الغبار بسبب الإصرار على الأوزار

ناصر بن محمد الأحمد

2011-02-12 - 1432/03/09
عناصر الخطبة
1/ المعاصي كانت سببا لهلاك من قبلنا. 2/ واقعنا اليوم وألوان مما فيه من ذنوب ومعاص. 3/ الدعوة للتوبة، وللكف عن الذنوب والمعاصي. 4/التحذير من عدم ربط الظواهر الطبيعية بأعمال العباد ومن تفسيرها على أن لها أسباب طبيبعية. 5/ ألوان من عقوبات المعاصي.

اقتباس

إذا كان العلماءُ يقولون بأن المصائب تنـْزِلُ بالنَّاس بسبب الذنوب والمعاصي، فكيف بزماننا هذا الذي أصْبَحْتَ ترى فيه صُوراً من الكفر ظاهرة، وألواناً من الرِّدَّة منتشرة، وأنواعاً من الزندقة واضحة؟ صار الاستهزاء بالسُّنة والعلماء من الأمور العادية على صفَحات الجرائد والمجلات! إن واقعَنا مخيف، وإنَّ هذا الغبار الذي خَنَقَنا لَهُو قليلٌ إذا ما تأمَّلْتَ واقعَ الناس اليوم ..

 

 

 

 

أيها المسلمون: منذ أربعة أشهر والمنطقة تعاني أشد المعاناة من الغبار، وخلال الأسبوعين الماضيين والوضع كما ترون، والله المستعان، لم نر الشمس تقريباً، ودخلَت المستشفى أعدادٌ كثيرة ممن يعانون من أمراض الرَّبْو وغيرها، وهناك من هو حبيس في بيته منذ أكثر من عشرين يوماً، لا يخرج للعمل، ولا يستطيع أن يصل إلى المسجد، لأن الغبار يؤثر عليه كثيراً؛ فرحماك! ثم رحماك يا رب!. 

 

لا شك، يا عباد الله، في أن الذي يصيب الناس إنما هو بسبب ذنوبهم ومعاصيهم؛ فما من شر ولا بلاء ينـزل بالناس، أفراداً كانوا أو جماعاتٍ أو دُولاً، إلا وسببه الذنوب والمعاصي.

ما الذي سبَّب إخراج الأبوين -عليهما الصلاة والسلام- من الجنة، دار اللذة والنعيم، إلى هذه الدنيا، دار الآلام والأحزان؟ إنها المعصية؛ وما الذي سبب إخراج إبليس من ملكوت السماء، وصيَّره طريداً لعيناً مصدراً لكل بلاء في الإنسانية؟.. المعصية. لماذا عمّ الغرق قوم نوح حتى علا الماء رؤوس الجبال؟.. الذنوب والمعاصي؛ لماذا سُلطت الريح على قوم عاد حتى ألقتهم كأنهم أعجاز نخل خاوية؟ الذنوب والمعاصي؛ ما السبب في إرسال الصيحة على ثمود حتى قُطِّعَتْ قلوبهم في أجوافهم؟ الذنوب والمعاصي؛ ولماذا قُلبت قرى قوم لوط بهم فجُعل عاليها سافلها وأُتبعوا بحجارة من سجيل؟ الذنوب والمعاصي؛ ما الذي أغرق فرعون وقومه، وخسف بقارون الأرض؟ ما الذي هدّ عروشاً في ماضي هذه الأمة وحاضرها طالما حُميت؟ إنها الذنوب والمعاصي؛ (فكُلاًّ أخَذْنا بذنبه، فمنهم من أرْسَلْنا عليه حاصِبَاً، ومنهم من أخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ، ومنهم من خَسَفْنا به الأرْضَ، ومنهم مَنْ أغرقْنا، وما كان اللهُ لِيظْلِمَهُمْ، ولكنْ كانوا أنفُسَهُمْ يَظلِمون) [العنكبوت: 40].

 

فاتقوا الله أيها المسلمون، اتقوا الله تعالى، واحذروا الذنوب والمخالفات، فإن ضررها على الأفراد والمجتمعات والدول لأشدُّ وأنكى من ضرر السموم على الأجسام؛ فما ظهرت المعاصي في ديار إلا أهلكتْها، ولا تمكنت من قلوب إلا أعْمَتْها، ولا فشت في أمة إلا أذلَّتها.

أيها المسلمون: إذا كان العلماء يقولون بأن المصائب التي تنـزل بالناس بسبب الذنوب والمعاصي، فكيف بزماننا هذا الذي أصبحْتَ ترى صوراً من الكفر ظاهرة، وألواناً من الردة منتشرة، وأنواعاً من الزندقة واضحة؟ صار الاستهزاء بالسُّنة والعلماء من الأمور العادية على صفحات الجرائد والمجلات! إن واقعنا مخيف، وإن هذا الغبار الذي خنقنا لهو قليلٌ إذا ما تأمَّلْتَ واقع الناس اليوم.

لقد فشا الربا، وكثر الزنا، وشُربت الخمور والمسكرات، وأدمنت المخدرات، وكثر أكل الحرام، وتنوعت فيه الحيل، شهادات باطلة، وأيمان فاجرة، وخصومات ظالمة، ارتفعت أصوات المعازف والمزامير، ودخل الغناء أغلب البيوت، وتربى الصغار والكبار على ما تبثه وسائل الإعلام، وتساهل الناس في شأن الدشوش، وفشت رذائل الأخلاق، ومستقبح العادات في البنين والبنات، وتسكعت النساء في الشوارع والأسواق، وكثرت المغازلات والمعاكسات، وتساهل البعض في شأن الصلوات، حتى في الجُمَع، إلى غير ذلك من المنكرات والمخالفات التي لا عد لها ولا حصر؛ فإلى متى الغفلة عن سنن الله؟ نعوذ بالله من الأمن من مكر الله، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الأنفال:53].

إن الأمة حين تغفل عن سنن الله، فتغرق في شهواتها، وتضل طريقها، وتتنكب شريعة ربها، إنها لا تلوم بعد ذلك إلا نفسها، إنها سنة الله، حين تفشو المنكرات، وتقوم الحياة على الذنوب والآثام.

إن الانحلال الخلقي، وفشو الدعارة، وسلوك مسالك اللهو والترف، طريق إلى عواقب السوء، إذ تترهل النفوس، وترتع في الفسق والمجون، وتستهتر بالقيم، وتهين الكرامات، فتنتشر الفواحش، وترخص القيم العالية فتتحلل الأمة، وتسترخي، وتفقد قوتها وعناصر بقائها، فتهلك، وتطوى صفحتها.

نعم، إن الاستمرار في محادَّة أمر الله وشرعه، والاستمرار على الذنوب والخطايا، وعدم الإقلاع عنها، ليهدم الأركان، ويقوض الأساس، ويزيل النعم، وينقص المال، ويرفع الأسعار، وبه تحل الهزائم الحربية، وقبلها الهزائم المعنوية.

لقد أصابنا، أيها الأحبة، من ذلك الشيء الكثير، فاتقوا الله تعالى، اتقوا الله أفراداً وجماعات، بيوتاً ومؤسسات، صغاراً وكباراً، حكاماً ومحكومين، فإن الحق أبلج، والدين واضح، وسنن الله لن تتغير ولن تتبدل؛ قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَائِمُونَ أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحىً وَهُمْ يَلْعَبُونَ أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف: 94ـ 99].

أيها المسلمون: إن مما ينبغي الحذر منه، هو نسبة هذه الظواهر إلى الطبيعة كما يقول بعضهم! إنها ظواهر طبيعية، لها أسباب معروفة، لا علاقة لها بأفعال الناس ومعاصيهم! كالذي يجرى على ألسنة بعض الصحفيين والإعلاميين، حتى صار الناس لا يخافون عند حدوثها، ولا يعتبرون بها؛ نحن لا ننكر أن تكون لها أسباب حسية، ولكن، مَن الذي أوجد هذه الأسباب الحسية؟ إن الأسباب الحسية لا تكون إلا بأمر الله، عز وجل، واللهُ، بحكمته، جعل لكل شيء سببا، إما سبباً شرعياً، وإما سبباً حسياً؛ هكذا جرت سنة الله، عز وجل.

أيها المسلمون: لقد جرت سنة الله، عز وجل، في عباده بأن يعاملهم بحسب أعمالهم، فإذا اتقى الناس ربهم الذي خلقهم ورزقهم، أنزل عليهم البركات من السماء، وأخرج لهم الخيرات من الأرض، قال سبحانه: (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ) [الأعراف:96]؛ وقال تعالى: (وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً) [الجن:16].

وإذا تمرّد العباد على شرع الله، وفسقوا عن أمره، أتاهم العذاب والنكال من الكبير المتعال؛ وإذا كان العباد مطيعين لله عز وجل، معظِّمين لشرعه، أغدق عليهم النِّعَم، وأزاح عنهم النِّقَم؛ فإذا تبدل حال العباد من الطاعة إلى المعصية، ومن الشكر إلى الكفر، حلَّتْ بهم النِّقَم، وزالت عنهم النعم؛ فكل ما يحصل للعباد من محن وكوارث ومصائب، (فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ، وَيَعْفُو عَنْ كَثِير) [الشورى:30].

إن ما نشاهده من هذه الآيات الكونية، لهي آية من آيات الله تجعل المؤمن متصلا بالله، ذاكراً له، شاكراً لنعمه، مستجيراً به، خائفاً من نقمته وسخطه؛ قال الله تعالى: (وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ) [يوسف:105].

فكم دعانا القرآن الكريم إلى الاعتبار بما حل بمن قبلنا وبمن حولنا، لنتعظ ولنقف عند حدود الله فلا نتعداها (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [الأنعام:11] رغبة منه أن نصحح أحوالنا، ونغيّر من حالنا، ونقلع عن ذنوبنا.

لقد علمتم، أيها الأحبة، أن مدار القرب من الله تقواه، علم ذلك ووعاه كل من تدبر كتاب الله، تعالى، وعرف معناه، وتجرد للحق ولم يتبع هواه؛ وكل من نظر في قصص الأولين رأى فيها ما كانوا عليه من قوة في الأبدان، وسعة في السلطان، كان بأسهم شديداً، لكنهم لما عصوا ربهم، أخذهم بذنوبهم (وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ) [غافر: 21] فقطع الله دابرهم وأهلكهم عن آخرهم (فتلك بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا) [النمل: 52] (فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلاً) [القصص: 58] وهذه موعظة وعبرة لنا، يا عباد الله.

فالله قادر أن يبعث الريح والغبار فيختنق الناس، لذلك فلا بد من الرجوع إلى الله، والتوبة، وأخذ العبرة والعظة؛ وعلى القلب الحي أن يعيش مع هذه المشاهد بضوء القرآن والسنة؛ فاستغفروا الله، عباد الله، وتوبوا إليه، فذلك أمان من العذاب بإذن الله، أسأل الله عز وجل أن يجعلني وإياكم من الذين إذا وُعظوا اتعظوا، وإذا أذنبوا استغفروا، وإذا ابتلوا صبروا، إنه سميع مجيب.

أيها المسلمون: لقد أراد الله أن يبين لنا أنه مالك الملك، العزيز القهار الجبار، لا تقف قوة أمام قوته، ولا توازي عظمة عظمته، وهل يقدر غير الله أن يأمر الأرض فينبعث غبارها؟! ولنا، يا عباد الله، مع هذا الغبار محطات تأمل، ومنازل تفكر واعتبار.

منها بيانُ عجزِ الإنسان وضعفه، وإحاطة قوة الله وقدرته به من كل الجهات، من فوقه، ومن تحته، وفي أرضه وسمائه وهوائه، بيانُ عظيمِ بطش الله وقهرِه وجبروته، وشدّته وقوة مِحاله وعظمته (إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ) [البروج: 12]، (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّموَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ) [الزمر: 67] فالله، سبحانه، عزيز ذو انتقام، إنه قوي عزيز، فعال لما يريد، وهو على كل شيء قدير، إنه، سبحانه، شديد المِحال، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، إنه هو الرزّاق ذو القوة المتين؛ ولا شك، يا عباد الله، أنّ هذه عقوبات على ما يرتكبه العباد من الكفر والفساد والفسوق والعصيان، وفيها لمن حولهم عبر وعظاتٌ لا يدركها إلا أولو الألباب، وهي تظهر قدرة الله الباهرة، حيث يأذن لهذه الأرض أن تحرك غبارها فينتج عن ذلك هذا الرعب والاختناق.

أيها المسلمون: إن الذنوب هي التي أهلكت تلك الأمم الماضية، وهي التي ستهلك الأمم اللاحقة، قال تعالى: (أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ) [المرسلات:16-20] هذا ما ذكره الله من عقوبات الأمم الماضية، وما نشاهده اليوم وما نسمعه من العقوبات بالأمم المعاصرة فيها أكبر زاجر، وأعظم واعظ لنا، فها هي الحروب الطاحنة تشتعل نيرانها في البلاد المجاورة، وهي حروب دمار، لم يسبق لها مثيل في تاريخ البشرية، لما يستعمل فيها من الأسلحة الفتاكة، والانفجارات المروعة، والقذائف المدمرة، التي لا تمنع منها حصون، ولا تقي منها دروع، كانت حروب الزمن الماضي بالسيف والبندقية، يُقتل فيها أفراد، ويمكن التحصين منها، أما هذه الحروب المعاصرة، فهي حروب إبادة تُهلك فيها الجماعات بقذيفة واحدة، وتُدك الحصون، وتشعل النيران في البيوت والمساكن، وتمزق الأجسام بلا حدود، ومن ينجُ منها يبقَ بلا مأوىً ولا طعام ولا شراب، كما تسمعون عن ملايين اللاجئين الذين شُردوا من بلادهم، وفيهم النساء الأرامل، والأطفال اليتامى، وفيهم المرضى والجرحى، وكبار السن والمعاقين، يعيشون في مخيمات تعتمد على المساعدات الدولية التي لا تسد حاجتهم، ولا تروي غلتهم.

ومن عقوبات المعاصي، أيضاً، التي تحل بالأمم المعاصرة كثرة الزلازل والبراكين التي تدمر البلدان، وتهلك عشرات الألوف من بني الإنسان، وتترك الكثيرين بلا مأوى.

ومنها عقوبات الجدب وانحباس الأمطار، فهناك قد أجدبت الأرض، وتعطلت الزراعة، وهلكت المواشي، وشاعت المجاعة، حتى هلك خلق كثير، ومن بقي حياً ارتحل من بلده إلى بلد آخر، لطلب لقمة العيش، إما من الصدقات، وإما من الأوجه التي يحصلون عليها من العمالة لدى الدول الغنية.

ومن العقوبات في الأمم المعاصرة انتشار الأمراض المستعصية التي يعجز الطب عن معالجتها، كمرض السرطان، والأيدز، والهربس وغيرها؛ وكثرة موت الفجأة، بالإصابات المفاجئة، وبحوادث المراكب الجوية والبرية والبحرية، في الطائرات والسيارات والقطارات والبواخر، التي يذهب فيها جماعات من الناس في لحظة واحدة.

ومن عقوبات المعاصي في الأمم المعاصرة تسليط الظلَمة والجبابرة على الشعوب، وتسلُّط الأحزاب المتعارضة بعضها على بعض، وتسليط الكفار على المسلمين.

نسأل الله، جل وتعالى، أن يرحمنا برحمته، وأن يرفع عنا ما نحن فيه، كما نسأله أن يوفقنا للتوبة، وأن يختم لنا بشهادة أن لا إله إلا الله؛ إنه ولي ذلك والقادر عليه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله رب العالمين، والعاقبة للمتقين، ولا عدوان إلا على الظالمين؛ وأشهد أن الله الملك الحق المبين، لا إله إلا هو وحده لا شريك له، يفعل ما يشاء، هو الحي الذي لا يموت، وهو القوي العزيز، وهو على كل شيء قدير، لا راد لقضائه، ولا مبطل لحكمه، سبحانه؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، الرحمة المهداة، البشير النذير، والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

عباد الله! إنه ليس بين الله وبين أحد من خلقه نسب ولا حسب (فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ) [الأعراف:99] فهل يدعونا هذا الغبار لمراجعة أنفسنا وتصحيح أخطائنا؟ إنّ رغد العيش قد يُنسِي، وإنّ الأمن من مكر الله قد يُطغي؛ انظروا ماذا عملنا لدين الله، وقد أسبغ علينا نعَمَه ظاهرةً وباطنة؟.

في كلّ يوم يُنتقَص الدين، ويُسخر بأركانه وقيمه؛ كيف حالنا في الدعوة؟ وغيرنا من أصحاب الديانات والمذاهب الباطلة ينشطون لباطلهم ويتقدّمون بدعوتهم! ما نصيبنا من الشعيرة العظمى وعلامة الخيريّة في الأمّة، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ كم من معروف يحتاج إلى أمر وإظهار، وكم من منكر يشيع ويحتاج منّا إلى ردّ وإنكار.

تعالوا نكن أكثرَ صراحة، ما حالنا مع الفرائض الأساسيّة للإسلام؟ خذوا مثالاً بالصلاة والزكاة، كم هم الذين عن صلاتهم ساهون؟ كم تشكو المساجد من ندرة المصلّين، لا سيما في صلاة الفجر! ترى رجالا يتخلّفون عن الصلاة وهم مكتملون في صحّتهم، آمنون في سربهم، لا عذر لهم في التخلّف إلا ّالكسل والسهر، أولئك ينامون حين ينامون على أنعُم الله، ويستيقظون حين يستيقظون على أنعم الله، فما بالهم يتأخّرون عن المكتوبة؟ لا يشهد صلاة الفجر إلا عدد يسير، ونزر قليل من الرجال، وبقيتهم يتقلبون في فرشهم، غافلين عن دعوة الفلاح وأصوات المآذن، لا يجيبون داعي الله.

وهناك صنف آخر من المسلمين هجروا الصلاة مع الجماعة، وبذلك عطلوا بيوت الله، فما حالهم؟ وفيم يفكّرون إذا رأوا نذر السماء؟ إنها مصائب ورزايا.

وهناك آخرون قد أغناهم الله، وأعطاهم من المال ما أعطاهم، فإذا بهم يخوضون في مال الله، يتجاوزون الحلال إلى الحرام، يتثاقلون في الزكاة، ويتأخّرون في الصدقات، وينسَون، أو يتناسَون، أن في أموالهم حقّاً للسائل والمحروم، ولا يتحرّجون في ممارسة أنواع من المعاملات والمساهمات، وإن داخَلَها الحرام والربا، فكثير من الناس لا يخشون الله ولا يراقبونه في مكسَبهم، أكلوا بعض المال بالباطل، مستخدمين أصنافاً من الغش والخداع والاحتيال، ونقص المكيال.

ثم ألا تشهدون قطيعة الأرحام؟ ألا ترون عقوق الوالدين؟ ألا ترون قلة ذكر الله؟ ألا ترون إعراضاً عن طاعة الله؟ وانتهاكَ كثيرٍ من الناس للمحرَّمات؟ تساهلوا بالزنا والمخدرات، ناهيك عن روَّاد القنوات، وأصحاب الفضائيات، فهم في عالم لا كالعالم، وفي خيالٍ لا كالخيال، إن سَلِمَ من فِلمٍ ساقط، وقع على رقصٍ فاضح، أو سَلِمَ من طَعنٍ في الدين، وقع في شهواتٍ إلى الجبين، شباب قابعون وراء الفن الزائف، راقصون وراء الأغنية الماجنة، راكضون وراء الكرة الفارغة، أُمنيّة أحدهم أن يسجل هدفاً، أو أن يفوز ناديه في التصفية، إذا تحدث تحدث عن أخبار اللاعبين أو الفنانين، وإذا خاصم خاصم من أجل أن هذا اللاعب أو هذا الفنان أو الفنانة، فإذا كبُر همُه قليلاً أخذ يجمع أشرطة الساقطين والساقطات من المغنين والمغنيات، الأحياء منهم والأموات.

أين هؤلاء الشباب عن دينهم؟ أين شباب الإسلام عن المساجد؟ أين الشباب عن الذكر؟ أين الشباب عن القرآن؟ أين الشباب عن العفة والكرامة؟ أين الشباب عن قيام الليل؟ أين الشباب عن التنافس في الطاعات؟ أين الشباب عن إنكار المنكر؟ أين الشباب عن طاعة الوالدين؟ أين الشباب عن حسن التعامل مع المجتمع؟.

أيها المسلمون: إذا رأيتم هذه الأمور قد أقبلت، فباطن الأرض، والله، خير من ظهرها، وقمم الجبال خير من السهول، ومخالطة الوحوش أسلم من مخالطة الناس، اقشَعَرَّت الأرض، وأظلمت السماء، وظهر الفساد في البر والبحر، وذهبت البركات، وقلت الخيرات، وتكدرت الحياة من فسق الفسَقة، وبكى ضوء النهار وظلمة الليل من الأعمال الخبيثة، والأفعال الفظيعة، وشكى الكرام الكاتبون إلى ربهم، وكثرت الفواحش، وغلبت المنكرات والقبائح، وهذا، والله، منذرٌ بسيل عذاب قد انعقد غمامه، ومؤذن بليل قد أدلهمَّ ظلامه، فاعتزلوا عن طريق هذا السيل بتوبة نصوح، ما دام بابها مفتوح.

ألا فاتقوا الله، عباد الله، وقِفوا عند حدود الله، وعظّموا حرماته (فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا، وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ) [لقمان:33، فاطر:5]؛ وإيّاكم أن تزيدوا فسوقاً كلما زادكم الله نعيماً، وأنتم تقرءون عن قومٍ قال فيهم: (فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) [الأنعام:44ـ 45].

فلْنتَّقِ الله، أيها المسلمون، ولْنأخذْ بأسباب النجاة، فإن هلاك الإنسان أو نجاته مقيدان بما كسبت يداه، ولنعتبر بمن حولنا، ولنتعظ بما يجري بالأقوام من غيرنا.

ثم اعلموا، أيها المسلمون، أن الأرض التي تحملكم، والسماء التي تظلكم، مطيعتان لربكم، فلا تمسكان بخلاً عليكم، أو تجودان رجاء لما عندكم، ولكن أُمرتا بمنافعكم فأطاعتا، وأقيمتا على حدود مصالحكم فأقامتا (ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ) [فصلت:11]. فاتقوا الله واستقيموا على دين الله.

نسأل الله العلي القدير أن يحفظ بلادنا وكل بلاد المسلمين من كلّ سوء ومكروه، وأن يهدِي ضالّ المسلمين، وأن يردهم إليه رداً جميلا، وأن لا يؤاخذنا بما فعل السفهاء منا.

اللهم يا من أودع في الكون روعته، ونشر في الأرجاء رحمته، لا تجعلنا من أشقياء الدنيا ولا أشقياء الآخرة، واهد لنا شيبنا وشبابنا، إنك على كل شيء قدير.
 

واعلموا، أيها المؤمنون، أن من خير الأعمال في هذا اليوم العظيم الصلاةَ على نبيكم محمدٍ، فصلوا وسلموا على رسول الله، امتثالا لأمر الله، حيث أمركم ربكم بقوله (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَـائِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِىّ، ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيما) [الأحزاب:56].

اللهم صلِّ وسلم على عبدك ورسولك نبينا محمد، وارْضَ اللهم عن الصحابة أجمعين، وعن التابعين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم، بعفوك وإحسانك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعِزَّ الإسلام، وانصر المسلمين، وأذِل الشرك واخذل المشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، واجعل هذا البلد آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين؛ اللهم اجعلنا ممن تعرّف إليك في حال الرخاء فتعرّفت إليه في حال الشدة، اللهم ارحمنا فانك بنا راحم، ولا تعذبنا فانك على ذلك قادر؛ اللهم الطف بنا فيما جرت بنا المقادير، يا ذا الجلال والإكرام.

اللهم بعلمك الغيب، وبقدرتك على الخَلق، أحْيِنا ما كانت الحياة خيراً لنا، وتوفنا إذا كانت الوفاة خيراً لنا، اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضا، ونسألك القصد في الفقر والغنى، ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مظلة، برحمتك يا أرحم الراحمين.

ربنا عليك توكلنا، واليك أنبنا، واليك المصير؛ اللهم اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وسائر قراباتنا.

اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين، وعافِ المبتلين، واقْضِ الدَّيْن عن المدينين، وفرِّج كرب المكروبين. اللهم اجعل لنا، ولكل مسلم ومسلمة، من كل هم فرجا، ومن كل ضيق مخرجا، ومن كل بلاء عافية (رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) [البقرة: 201].

 

  

 

المرفقات

بسبب الإصرار على الأوزار

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات