اقتباس
هذا السؤال الحائر يمر علينا في كل عام ولا تجد له إجابة، فما هي الأسباب التي تجعل قطاعا كبيرا من المسلمين لا يستفيدون من كتاب الله خاصة في هذا الشهر المبارك المليء بالطاعات والحسنات والذي يقبل كثير من المسلمين فيه على كتاب الله قراءة وصلاة وسماعا ؟ بحيث نرى عشرات الملايين من المسلمين مقبلين على كتاب القرآن؛ تلاوة وسماعا، ومع ذلك فلن تجد معشار عشرهم أو أقل من يتدبر ويتذكر ويتفهم لما يتوله ويسمعه ؟! فما السر وراء هذه الوضعية الغريبة والعجيبة في نفس الوقت مع كتاب الله ؟
الجانب الروحي في الإنسان هو مصدر سعادته وراحته في الدنيا والآخرة، وأيضا هو مصدر شقائه، فقد يؤتى المرء من نعيم الدنيا وكنورها الشيء الكثير الذي يشبع حاجات جسده ورغبات نفسه، وأيضا قد يتعلم من صنوف العلم والخبرات التجريبية ما يجعله في مصاف العلماء والحكماء، ولكنه إذا افتقد لراحة قلبه وسلامة صدره وطمأنينة فؤاده، فإن حياته تكون عبارة عن ضنك متواصل وشقاء متتابع وضيق لا ينتهي، كما قال تعالى ( ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى ) [ طه: 124]، والضنك هو انغلاق النفس وانقباض القلب وانطباق الصدر، ولا قيمة لكل كنوز ومتاع الدنيا إذا كان حال العبد هكذا.
والعبادات في مجموعها تهدف لإذكاء الجانب الروحي في النفس البشرية وتقوية المناعة الإيمانية لدى الإنسان من أجل الصمود في قبالة هجمات الدنيا الشرسة، وشهر رمضان المبارك واحد من أعظم مواسم العبادة الخالصة والتي ترفع الجانب الروحي والمستوى الإيماني للعبد وتسمو بجوانبه الأخلاقية والسلوكية والعقلية والنفسية.
فإن من أعظم بنود ميثاق العبادات في رمضان وغير رمضان؛ هو كتاب الله - عز وجل - الذي نزل هداية ورشادا واستقامة للعالمين، ولقد كان القرآن هو مصدر التربية والتوجيه والتقويم والتعليم الأول للصحابة - رضوان الله عليهم -، فهو دستورهم ومنهجهم وكتابهم وقانونهم وميثاقهم، لا منهج أو ميثاق غيره، لذلك تخّرج جيلهم من أعظم الأجيال، جيلا فريدا فذا متفردا من جميع نواحيه ومجالاته، ولعل السر الأول في روعة هذا الجيل وتفرده أنه كان جيلا قرآنيا فريدا، تربي بالقرآن وتلقه للتنفيذ مباشرة، والتطبيق الفوري، تلقه بقلوب مفتوحة وآذان صاغية وعقول واعية، تعاملوا مع القرآن على أن الهواء الذي يتنفسونه فلا حياة لهم بدونه، تقشعر لسماعه جلودهم، وتهتز لآياته نفوسهم، يزيدهم إيمانا وهداية كلما زادوا فيه، لا يبالي أحدهم ولو طعن بالسيوف ومزق بالسهام مادام يرتل القرآن كما حدث مع عباد بن يشر - رضي الله عنه - ، فلماذا نحن لا نتأثر بالقرآن ولا ينتج معنا القرآن هذه الأوصاف والآثار العظيمة التي وردت في كتاب الله - عز وجل - في حق مستمعي القرآن من قشعريرة الجلود ولين القلوب والخشوع والبكاء وزيادة الإيمان ؟ بل هل نحن ندري من الأساس لماذا نقرأ القرآن ؟ لأن الإجابة عن هذا السؤال سيكون مدخلا للإجابة عن السؤال الأصلي؛ لماذا لا ننتفع من القرآن ؟
هل نقرأ القرآن لمجرد التلاوة والاستكثار من الحسنات ؟ أم نقرؤه لنعجب من بلاغته ونطرب ببديع معانيه وروعة ألفاظه ؟ أم نقرؤه لنتذكر الموت والآخرة والحساب ؟ أم أننا نقرؤه للعلم والإطلاع والثقافة ومعرفة أخبار الأولين وحكايات المرسلين والسابقين ؟
هذا السؤال الحائر يمر علينا في كل عام ولا تجد له إجابة، فما هي الأسباب التي تجعل قطاعا كبيرا من المسلمين لا يستفيدون من كتاب الله خاصة في هذا الشهر المبارك المليء بالطاعات والحسنات والذي يقبل كثير من المسلمين فيه على كتاب الله قراءة وصلاة وسماعا ؟ بحيث نرى عشرات الملايين من المسلمين مقبلين على كتاب القرآن؛ تلاوة وسماعا، ومع ذلك فلن تجد معشار عشرهم أو أقل من يتدبر ويتذكر ويتفهم لما يتوله ويسمعه ؟! فما السر وراء هذه الوضعية الغريبة والعجيبة في نفس الوقت مع كتاب الله ؟
بالنظر لأحوال المسلمين مع كتاب الله وتعاملهم معه نستطيع أن نحدد أسباب عدم الاستفادة من القرآن فيما يلي:
أولا: الموروثات الخاطئة؛ فمن أكبر العقبات التي تواجه المسلمين في الاستفادة من كتاب الله الموروثات الخاطئة التي تسريت لعقول المسلمين منذ الصغر عن دور القرآن وأثره في الحياة ودوره اليومي في المجتمعات المسلمة، فثمة ارتباط شرطي في أذهان كثير من المسلمين بين القرآن وبين المناسبات الحزينة، فهو لا يستدعي في كثير من بيوتنا إلا عند النوازل والمصائب؛ في الوفاة والمرض والشدائد أو عند زيارة المقابر، فنشأ أبناء المسلمين لا يعرفون القرآن إلا في وقت الأزمات ،وهذه خطيئة كبرى يتحمل وزرها الآباء والأمهات الذين لم يربوا أبناءهم على حب القرآن والتعرف عليه في كل وقت.
ثانيا: الاهتمام المقلوب؛ فقد اجتهد كثير من المسلمين بشكليات القرآن دون الغوص في لبه وجوهره، ولا بأس بضبط الحروف و أحكام التجويد و التلاوة فهو من الأدوات المساعدة لإقامة كتاب الله - عز وجل - ، ولكن أن ينصب جهد المسلمين على ذلك دون أن يتعدى ذلك إلى التدبر والفهم، فهو من الاهتمام المعكوس بأعظم كتب الله - عز وجل -، وهو من الأمور العجيبة حقا، ولا يحدث مع أي كتاب آخر مثل هذا الاهتمام المقلوب مثلما يحدث مع كتاب الله، فأي كتاب يقرأه الناس ليتعلموا منه ويفهموه ويتأملوه ويستخرجوا ما فيه من فوائد ودروس إلا كتاب الله - عز وجل - عند كثير من المسلمين، يقرؤونه من أجل القراءة فحسب، غاية جهدهم إتقان القراءة فقط، وصدق ابن مسعود - رضي الله عنه - عندما قال: " لقد أنزل الله القرآن ليعمل به الناس، فاتخذوا تلاوته عملا " ولقد اجتمع الضدان بالفعل مع القرآن فاهتمام شكلي بالغ، وهجران موضوعي واسع، ولو نظرنا لأحوال الصحابة وأحوالنا لعلمنا أن هذا الأمر تحديدا هو الذي قام بالصحابة وأخرجهم جيلا فريدا، وقعد بنا و أنتجنا جيلا شريدا.
ثالثا: الهجران الحقيقي؛ وأقصد به هجران التدبر والتفكر في آيات الله - عز وجل - ، فنجد أن كثيرا من الناس يركزون جدا على إتقان أحكام التلاوة والتجويد دون أن يصاحب ذلك اهتماما مماثلا بالمعاني والدلائل، وتجد كثيرا من الناس يركزون على الوصول لأكبر عدد من الختمات ويلهثون من أجل الوصل إلى خواتيم السور، دون أن يكون هناك نفس الاهتمام بمعرفة التفسير لهذه السور، وهذا هو الهجران الحقيقي لكتاب الله، فالله - عز وجل - لم يورد ذكر القرآن في كتابه إلا وقد قرنه بالتدبر والتذكر والتفكر والتعقل ليرشد المؤمنين إلى الماهية الحقيقية لعملهم في كتاب الله - عز وجل-.
وقد يفهم البعض ما ورد من آثار السلف - رضي الله عنه - م في كثرة الختمات في شهر رمضان ـ مع مراعاة أن معظم هذه الآثار لا تصح ـ قد تُفهم هذه الآثار بصورة خاطئة، ويحاول الكثيرون مجاراتهم في هذا المضمار ،وهم لا يدركون أن أئمة السلف قد وصلوا لهذا المستوى بعد أن فهموا وتدبروا وعقلوا التفسير والدلائل والأحكام والإشارات من الآيات والسور، وبعد أن أتموا الفهم والتدبر والتفكر، انطلقوا في سماء التلاوة بعد أن ذلت ألسنتهم بالقرآن فانطلقوا في تلاوته بسرعة تفوق غيرهم بكثير، فالقرآن عندهم لم يكن بركة يتبركون بها وحسب، ولكنهم أيقنوا أن بركة القرآن في فهمه وتدبره والعمل به.
رابعا: تضييق الوظيفة؛ فمن المفاهيم الخاطئة عن كتاب الله والتي تجعل كثيرا من المسلمين لا ينتفعون من تلاوتهم للقرآن فصر وظيفة القرآن على تحصيل الأجر والثواب الوارد في الأحاديث والآيات لمن قرأ القرآن، أو التبرك به في البيوت والمحال الجديدة أو مع بواكير الصباح لأرباب الأعمال والصناعات، والكثيرون يعتقدون أن التدبر والتفهم والبحث في معاني الآيات سوف يعطلهم عن الثواب العظيم للقراءة، وبالتالي يعرضون عن التدبر والتمعن بحثا عن ملايين الحسنات، وبهذا الفهم الخاطئ أعرض كثيرون عن التدبر ومعرفة التفسير والأحكام.
والحقيقة أن ثمة مفهوم عام خاطئ لدى قطاعات عريضة من المسلمين وهو مفهوم " الكمّ وليس الكيف " فالانجاز الكمّي هو المعيار والأساس عند المسلمين على الرغم من الارتباط الشرطي السلبي في القرآن والسنة بين الكثرة أو الكم ّ وبين الخفة والضعف والغثائية، في حين أن الكيف ممدوح ومشكور في القرآن والسنة.
وأخيرا وغير كل هذه الأسباب يبقى أن أمراض القلوب وكثرة الذنوب من أكبر أسباب عدم الانتفاع بقراءة القرآن، حيث يقسو القلب ويسود من كثرة معاصيه وآثامه ويصير مثل الكوز المجخية، محروم من لذة الطاعة وحلاوة المناجاة، قال ابن القيم رحمه الله: " ومن عقوبات المعاصي أنها تعمي القلوب، فإن لم تعمه أضعفت بصيرته ولابد، قال تعالي: ( ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ) [ الزخرف: 36]، فالقلب لا يمكنه أن يسمو إلى المعالي وعظيم الفضائل ويشتاق ويطمئن إلى كلام الله وهو يعيش مع الجيف والنتن وسفاسف الهمم " فالقلب المشغول عن القرآن بغيره لا يتأثر به لتشعبه في أودية الدنيا، فتأثير الذنوب في القلوب كتأثير الأمراض والأسقام في الأبدان، منها ما هو مقعد، ومنها ما هو مفسد، ومنها ما هو متلف، ومنها ما هو مهلك بالكلية والعياذ بالله.
فالقرآن إذا خرج من لسان يرتل، وعقل يترجم، وقلب يتعظ، أنتج ثمارا يافعة، وأزهارا يانعة، وإنما يستعان على هذا المقام الراقي في قراءة القرآن بأمرين:
الأول: استحضار عظمة المتكلم سبحانه وتعالى، فالقرآن كلام رب الأرباب وملك الملوك، جبار السموات والأرض، خالق الخلق ورازقهم، لا يشبه كلامه أي كلام، وليس له نظير في الوجود، وعلى قدر معرفة بعظمة ومكانة المتكلم يكون الخشية منه وتعظيم كلامه وأوامره ونواهيه.
الثاني: استحضار عظمة الخطاب، فالقرآن كلام الله - عز وجل - ، فهو عظيم لعظمة من تكلم به، وصدر عنه، وعظيم لعظمة من نزل به، وعظيم لعظمة من أُنزل عليه، وكُلف به، عظيم في مقاصده الحقة، عظيم في تأثيره وأثره، قال تعالى ( أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها ) [ الأنعام 122 ] فالقرآن من شدة تأثيره وعظمته لو نزل على الجبال لهدها، ولو على السماء لشقها، ولو على الأرض لفلقها.
بالجملة لن ننتفع من كتاب ربنا إلا إذا أصبح هو شغلنا الشاغل، ومحور اهتمامنا وأولى أولوياتنا، ولن نتحصل على تلكم الدرجة السامقة إلا بدوام المطالعة والتلاوة والتدبر والتذكر، فالتغيير القرآني تغيير بطئ هادئ متدرج تتشربه القلوب كما يتشرب الزرع الماء، ولن يؤتى ثماره إلا بالمداومة والتعهد والرعاية حتى تأخذ الآيات مواقعها في القلوب والنفوس، فعندها تستقر الأحوال، وتنتج الثمار، وتتفتح رياحين العبادات والتدبر في القلوب، فيندفع صاحبها إلى الطاعات بحب وصدق ويقين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم