف منها ما يحلو لك فأقبل ولا تتردد.

 

ولقد كان لك في أجدادك أسوة حسنة، ألم تر كيف كان أحدهم إذا وقع بيده كتاب قرأه من أوله إلى آخره، حتى إنه من شغفه بالقراءة، كان يكتري دكاكين الوراقين -وهي بمثابة المكتبات حاليًا-، يبيت فيها لا ليحرسها، وإنما للنظر في الكتب وحسب!!.

 

وهذا الفتح بن خاقان وأبو فرج الإسفراييني والخطيب البغدادي، كانوا وأمثالهم يستغلون فرصة مشيهم أو تشاغل جليسهم، فيُخرِجون الكتاب من جيوبهم فيقرؤون، خشية أن تمضي دقائق المشي والانتظار دون فائدة.

 

ويروي الخطيب البغدادي أنه ما دخل على إسماعيل القاضي إلا رآه يقرأ في كتاب، أو يبحث عنه أو يعتني به.

 

وكان الإمام سليم الرازي أحد أئمة السادة الشافعية في عصره من الورع على جانب قوي، يحاسب نفسه على الأوقات لا يدع وقتًا يمضي بغير فائدة، إما ينسخ أو يدرس أو يقرأ.

 

وحدث عبد الغافر الفارسي عن أحد الأئمة أن لذته ولهوه ونزهته كانت في مذاكرة العلم، وطلب الفائدة من أيّ نوع كان.

 

ويقول أحدهم: "فسبيل طالب الكمال في طلب العلم: الاطلاع على الكتب التي قد تخلفت من المصنفات، فليكثر من المطالعة، فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره، ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة. فالله الله، وعليكم بملاحظة سير القوم، ومطالعة تصانيفهم وأخبارهم، فالاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم:

 

فاتني أن أرى الديار بطرفي *** فلعلي أرى الديار بمسمعي

 

ثم يقول: وإني أخبر عن حالي، ما أشبع من مطالعة الكتب، وإذا رأيت كتابًا لم أره فكأني وقعت على كنز،، ولو قلت: إني قد طالعت عشرين ألف مجلد كان أكثر وأنا بعدُ في الطلب؛ فاستفدت بالنظر فيها من ملاحظة سِيَر القوم وقدر هممهم، وحفظهم، وعباداتهم، وغرائب علومهم ما لا يعرفه من لم يطالع، ولله الحمد". انتهى كلامه -رحمه الله-.

 

وكانوا يأسفون على أوقات الأكل والشرب أن تضيع دون فائدة، بل كانوا يعدون من صفات الكمال لدى طالب العلم أنه سريع المشي، سريع القراءة، سريع الكتابة، وكأنهم في سباق مع الزمن، يلاحقون لحظاته، ويتصيدون سويعاته.

 

ومن المؤسف أنه انتشر في صفوف بعض طلبة العلم اليوم الكسل العقلي، وغلب عليهم إيثار الراحة والدعة على الجد والدأب، وصارت الرفاهية وأنواع من الفضول مقصدًا من مقاصد الحياة عندهم، وغدت المتع مطلبًا من مطالبهم، فلم يبق لديهم وقت للدرس والتحصيل، وصارت حالهم تشبه حال من عناه الشاعر بقوله:

 

إذا كان يؤذيك حَرُّ المصيف *** وقرُّ الخريف وبرد الشتا

ويلهيك حسن زمان الربيع *** فأخذك للعلم قل لي: متى؟!

 

وقد يخيل لبعضهم أن الأيام ستفرغ له في المستقبل من الشواغل، وتصفو له من المكدرات والعوائق، وأنه سيكون فيها أفرغ منه في الماضي أيام الشباب، ولكن الواقع المشاهد على العكس من هذا -أيها الأخ العزيز-؛ كلما كبرت سنك كبرت مسئولياتك، وزادت علاقاتك وضاقت أوقاتك، ونقصت طاقتك، فالوقت في الكبر أضيق، والجسم فيه أضعف، والصحة فيه أقل والنشاط فيه أدنى، والواجبات والشواغل فيه أكثر وأشد، فبادر ساعات العمر وهي سانحة، ولا تتعلق بالغائب المجهول، فكل ظرفٍ مملوء بشواغله وأعماله ومفاجأته:

 

أتزعم أن تكون وأنت شيـخ *** كما قد كنت أيام الشــباب

لقد كذبتك نفسك لبس ثوبٌ *** دريـسٌ كالجـديد من الثياب

 

وقد أنذرنا الله بذكر مراحل العمر، هذا إذا سرنا فيها كلها ولم يتخطفنا الأجل: (اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ) [الروم: 54].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن، ونفعني وإياكم بما فيه من الآي والبيان، أقول هذا القول، واستغفروا الله العظيم الجليل لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه، إنه الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولي الصالحين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

 

أما بعد:

 

أيها الأخوة المؤمنون: اتقوا الله وأطيعوه.

 

إن مشكلة العزوف عن القراءة لا يمكن أن ينفرد بحلها عامل من العوامل المؤثرة على سلوك الإنسان، وإنما لا بد من تعاون المنزل والمدرسة والمجتمع.

 

وإن لجو الأسرة دورًا رئيسًا في تهيئة الطفل لتعلم القراءة، وتعويده عليها، فإذا نشأ الطفل في جو لا يكترث للقراءة، فلا أبوان يقرآن، ولا تقع عين الطفل في بيته على مجلة ولا كتاب، فكيف سيتعلم القراءة، وأنى له أن يحبها؟!.

 

إن الأبوين القارئين يساعدان أولادهما على حب القراءة والترغيب فيها، ويوفران لهم مكتبة مناسبة لأعمارهم المختلفة، بل ويرغبانهم في توفير شيء من مصروفهم الخاص لشراء الكتاب، ويرصدان الهدايا لمن يقرأ كتابًا كاملاً مثلاً، ويناقشانهم في مقروءاتهم موجهين وناصحين وناقدين.

 

ولا بد هنا من العناية الفائقة باختيار الكتاب النافع المربي، والمجلة التي تمتزج فيها التسلية بروح الإيمان، وأن نحذر كل الحذر من المجلات المنحرفة، والكتب المضللة الضارة.

 

وللمعلم دوره البارز في تشجيع الطلبة على القراءة، فهو يلفت نظرهم إلى المراجع التي تزيد معارفهم، ويعلمهم منهجية القراءة وأساليبها، ويحبّب إليهم ارتياد المكتبات والمطالعة فيها، ويرشدهم إلى أهم الكتب وأنفعها لهم وأنسبها لمستواهم.

 

وللمجتمع دوره الكبير كذلك؛ حيث تنتشر فيه المكتبات العامة التي أسّستها الدولة لنشر الثقافة والعلم، وهناك عوامل كثيرة تتصل بنشاط المجتمع لتشجيع انتشار الكتاب كمعارض الكتب، والمسابقات الثقافية لتلخيص الكتب، والدور الذي تلعبه وسائل الإعلام المقروءة والمرئية والمسموعة في التوعية بأهمية القراءة واقتناء الكتاب، بدل استحواذها على وقت طالب العلم كله، وللأفراد المحبين للقراءة الذين يحرصون على شراء الكتب، ويحثون أقرانهم على شرائها ويتبادلونها بينهم أثر كبير.

 

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه *** فكل قرين بالمقارن يقتدي

 

 

وهناك من يصيح في وجهك كلما حثثته على القراءة مثلاً: لا أجد الوقت الكافي للقراءة.

 

مهلاً أخي: لو أردت لوجدت الوقت الكافي، إنك تسفح أوقاتًا طويلة فيما هو دون القراءة فائدة ومتعة؛ كم من الأوقات تهدرها في الانتظار؟ انتظار دورك في عيادة أو في شراء أي شيء من لوازمك الشخصية، انتظار وصول القطار أو الطائرة، أو وصول ضيف في منزلك.

 

إننا نقضي مع أصحابنا وأقربائنا أوقاتًا كثيرة للسمر، أفلا تكون لقاءاتنا أكثر جدوى ومنفعة لو أديرت على نحو مفيد؟ لنأخذ موضوعًا من كتاب ليكون محور حديثنا بدلاً من الثرثرة حول الحر والبرد، وأنواع الطعام والترفيه، أو الغيبة أحيانًا، أفلا نشعر بالسعادة حين نخرج من سمرنا بأفكار نَمَت بالحوار وصقلت بالمناقشة؟

 

إنك لو خصصت من وقتك نصف ساعة كل يوم للقراءة كنت تقضيها في مكالمة هاتفية غير مهمة، أو في مشاهدة ما لا ينفعك وربما يضرك في آخرتك، لانتفعتَ دنيا وأخرى، ولقرأت في عامك هذا عشرات الكتب، ولو كنت لم تقرأ في حياتك كتابًا واحدًا!

 

ثم لماذا نبخل في شراء الكتاب؟! وها نحن نضع أموالنا في مشتهيات لا تسمن ولا تغني من جوع، فالخمسون ريالاً التي نشتري بها طبقًا من الحلويات تشتري بمثلها نحوًا من عشرين كتابًا من كتب الجيب بل أكثر!

 

وكم سيبقى طعم ذلك الطبق في لسانك، وكم سيبقى نفع ذلك العلم في قلبك وعقلك، بل وسلوكك، بل ربما بقراءة كتاب ترتفع بما فيه درجات عليا في الجنة!

 

ألا تعلم أن من سلفنا من جمع أكثر من عشرين ألف كتاب، وأن بعضهم كان ينفق الذهب الخالص في سبيل شرائها، ونحن نتردد في شراء كتاب مفيد وربما لا يستطيع أن يصبر بعض من ابتلوا بعادة التدخين عن شراء علبته الخبيثة كل يوم، والتي يساوي سعرها سعر كتاب نافع، مع الفارق.

 

أخي الحبيب: ليس هناك وصفة طبية تحول عزوفك عن القراءة إلى شغف بها، وإعراضك عنها إلى إقبال عليها، فلا بد للخطوة الأولى من إرادة واستعداد، والاستعداد موجود لدى كل إنسان، وأما الإرادة فهذا شأنك، فهل ستبدأ من هذا اليوم بالقراءة النافعة؟ أرجو أن يوفقك الله لذلك.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، واحم حوزة الدين، ودمر أعداء دينك أجمعين، اللهم إنا نسألك موجبات رحمتك، وعزائم مغفرتك والسلامة من كل إثم، والغنيمة من كل بر، والفوز بالجنة، والنجاة من النار.

 

اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، ووفقهم لإصلاح رعاياهم وارزقهم البطانة الصالحة التي تعينهم إذا ذكروا، وتذكرهم إذا نسوا، وجنبهم بطانة السوء، وارزقهم حب رعاياهم.

 

اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد.

 

 

المرفقات

القراءة -2

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات