عناصر الخطبة
1/التذكير بالنعم يحصِّن النفس من اليأس والشك 2/تذكير الله لأنبيائه بالنعم ودلالته 3/الشرائع الربانية نعمة تنتظم بها الحياة 4/وجوب شكر نعم الله لتدوماقتباس
لِنَعْلَمْ أَنَّ مَا نَعِيشُهُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْإِيمَانِ وَسَكِينَتِهِ وَرَبِيعِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَوْ بَقِيَتْ وَحْدَهَا لِلْعَبْدِ وَفَقَدَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَالدُّنْيَا كُلَّهَا لَكَانَ بَقَاءُ إِيمَانِهِ نِعْمَةً لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، فَكَيْفَ إِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- إِنَّمَا يَبْتَلِيهِ بِبَعْضِ الْبَلَاءِ، وَيَمَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الضَّرَّاءِ؛ لِيُكَفِّرَ سَيِّئَاتِهِ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ...
الخطبة الأولى:
الْحَمْدُ لِلَّهِ الصَّبُورِ الشَّكُورِ، الْعَفُوِّ الْغَفُورِ؛ يَفِيضُ الْخَيْرَ عَلَى النَّاسِ فَلَا يَشْكُرُونَ، وَيُصِيبُهُمْ شَيْءٌ مِنَ الضَّرَّاءِ فَيَجْزَعُونَ وَلَا يَصْبِرُونَ، وَيُعْطِيهِمْ مِنْ فَضْلِهِ فَيَجْحَدُونَ وَيَمْنَعُونَ، وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِهِ الشَّكُورُ (إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ)[الْمَعَارِجِ: 19- 23].
نَحْمَدُهُ حَمْدَ الشَّاكِرِينَ، وَنَسْتَغْفِرُهُ اسْتِغْفَارَ التَّائِبِينَ، وَنَسْأَلُهُ مِنْ فَضْلِهِ الْعَظِيمِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ عَظِيمٌ فِي أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ، وَلَا يُحِيطُ أَحَدٌ بِعِلْمِهِ، وَلَا يُدْرِكُ الْعِبَادُ حِكْمَتَهُ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْحَكِيمُ؛ يُغْنِي وَيُفْقِرُ، وَيُعْطِي وَيَمْنَعُ، وَيَبْسُطُ وَيَقْبِضُ، وَيُعَافِي وَيَبْتَلِي، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، وَبِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ بَيَّنَ لِلنَّاسِ صَبْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَى عِبَادِهِ وَهُمْ يُؤْذُونَهُ فَقَالَ: "مَا أَحَدٌ أَصْبَرَ عَلَى أَذًى يَسْمَعُهُ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، إِنَّهُمْ يَجْعَلُونَ لَهُ نِدًّا، وَيَجْعَلُونَ لَهُ وَلَدًا، وَهُوَ مَعَ ذَلِكَ يَرْزُقُهُمْ وَيُعَافِيهِمْ وَيُعْطِيهِمْ" صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ فَإِنَّ فِي التَّقْوَى مَنْجَاةً مِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ، وَمَخْرَجًا مِنْ عُسْرِ الدُّنْيَا وَضَوَائِقِهَا، وَجَلْبًا لِلْأَرْزَاقِ، وَدَفْعًا لِلْبَلَاءِ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ)[الطَّلَاقِ: 2- 3].
أَيُّهَا النَّاسُ: مَعَ كَثْرَةِ ضُغُوطِ الْحَيَاةِ عَلَى الْإِنْسَانِ، وَتَفَاقُمِ الْأَزَمَاتِ، وَتَتَابُعِ الْبَلَاءِ؛ يَفْقِدُ بَعْضُ النَّاسِ تَوَازُنَهُ، وَتَتَسَلَّطُ الشَّيَاطِينُ عَلَى أَفْكَارِهِ وَآرَائِهِ، فَتَحْرِفُهُ مِنْ حَالَةِ الرِّضَا عَنِ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَى حَالَةِ السُّخْطِ، وَتَنْقُلُهُ مِنَ الصَّبْرِ إِلَى الْجَزَعِ. وَرُبَّمَا جَاوَزَ ذَلِكَ فَانْفَتَلَ مِنَ الْإِيمَانِ إِلَى الشَّكِّ وَالْجُحُودِ، وَالِاعْتِرَاضِ عَلَى الْقَدَرِ، وَالسُّخْرِيَةِ بِهِ، فَيُوبِقُ نَفْسَهُ فِي الْآخِرَةِ، وَلَمْ يَنَلْ بِسُخْطِهِ وَشَكِّهِ وَاعْتِرَاضِهِ وَجُحُودِهِ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا، بَلْ قَدْ يَفْقِدُ الْمَزِيدَ مِنْهَا؛ عُقُوبَةً مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- لَهُ عَلَى عَدَمِ صَبْرِهِ فِي الْبَلَاءِ، وَسُخْطِهِ مِنَ الْقَدَرِ وَالْقَضَاءِ. وَحِكَمُ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي أَقْضِيَتِهِ وَأَقْدَارِهِ لَا يُحِيطُ بِهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَالْقَدَرُ سِرُّ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي خَلْقِهِ، وَقَدْ أَعْجَزَهُمْ سُبْحَانَهُ بِهِ.
وَلِكَيْ يُحَصِّنَ الْمُؤْمِنُ نَفْسَهُ مِنَ السُّقُوطِ فِي هَذِهِ الْأَوْدِيَةِ الْمُهْلِكَةِ؛ فَإِنَّهُ لَا بُدَّ أَنْ يَتَذَكَّرَ نِعَمَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيهِ فِيمَا مَضَى مِنْ حَيَاتِهِ، وَفِيمَا يَعِيشُ مِنْ حَاضِرِهِ، فَإِنَّهُ سَيَجِدُ نِعَمًا لَا تُحْصَى مِنْ كَثْرَتِهَا، وَلَا تُقَدَّرُ بِمِقْدَارٍ مِنْ عَظَمَتِهَا، فِي مُقَابِلِ ابْتِلَاءَاتٍ مَعْدُودَةٍ مَحْدُودَةٍ سُرْعَانَ مَا يَكْشِفُهَا اللَّهُ -تَعَالَى-، أَوْ يُنْزِلُ مَعُونَتَهُ -سُبْحَانَهُ- عَلَى عَبْدِهِ إِذَا صَبَرَ؛ لِيَتَعَايَشَ مَعَهَا وَيَأْلَفَهَا، وَالنَّصْرُ فِي الْحَرْبِ صَبْرُ سَاعَةٍ، وَالصَّبْرُ فِي الْبَلَاءِ عِنْدَ الصَّدْمَةِ الْأُولَى.
وَفِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ يُذَكِّرُ اللَّهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعَمِهِ -سُبْحَانَهُ- عَلَيْهِمْ، بَدْءًا بِقُدْوَتِهِمْ مِنَ الرُّسُلِ -عَلَيْهِمُ السَّلَامُ-، فَذَكَّرَهُمْ نِعَمَهُ، وَأَمَرَهُمْ بِشُكْرِهَا. وَخَاطَبَ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُذَكِّرُهُ بِنِعَمِهِ عَلَيْهِ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى * وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى * وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى)[الضُّحَى: 6 - 8]، وَفِي مَقَامٍ آخَرَ خَاطَبَهُ فَقَالَ سُبْحَانَهُ: (أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ * وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ * الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ * وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)[الشَّرْحِ: 1- 4].
وَسَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الْآيَاتِ جَاءَ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-مَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "سَأَلْتُ رَبِّي مَسْأَلَةً وَدِدْتُ أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ، قُلْتُ: يَا رَبِّ، كَانَتْ قَبْلِي رُسُلٌ، مِنْهُمْ مَنْ سَخَّرْتَ لَهُمُ الرِّيَاحَ، وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يُحْيِي الْمَوْتَى، قَالَ: أَلَمْ أَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ ضَالًّا فَهَدَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَجِدْكَ عَائِلًا فَأَغْنَيْتُكَ؟ أَلَمْ أَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ، وَوَضَعْتُ عَنْكَ وِزْرَكَ؟ قَالَ: قُلْتُ: بَلَى يَا رَبِّ" (رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ).
وَيُلَاحَظُ فِي آيَاتِ التَّذْكِيرِ بِالنِّعَمِ فِي الضُّحَى أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- أَعْقَبَهَا بِقَوْلِهِ: (فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ * وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ * وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)[الضُّحَى: 9 - 11]، وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ تَذَكُّرَ النِّعَمِ السَّابِقَةِ يَقُودُ الْعَبْدَ إِلَى شُكْرِهَا، وَيَكْسِرُ غُرُورَ النَّفْسِ وَعُجْبَهَا. وَمِنْ شُكْرِ النِّعَمِ الِالْتِفَاتُ إِلَى الضُّعَفَاءِ لِرِفْدِهِمْ فِي ضَعْفِهِمْ، وَإِعَانَتِهِمْ عَلَى نَوَائِبِهِمْ، مَعَ كَثْرَةِ التَّحَدُّثِ بِنِعَمِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَإِظْهَارِ أَثَرِهَا عَلَى الْعَبْدِ؛ شُكْرًا لِلَّهِ -تَعَالَى- عَلَى نَعْمَائِهِ، وَفِي حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ: "مَنْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ نِعْمَةً فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ أَنْ يُرَى أَثَرُ نِعْمَتِهِ عَلَى عَبْدِهِ" (رَوَاهُ أَحْمَدُ)، وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ: "فَإِذَا آتَاكَ اللَّهُ مَالًا فَلْيُرَ عَلَيْكَ أَثَرُ نِعْمَةِ اللَّهِ وَكَرَامَتِهِ" (رَوَاهُ النَّسَائِيُّ، وَصَحَّحَهُ ابْنُ حِبَّانَ).
وَفِي سُورَةِ "الشَّرْحِ" أَعْقَبَ اللَّهُ -تَعَالَى- تَذْكِيرَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِالنِّعَمِ الَّتِي أَنْعَمَ بِهَا عَلَيْهِ قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا)[الشَّرْحِ: 5- 6]؛ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنْ تَذَكُّرَ النِّعَمِ السَّابِقَةِ فِي حَالِ الْبَلَاءِ الْوَاقِعِ يَشْرَحُ الصَّدْرَ، وَيُزِيلُ الْهَمَّ وَالْغَمَّ؛ لِعِلْمِ الْعَبْدِ أَنَّ الْيُسْرَ سَيَكُونُ بَعْدَ الْعُسْرِ، وَمَا أَعْظَمَ هَذِهِ التَّسْلِيَةَ الرَّبَّانِيَّةَ لِلْعَبْدِ، الْمُؤَكَّدَةَ بِالتَّكْرَارِ، وَبِـ "إِنَّ" الْمُؤَكِّدَةِ، وَمَا أَكْثَرَ نَفْعَهَا لِمَنْ تَأَمَّلَهَا فِي بَلَائِهِ وَمُصِيبَتِهِ.
وَفِي تَذْكِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ الْإِيمَانِ الَّتِي هِيَ أَفْخَمُ النِّعَمِ وَأَعْظَمُهَا وَأَجَلُّهَا وَأَنْفَعُهَا قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ)[الْحُجُرَاتِ: 17]، وَفِي التَّذْكِيرِ بِنِعْمَةِ بَعْثَةِ خَاتَمِ الرُّسُلِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَوْلُ اللَّهِ -تَعَالَى-: (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 164]، لِنَعْلَمْ أَنَّ مَا نَعِيشُهُ مِنْ طُمَأْنِينَةِ الْإِيمَانِ وَسَكِينَتِهِ وَرَبِيعِهِ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَوْ بَقِيَتْ وَحْدَهَا لِلْعَبْدِ وَفَقَدَ أَهْلَهُ وَمَالَهُ وَوَلَدَهُ وَالدُّنْيَا كُلَّهَا لَكَانَ بَقَاءُ إِيمَانِهِ نِعْمَةً لَا تُقَدَّرُ بِثَمَنٍ، فَكَيْفَ إِذَا اسْتَحْضَرَ الْعَبْدُ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- إِنَّمَا يَبْتَلِيهِ بِبَعْضِ الْبَلَاءِ، وَيَمَسُّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الضَّرَّاءِ؛ لِيُكَفِّرَ سَيِّئَاتِهِ، وَيَرْفَعَ دَرَجَاتِهِ، وَيَدُلَّهُ عَلَى مَرْضَاتِهِ، وَيُنَبِّهَهُ مِنْ غَفْلَتِهِ، وَيُعِيدَهُ عَنْ صَبْوَتِهِ. فَالِابْتِلَاءُ لِلْمُؤْمِنِ نِعْمَةٌ إِنْ صَبَرَ وَاحْتَسَبَ، وَهَذِهِ النِّعَمُ الْعَظِيمَةُ تَسْتَوْجِبُ تَذَكُّرَهَا بِاسْتِمْرَارٍ، وَالتَّذْكِيرَ بِهَا، وَشُكْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهَا.
وَذَكَّرَ اللَّهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ الْأُخُوَّةِ الْإِيمَانِيَّةِ، وَالْأُلْفَةِ وَالْمَوَدَّةِ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَقَدْ كَانَتِ الْعَرَبُ قَبْلَ الْإِسْلَامِ مُفَرَّقَةً مُمَزَّقَةً، تَتَنَاحَرُ فِيمَا بَيْنَهَا، وَيُسَخِّرُهَا الْفُرْسُ وَالرُّومُ لِمَصَالِحِهَا، وَأُخُوَّةُ الْإِيمَانِ لَا تَعْدِلُهَا أُخُوَّةٌ، وَرَابِطَتُهَا فَوْقَ كُلِّ رَابِطَةٍ (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)[آلِ عِمْرَانَ: 103]، وَهَذِهِ النِّعْمَةُ تَسْتَوْجِبُ شُكْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهَا، وَالْمُحَافَظَةَ عَلَيْهَا بِالْوَلَاءِ لِلْمُؤْمِنِينَ وَمَحَبَّتِهِمْ فِي اللَّهِ -تَعَالَى- وَنُصْرَتِهِمْ وَنَجْدَتِهِمْ.
نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يَرْزُقَنَا شُكْرَ نِعْمَتِهِ، وَحُسْنَ عِبَادَتِهِ، وَالتَّمَسُّكَ بِشَرِيعَتِهِ، وَالثَّبَاتَ عَلَى دِينِهِ، إِلَى أَنْ نَلْقَاهُ غَيْرَ مُبَدِّلِينَ وَلَا مُغَيِّرِينَ، إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ مُجِيبٌ.
وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...
الخطبة الثانية:
الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.
أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَاذْكُرُوا نِعَمَهُ فَاشْكُرُوهُ عَلَيْهَا، وَاحْمَدُوهُ بِهَا، وَسَخِّرُوهَا فِي طَاعَتِهِ -تَعَالَى-؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَزِيدُهَا وَيُبَارِكُهَا بِشُكْرِهَا: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)[إِبْرَاهِيمَ: 7].
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الشَّرَائِعُ الرَّبَّانِيَّةُ نِعْمَةٌ مِنَ اللَّهِ -تَعَالَى- تَنْتَظِمُ بِهَا حَيَاتُهُمْ، وَتُحْفَظُ بِهَا حُقُوقُهُمْ، وَتُرَاعَى بِهَا مَصَالِحُهُمْ، وَيَتَعَايَشُونَ عَلَى الْأَرْضِ بِشَرْعٍ مِنْهُ -سُبْحَانَهُ- وَتَعَالَى. وَهَذِهِ الشَّرَائِعُ مِنَ الْإِيمَانِ؛ لِأَنَّ الْإِيمَانَ أَعْمَالٌ، وَقَدْ ذَكَّرَ اللَّهُ -تَعَالَى- عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ بِنِعْمَةِ الشَّرَائِعِ الْمُنَزَّلَةِ، وَالْأَحْكَامِ الْمُفَصَّلَةِ، الَّتِي يَسِيرُونَ عَلَيْهَا فِي حَيَاتِهِمْ، وَيُطَبِّقُونَهَا فِي بُيُوتِهِمْ وَمُجْتَمَعَاتِهِمْ، فَيَنَالُونَ خَيْرَ الدُّنْيَا بِتَطْبِيقِ أَحْسَنِ الْأَحْكَامِ، وَخَيْرَ الْآخِرَةِ بِالطَّاعَةِ وَالِامْتِثَالِ (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ)[الْمَائِدَةِ: 50].
وَذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ الطَّلَاقِ وَالرَّجْعَةِ وَالْعَضْلِ فَخَتَمَهَا بِقَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[الْبَقَرَةِ: 231]، وَلَوْلَا شَرَائِعُ اللَّهِ -تَعَالَى- الْمُنَزَّلَةُ، وَأَحْكَامُهُ الْمُفَصَّلَةُ؛ لَضَلَّ النَّاسُ وَضَاعُوا كَمَا ضَاعَ أَصْحَابُ الْقَوَانِينِ الْوَضْعِيَّةِ الْبَشَرِيَّةِ، الَّتِي تَنْضَحُ بِالظُّلْمِ، وَتَفِيضُ بِالْفَسَادِ، وَيُغَيِّرُهَا أَرْبَابُهَا كُلَّ حِينٍ؛ لِأَنَّ الْعَقْلَ الْبَشَرِيَّ قَاصِرٌ عَنِ الْإِحَاطَةِ بِحَاجَاتِ النَّاسِ كُلِّهِمْ، وَعَاجِزٌ عَنْ إِقَامَةِ الْعَدْلِ بَيْنَهُمْ، وَهُوَ أَصْغَرُ مِنْ أَنْ يَرْعَى مَصَالِحَهُمْ كُلِّهِمْ.
وَلَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ -تَعَالَى- جُمْلَةً مِنْ أَحْكَامِ الْمَوَارِيثِ خَتَمَهَا بِقَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ)[النِّسَاءِ: 176]. وَنِعْمَةُ تَنَزُّلِ الشَّرِيعَةِ عَلَى النَّاسِ تَسْتَوْجِبُ شُكْرَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهَا، وَالْتَمَسُّكَ بِهَا، وَالتَّحَاكُمَ إِلَيْهَا، وَعَدَمَ الْحَيْدَةِ عَنْهَا، وَإِلَّا كَانَ النَّقْصُ وَالضَّلَالُ وَالْخُسْرَانُ. وَلَا يَحْرِفُ النَّاسَ عَنْ شَرِيعَةِ اللَّهِ -تَعَالَى- الَّتِي أَنْزَلَهَا إِلَّا مَنْ صَدَفَ عَنْهَا، وَاسْتَنْكَفَ مِنْهَا، وَحَسَدَ أَهْلَ الْإِيمَانِ عَلَيْهَا، وَمِنْهُمْ كُفَّارُ أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ جُهْدَهُمْ لِصَرْفِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرْفِهِمْ عَنْ شَرَائِعِ رَبِّهِمْ -سُبْحَانَهُ- وَتَعَالَى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ)[النِّسَاءِ: 44]، وَكَذَلِكَ أَهْلُ الْأَهْوَاءِ وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تَحُولُ الشَّرَائِعُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ شَهَوَاتِهِمْ، فَيُرِيدُونَ التَّخَلُّصَ مِنَ الشَّرَائِعِ لِنَيْلِ مَآرِبِهِمْ، وَإِشْبَاعِ شَهَوَاتِهِمْ (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا)[النِّسَاءِ: 27].
فَحَرِيٌّ بِالْمُؤْمِنِ أَنْ يَشْكُرَ نِعَمَ اللَّهِ -تَعَالَى- عَلَيْهِ؛ إِذْ دَلَّهُ عَلَى أَحْسَنِ الشَّرَائِعِ وَأَتَمِّهَا، وَأَنْ يَتَمَسَّكَ بِهَا، وَأَلَّا يَسْتَبْدِلَ بِهَا غَيْرَهَا (صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صَبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 138].
وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم