الفتاح -جل جلاله-

د عبدالله بن مشبب القحطاني

2020-12-28 - 1442/05/13 2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/اسم الله الفتاح وبعض فتوحاته على عباده 2/عظيم حاجة العباد إلى الفتاح سبحانه.

اقتباس

تُهَشِّمُكَ الظَّرُوفُ، وَتَتَوَاطَأُ ضِدَّكَ الْكُرُوبُ، وَتَتَكَالَبُ عَلَيْكَ الْأَزَمَاتُ، وَتَتَزَاحَمُ فِي قَلْبِكَ الْآلَامُ، وَيُغْلَقُ الْبَابُ دُونَكَ؛ حَتَّى تَظُنَّ أَنْ لَيْسَ لِهَذَا الْهَمِّ وَالْغَمِّ كَاشِفَةٌ؛ فَإِذَا بِالْفَتَّاحِ يُرْسِلُ إِلَيْكَ فَتْحَهُ بِأَيْسَرِ الْأُمُورِ، وَتَتِمُّ إِرَادَتُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ.. يُدْرِكُكَ الْفَقْرُ، وَتَغْشَاكَ الدُّيُونُ، وَتَتَغَيَّرُ مَلَامِحُكَ، وَيَنْكَسِرُ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ -عَزَّ وَجَلَّ- الْفَتَّاحُ، وَهَذَا الِاسْمُ فِيهِ بُشْرَى وَرِسَالَةٌ إِلَى كُلِّ مَنْ مَلَّ مِنَ الْحَيَاةِ، وَسَئِمَ الْعَيْشَ، وَضَاقَ ذَرْعًا بِالْأَيَّامِ، وَذَاقَ الْغُصَصَ؛ أَنَّ هُنَاكَ فَتْحًا مُبِينًا، وَنَصْرًا قَرِيبًا، وَفَرَجًا بَعْدَ شِدَّةٍ، وَيُسْرًا بَعْدَ عُسْرٍ، أَنَّ هُنَاكَ لُطْفًا خَفِيًّا مِنْ بَيْنِ يَدَيْكَ وَمِنْ خَلْفِكَ، وَأَنَّ هُنَاكَ أَمَلًا مُشْرِقًا وَمُسْتَقْبَلًا حَافِلًا، وَوَعْدًا صَادِقًا؛ (وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ) [الرُّومِ: 6].

 

إِنَّ لِضِيقِكَ مَعَ الْفَتَّاحِ فُرْجَةً وَكَشْفًا، وَلِهَمِّكَ مَعَ الْفَتَّاحِ أُنْسًا، قَالَ اللَّهُ -عَزَّ وَجَلَّ- عَنْ نَفْسِهِ: (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سَبَإٍ: 26]؛ فَرَبُّنَا يَفْتَحُ مَغَالِيقَ الْقُلُوبِ بِالْهُدَى وَالْإِيمَانِ وَالتُّقَى.

 

وَرَبُّنَا يَكْشِفُ الْغُمَّةَ عَنْ عِبَادِهِ، وَيُسْرِعُ بِالْفَرَجِ، وَيَرْفَعُ الْكَرْبَ، وَيُزِيلُ الضَّرَّاءَ، وَيَفِيضُ بِالرَّحْمَةِ، وَيَفْتَحُ أَبْوَابَ الرِّزْقِ، وَيَفْتَحُ لِعِبَادِهِ فِي شُؤُونِ دُنْيَاهُمْ مَا يُصْلِحُ بِهِ عَيْشَهُمْ وَتَسْتَقِيمُ حَيَاتُهُمْ؛ (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فَاطِرٍ: 2].

 

وَرَبُّنَا هُوَ الَّذِي فَتَحَ أَبْوَابَ الْعِلْمِ وَالْحِكْمَةِ وَالْمَعْرِفَةِ وَالْبَصِيرَةِ لِأَنْبِيَائِهِ وَأَوْلِيَائِهِ وَعَبَادِهِ الصَّالِحِينَ؛ (وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الْبَقَرَةِ: 282].

 

وَرَبُّنَا الَّذِي فَتَحَ الْمَمَالِكَ وَالْأَمْصَارَ لِعِبَادِهِ الصَّالِحِينَ الْمُؤْمِنِينَ؛ (فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ * بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ) [الرُّومِ: 4-5]، (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الْأَنْفَالِ: 19]، (قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) [الشُّعَرَاءِ: 117-118]، (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا) [الْفَتْحِ: 1].

 

وَرَبُّنَا هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ وَيَحْكُمُ وَيَقْضِي بَيْنَ عِبَادِهِ بِالْحَقِّ فِي الْآخِرَةِ؛ حُكْمًا لَا جَوْرَ فِيهِ وَلَا جَنَفَ وَلَا ظُلْمَ، وَلَكِنَّهُ عَدْلٌ وَحَقٌّ، وَاللَّهُ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ؛ (قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ) [سَبَإٍ: 26]، (وَاسْتَفْتَحُوا وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ) [إِبْرَاهِيمَ: 15]، (قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ) [السَّجْدَةِ: 29].

 

وَرَبُّنَا هُوَ الَّذِي يَفْتَحُ بِأَنْوَاعِ النِّعَمِ لِلْعَاصِينَ؛ اسْتِدْرَاجًا لَهُمْ؛ (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ) [الْأَنْعَامِ: 44].

 

وَكَذِلِكَ الْفَتَّاحُ مِنْ أَسْمَائِهِ *** وَالْفَتْحُ فِي أَوْصَافِهِ أَمْرَانِ

فَتْحٌ بِحُكْمٍ وَهْوَ شَرْعُ إِلَهِنَا *** وَالْفَتْحُ بِالْأَقْدَارِ فَتْحٌ ثَانِي

وَالرَّبُّ فَتَّاحٌ بِذَيْنِ كِلَيْهِمَا *** عَدْلًا وَإِحْسَانًا مِنَ الرَّحْمَنِ

 

نَقِفُ عِنْدَ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) [فَاطِرٍ: 2].

 

حَقِيقَةٌ لَا بُدَّ أَنْ يَتَذَكَّرَهَا الْمُؤْمِنُ عَلَى الدَّوَامِ؛ وَهِيَ: أَنَّهُ لَا عُبُورَ لِأَيِّ رَغْبَةٍ إِلَّا عَنْ طَرِيقِ اللَّهِ، وَلَا وُجُودَ لِأَيِّ حَاجَةٍ إِلَّا فِي سَاحَةِ اللَّهِ، وَلَا إِمْكَانِيَّةَ لِحُدُوثِ شَيْءٍ إِلَّا بِاللَّهِ؛ فَإِنَّهُ وَحْدَهُ الَّذِي لَا حَوْلَ فِي الْوُجُودِ وَلَا قُوَّةَ إِلَّا بِهِ، وَلَا يُمْكِنُ لِخَلِيَّةٍ أَنْ تَتَحَرَّكَ، وَلَا لِذَرَّةٍ أَنْ تَكُونَ، وَلَا لِقَطْرَةٍ أَنْ تَتَبَخَّرَ، وَلَا لِوَرَقَةِ شَجَرٍ أَنْ تَسْقُطَ إِلَّا بِحَوْلِهِ وَقُوَّتِهِ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ كُلُّهُ أَنْ يَمَسَّكَ بِسُوءٍ لَمْ يُرِدْهُ اللَّهُ، وَلَا يَسْتَطِيعُ الْعَالَمُ كُلُّهُ أَنْ يَدْفَعَ عَنْكَ سُوءًا قَدَّرَهُ اللَّهُ.

 

كَتَبَ بَعْضُ السَّلَفِ لِأَخٍ لَهُ: أَمَّا بَعْدُ؛ فَإِنْ كَانَ اللَّهُ مَعَكَ فَمَنْ تَخَافُ؟ وَإِنْ كَانَ عَلَيْكَ فَمَنْ تَرْجُو؟ اللَّهُمَّ كُنْ مَعَنَا مُؤَيِّدًا وَنَصِيرًا.

 

يَحْتَاجُ الْمَرِيضُ إِلَى الشِّفَاءِ بَعْدَ أَنْ أَوْجَعَتْهُ الْآلَامُ، وَأَتْعَبَتْهُ الْأَوْجَاعُ، وَضَاقَتْ بِهِ الدُّنْيَا، وَقَدْ يَعْجَزُ عَنْهُ الْأَطِبَّاءُ، وَيُغْلَقُ بَابُ الدَّوَاءِ دُونَهُ؛ فَإِذَا بِالرَّحْمَنِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ الشَّافِي يَشْفِيهِ بِسَبَبٍ، أَوْ بِأَضْعَفِ سَبَبٍ، أَوْ بِأَقْرَبِ سَبَبٍ أَوْ بِلَا سَبَبٍ.. إِنَّهُ الْفَتَّاحُ -جَلَّ جَلَالُهُ-.

 

تُهَشِّمُكَ الظَّرُوفُ، وَتَتَوَاطَأُ ضِدَّكَ الْكُرُوبُ، وَتَتَكَالَبُ عَلَيْكَ الْأَزَمَاتُ، وَتَتَزَاحَمُ فِي قَلْبِكَ الْآلَامُ، وَيُغْلَقُ الْبَابُ دُونَكَ؛ حَتَّى تَظُنَّ أَنْ لَيْسَ لِهَذَا الْهَمِّ وَالْغَمِّ كَاشِفَةٌ؛ فَإِذَا بِالْفَتَّاحِ يُرْسِلُ إِلَيْكَ فَتْحَهُ بِأَيْسَرِ الْأُمُورِ، وَتَتِمُّ إِرَادَتُهُ عَلَى مَا يَشَاءُ.

 

يُدْرِكُكَ الْفَقْرُ، وَتَغْشَاكَ الدُّيُونُ، وَتَتَغَيَّرُ مَلَامِحُكَ، وَيَنْكَسِرُ قَلْبُكَ عِنْدَمَا تَذْكُرُ أَبْنَاءَكَ، وَتَخْشَى مِنْ صَاحِبِ الدَّيْنِ، وَيَحَارُ فِكْرُكَ، وَتَتَشَتَّتُ أَفْكَارُكَ؛ فَتَظُنُّ أَنَّ الدُّنْيَا أَعْلَنَتْ عِصْيَانَهَا عَلَيْكَ، وَأَدَارَتْ ظَهْرَهَا لَكَ، وَأُغْلِقَ الْبَابُ دُونَكَ؛ هُنَا يُرْسِلُ الْفَتَّاحُ بِفَرَجٍ خَفِيٍّ؛ فَيُقْضَى الدَّيْنُ، وَيَنْقَشِعُ الْفَقْرُ، وَتُسَرُّ النَّفْسُ؛ إِنَّهُ الْفَتَّاحُ؛ الَّذِي فَتَحَ أَبْوَابَ الرِّزْقِ.

 

وَنَرَى الْمُزَارِعَ وَقَدْ تَأَخَّرَ وَقْتُ الْحَصَادِ، وَتَعَاظَمَتْ حَاجَتُهُ لِلثَّمَرِ، وَصَارَ الْمَاءُ شَحِيحًا؛ فَإِذَا بِالْفَتَّاحِ يَفْتَحُ أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُبَارَكٍ، تُبْهَجُ بِهِ النُّفُوسُ، وَتَنْتَشِرُ الرَّحْمَةُ؛ (وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ) [الشُّورَى: 28]؛ إِنَّهُ الْفَتَّاحُ.

 

يُحِيطُ الْمَوْتُ بِرُكَّابِ الطَّائِرَةِ أَوِ السَّفِينَةِ؛ فَتَشْخَصُ الْأَبْصَارُ، وَتَبْلُغُ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ، وَيَظُنُّونَ أَنَّ الْمَوْتَ قَادِمٌ لَا مَحَالَةَ، وَبَابُ الْحَيَاةِ قَدْ أُغْلِقَ؛ فَيَتَّجِهُونِ إِلَى اللَّهِ الْفَتَّاحِ الْعَلِيمِ، فَإِذَا بِالرَّبِّ الْكَرِيمِ يُرْسِلُ فَرَجَهُ؛ فَتَهَدَأُ الْعَاصِفَةُ، وَتَسْتَقِرُّ الطَّائِرَةُ فِي مَسَارِهَا وَالسَّفِينَةُ عَلَى الشَّاطِئِ، وَتَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ؛ (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ) [الْعَنْكَبُوتِ: 65].

 

يَحْتَاجُ الْمُجَاهِدُ إِلَى نَصْرِ اللَّهِ بَعْدَ أَنْ تَكَالَبَ عَلَيْهِ الْأَعْدَاءُ؛ فَيَرْفَعُ يَدَهُ إِلَى السَّمَاءِ؛ فَإِذَا بِالْفَتَّاحِ يُرْسِلُ جُنُودَهُ، وَيُثَبِّتُ قَلْبَهُ، فَتُصْبِحُ الدَّائِرَةُ عَلَى أَعْدَائِهِ، وَيَأْتِي اللَّهُ بِالْفَتْحِ مِنْ عِنْدِهِ؛ (إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ) [الْأَنْفَالِ: 19]، وَيَغِيبُ الِابْنُ، وَيُسَافِرُ الْوَالِدُ، وَيَذْهَبُ الْحَبِيبُ وَالصَّدِيقُ، وَيُؤْسَرُ الْعَالِمُ؛ فَتَضِيقُ النَّفْسُ، وَتَتَشَتَّتُ الْأَفْكَارُ، وَيَرْجُفُ الْقَلْبُ كُلَّمَا تَذَكَّرَ الْغَائِبَ؛ وَهُنَا يَنْطَرِحُ الْمُؤْمِنُ عِنْدَ بَابِ الْمَلِكِ الْفَتَّاحِ، سَائِلًا أَنْ يَرُدَّ الْغَائِبَ وَيَحْفَظَهُ؛ سَوَاءً أَكَانَ أَسِيرًا أَمْ مُسَافِرًا، فَإِذَا بِالْبُشْرَى مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ؛ بِقُدُومِ الْغَائِبِ، وَفَكِّ الْأَسِيرِ، وَرَدِّ الْحَبِيبِ؛ (أَمْ مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ) [النَّمْلِ: 62].

 

لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادَتِكَ يَا رَبَّنَا، فَارْحَمْنَا وَفَرِّجْ عَنَّا كُلَّ مَا أَهَمَّنَا فَأَنْتَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

يَسِحُّ مِنَ الْخَيْرَاتِ سَحًّا عَلَى الْوَرَى *** فَيُغْنِي وَيُقْنِي دَائِمًا وَيُحَوِّلُ

إِذَا أَكْثَرَ الْمُثْنِي عَلَيْهِ مِنَ الثَّنَا *** فَذُو الْعَرْشِ أَعْلَى فِي الْجَلَالِ وَأَجْمَلُ

 

إِنَّهُ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ؛ فَمَا أَعْظَمَ شَأَنَهُ، وَأَعْلَى مَكَانَهُ، وَأَقْرَبَهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَأَلْطَفَهُ بِعِبَادِهِ؛ فَبَابُ الْفَتَّاحِ مَفْتُوحٌ، فَإِذَا رَأَيْتَ الْحَبْلَ يَشْتَدُّ؛ فَاعْلَمْ أَنَّهُ سَيَنْقَطِعُ، وَإِذَا اشْتَدَّ الظَّلَامُ؛ فَأَبْشِرْ بِصُبْحٍ قَرِيبٍ، لَا تَضِقْ ذَرْعًا مَعَ الرَّبِّ الْكَرِيمِ الْفَتَّاحِ، فَمِنَ الْمُحَالِ دَوَامُ الْحَالِ، وَأَفْضَلُ الْعِبَادَةِ: انْتِظَارُ الْفَرَجِ، وَالْأَيَّامُ دُوَلٌ، وَالدَّهْرُ قُلَّبٌ، وَاللَّيَالِي حَبَالَى، وَالْغَيْبُ مَسْتُورٌ، وَالْفَتَّاحُ؛ (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ) [الرَّحْمَنِ: 29]، وَقَالَ: (لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا) [الطَّلَاقِ: 1]، وَقَالَ: (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) [الشَّرْحِ: 5-6].

 

قُلْ لِلطَّبِيبِ تَخَطَّفَتْهُ يَدُ الرَّدَى *** مَنْ يَا طَبِيبُ بِطِبِّهِ أَرْدَاكَا؟

قُلْ لِلْمَرِيضِ نَجَا وَعُوفِيَ بَعْدَمَا *** عَجَزَتْ فُنُونُ الطِّبِّ: مَنْ عَافَاكَا؟

قُلْ لِلصَّحِيحِ يَمُوتُ لَا مِنْ عِلَّةٍ *** مَنْ بِالْمَنَايَا يَا صَحِيحُ دَهَاكَا؟

هَذِي عَجَائِبُ طَالَمَا أُخِذَتْ بِهَا *** عَيْنَاكَ وَانْفَتَحَتْ بِهَا أُذُنَاكَا

يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَهْ؟ مَا الَّذِي *** بِاللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَغْرَاكَا؟

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

اللَّهُمَّ افْتَحْ عَلَيْنَا مِنْ بَرَكَاتِ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ، وَافْتَحْ لَنَا أَبْوَابَ رَحْمَتِكَ؛ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

الفتاح -جل جلاله-.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات