العواقب الحسنى لمحاسن الأخلاق

سعود بن ابراهيم الشريم

2022-05-20 - 1443/10/19 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/الدنيا دار ممر والآخرة دار المستقر 2/على المسلم أن يتعهد نفسه بالإصلاح والتهذيب 3/بعض فضائل حسن الخلق وآثاره الطيبة 4/الأخلاق عماد مناحي الحياة كلها 5/العقبى الحسنة لصاحب الخلق الحسن 6/توضيح المقصود بالأخلاق 7/في الشدائد تُختبَر الأخلاق 8/آفات تهدم الأخلاق فليحذرها المسلم

اقتباس

إنَّ القلوبَ مخازنُ الأخلاقِ، وإنَّ الشفاهَ أبوابُها، والألسنَ أقفالُها، والجوارحَ مفاتيحُها، فلَينظُرِ المرءُ ما يَفتَح منها وما يَقفِل، ولْيَحذَرِ الشدائدَ؛ فإنَّها تَكشِف مخازنَ الأخلاقِ، ولنستحضر جميعًا أنَّ الكمالَ لله وحدَه، والعصمةَ لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، فمَنْ ذا الذي ما ساء قطُّ، ومَنْ له الحسنى فقط...

الخطبة الأولى:

 

الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والشكر له على آلائه ونعمائه، نحمده حمدًا لا ينفد، ونشكره شكرًا لا ينقطع، فالحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه ومداد كلماته، وأشهد ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، وخيرته من خلقه، بلغ رسالة ربه حق البلاغ، وأدى أمانته فأتمها خير إتمام، وترك أمته على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، ف-صلوات الله وسلامه عليه-، وعلى آله بيته الطيبين الطاهرين، وعلى أزواجه أمهات المؤمنين، وعلى أصحابه والتابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلم تسليمًا كثيرًا.

 

أما بعدُ: فلا وصيةَ أحرى بالبذل من الوصية بتقوى الله -جل شأنه-؛ فهي النور في الظلمة، والهادي في الطريق، والسعة وقتَ الضيق، بها الثبات في المحن، وعليها المعوَّل عندَ الفِتَنِ؛ (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا)[الطَّلَاقِ: 4].

 

أيها المسلمون: اعلموا -رحمني الله وإيَّاكم- أن الدنيا دار ممر، وأن الآخرة دار مقر، فخذوا من ممركم لمقركم، ولا تهتكوا أستارَكم عندَ مَنْ لا تَخفَى عليه أسرارُكم، وأقبِلُوا إلى ربكم في دنياكم، قبل أن تخرج منها أرواحكم وأبدانكم، فإليها جئتُم، ولغيرها خُلقتُم؛ (فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ)[الْأَعْرَافِ: 25].

 

ثم اعلموا -أيضًا- أن النفس إذا انهمكت في دنياها صار لانهماكها رجع صدى في خُلُقها وتخلُّقِها، وإنَّ النفسَ إذا لم يتعهَّدْها صاحبُها في غِمار الدنيا ومَهامِهِ زخرفِها، ساء طبعُها فاعوجَّ خُلُقُها، وخرَج من مسار الحسن إلى مسار القُبح، والنفس بلا خُلُق حَسَن هباءٌ منثورٌ، وسوءُ عاقبةٍ وثبورٌ؛ إذ ما قيمةُ النفسِ بلا أخلاقٍ، وما معنى الحياة إذا لم تكن في دائرة الخُلُق الحَسَن، الذي هو للإنسان كالماء للسَّمَك، فما الظن بالسَّمَك إذا فارَق الماءَ؟!

 

الأخلاق الحسنة -عبادَ اللهِ- هي عمادُ الأممِ، وأقنومُ حياتِها الهانئة، إِنْ سادَتْ أخلاقُهم سادُوا، وإِنْ بادَتْ أخلاقُهم بَادُوا، ولو كانوا أحياءً، يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق؛ لأنَّ الأكلَ والمشيَ ليسَا من اختصاص حياة بني آدم وحسبُ، بل يَشرَكُهم فيهما البهائمُ والأنعامُ، وإنَّما أكرَمَهم اللهُ بعقول يستزرعون بها حُسنَ الخُلُق والسجايا الصالحة؛ لينشروا بها الرحمةَ والألفةَ، ويَئِدُوا البغضاءَ والشحناءَ، فإنَّ سُوءَ الخُلُق يُفسِد على القريبِ قرابتَه، حتى يصبح عدوًّا لدودًا، فإخوة يوسف -عليه السلام- قال بعضهم لبعض: (اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ)[يُوسُفَ: 9]، وإنَّ حُسنَ الخُلُقِ يُكرِم البعيدَ، إذا تحلَّى به حتى يصبح قريبًا ودودًا، فالذي اشترى يوسفَ -عليه السلام- قال لامرأته: (أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا)[يُوسُفَ: 21].

 

نعم، -يا رعاكم الله-، بالأخلاق الفاضلة تَسُود الأممُ، وتستقرّ المجتمعاتُ، وتسمو الأُسَرُ، وتنحسر العداواتُ، وتنشرح الصدورُ، وإنَّما يُؤتى الناسُ من أخلاقهم، فلا قتلَ إلَّا بشحناء، ولا شحناءَ إلَّا بغضب، ولَا غضبَ إلا بضيق العَطَن، وما ضاق عَطَنُ امرئٍ قد استوَتِ السماحةُ على عرش فؤاده، وما يُلقَّى الخلقَ الحسنَ إلا مصابر، وما يُلقَّاه إلا ذو حظ عظيم.

 

إنَّه لَيجِبُ على كل مسلم ألَّا يطغى انهماكُه المعيشيُّ على قاعدتِه الأخلاقيةِ، فإنَّ حياةً لا تقودها الأخلاقُ ما هي إلا ولَّادةُ أثرةٍ وجشعٍ، وكذبٍ ومذقٍ وحسدٍ، وقسوةٍ وتشاحُنٍ، وتكاثُرٍ وتباغُضٍ، ولا عجبَ من ذلكم؛ فتلكَ العصا من تلك العُصَيَّة، ولا تَلِدُ الحيةُ إلا حُيَيَّةً.

 

ألَا إنَّ الأمم لا تنهض إلا بما تَحمِلُه من سجايا صالحة، وأخلاق كريمة، لا بما تَملِكُه من حطام الدنيا وزخرفها، فإنَّ حظوظَ الدنيا تأفُل وتزول، والأخلاق تظلُّ راسيةً رسوَّ الجبالِ؛ (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)[الرَّعْدِ: 17]؛ فالأخلاق الطيبة مصالحُ كلُّها لا مفسدةَ فيها، وهي السراج الوهَّاج، الذي ما بُعِثَ رسولُ الْهُدَى -صلى الله عليه وسلم- إلا ليُتَمِّم ضوءَه للناس كافةً، كما في قوله الثابت عنه: "إنما بُعِثتُ لأتممَّ صالحَ الأخلاقِ".

 

فلِلَّهِ ما أزكى هذا القائلَ، وما أزكى قولَه، كيف لا والذي بعثَه بالحق هو مَنْ قال عنه: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)[الْقَلَمِ: 4]، ووصفُ خُلقِهِ بأنَّه عظيم فيه إشارة إلى أن الأخلاق بالنسبة للناس كالأرزاق؛ فمنهم الغنيُّ، ومنهم المتوسطُ، ومنهم الفقيرُ، ومنهم المُفلِسُ بلا أخلاقٍ، وأمثالُ هذا هم شِرارُ الناسِ، ولقد صدَق رسولُ الله -صلى الله عليه وسلم- حينَ قال لأُمِّ المؤمنينَ عائشة -رضي الله تعالى عنها-: "أَيْ عائشةُ، إنَّ شرَّ الناسِ مَنْ ترَكَه الناسُ اتقاءَ فُحشه"(رواه البخاري ومسلم).

 

إنَّه لا قيمة لمنصب بلا أخلاق، ولا لجاه بلا أخلاق، ولا لغنى بلا أخلاق، ولا لجيرة بلا أخلاق، ولا لصداقة بلا أخلاق، ولا لعلم بلا أخلاق، إنَّه لا قيمة لذلكم كله، بل هو خداج خداج غير تمام، فالمنصب بلا أخلاق معرَّة، والجاه بلا أخلاق أنَفَة، والغنى بلا أخلاق ممحوق البركة، والجيرة بلا أخلاق بلاء، والصداقة بلا أخلاق تسلُّق مقيت، والعِلم بلا أخلاق حِمْل ووبال، فسوء الخلق تهوُّر ذميم، يغتال الحكمةَ والعقلَ؛ فهو لا يُثمِر صلحًا وقُربًا، وإنَّما يُنبِت خصامًا وبُعدًا.

 

ثم إن أحدًا لن يسع الناس بالمال والجاه والحسَب والنَّسَب، وإنَّما يسعهم بخُلق يُجبَل عليه، أو يُروِّض نفسَه عليه؛ ديانةً لله، الذي أكرَمَه وفضَّله على كثير ممَّن خلَق تفضيلًا؛ فبِذلكم تكون خيريَّة المرء، التي ذكرها ذو الخلق العظيم -صلوات الله وسلامه عليه- بقوله: "إنَّ من خياركم أحسنكم أخلاقًا"(مُتَّفَق عليه).

 

وممَّا قيل قديمًا: "أدب المرء خير من ذهبه"، ومن كانت هذه جبلته، وهذا دأبُه، فلتحرَّ توفيقَ الله له، في شؤون دِينه ودنياه؛ فإنَّ أمَّ المؤمنين خديجة -رضي الله تعالى عنها- قد قالت قد قالت للنبي -صلى الله عليه وسلم- عمَّا كان يَحمِله، من أصول الأخلاق الحسنة قبل بعثته: "كلَّا واللهِ، ما يُخِزيكَ اللهُ أبدًا؛ إنك لتصل الرحم، وتصدق الحديث، وتحمل الكل، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق"، قال شيخ الإسلام ابن تيمية: "وقد عُلِمَ مِنْ سُنَّة الله أن مَنْ جبَلَه اللهُ على الأخلاق المحمودة، ونزَّهَه عن الأخلاق المذمومة فإنَّه لا يُخزِيه".

 

عبادَ اللهِ: الأخلاق كلمة عامة، تشمل قولَ اللسانِ، وعملَ القلبِ والجوارحِ، فيدخُل فيها الأصولُ والفروعُ، عقيدةً وفقهًا وسمتًا، ألَا ترون قولَ عائشة -رضي الله تعالى عنها- عن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "كان خلقه القرآن"، وهل القرآن إلا تشريعٌ واعتقادٌ وأخلاقٌ؟! وهل الأخلاق إلا كالشجرة، يسقيها الحِلمُ والكرمُ، والصدقُ والتواضعُ، والصفحُ والتجاوزُ، والعفافُ وحُسنُ الظنِّ؟! فكلَّما قلَّ سقيُها، أو حُبِسَ عنها ذَبُلَتْ فماتت.

 

وإنه متى تمُتْ أخلاقُ المرء يُصبِحْ شيطانًا في جثمان إنس؛ لأنَّ انتساب المسلم إلى دِينه لا يُسقِط عنه وجوبَ التزامه بأخلاق دِينه الذي انتسَب إليه، فالدينُ الحقُّ يُعَدّ منظومةً متكاملةً من العبادات والأخلاق، فحصرُها في جانبٍ دونَ آخَرَ إزراءٌ بِنَبِيِّ الأمةِ -صلوات الله وسلامه عليه-، وبسلفها الصالح، فإنَّ الذي بعَثَه بأركان الإسلام هو الذي قال له: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ)[آلِ عِمْرَانَ: 159]؛ لأنَّه لا فائدةَ من نهج خليٍّ من الأخلاق، ولا أثرَ صالحًا متعديًا لمن ينتسِب إلى الإسلام وهو سليطُ اللسانِ، غليظُ القلبِ، يَلمِز هذا، ويشتم ذاك، ويغتاب هذه، ويرمي تلك، فالأخلاقُ ميدانٌ واسعٌ، يستوعِب كلَّ شأن من شؤون الحياة؛ فهو ليس مختصًّا بالصداقة وحسبُ، ولا بالقربى، ولا بالجوار، ولا بالدعوة، بل هو معنًى مُطلَقٌ لا يتنصَّف ولا يتجزَّأ، ولا يخضع للانتقائية المقيتة؛ بحيث يُستعَمل في جانبٍ دونَ آخَرَ، بل هو مفهومٌ شاملٌ، لا يُتصوَّر اجتماعُه مع ضدِّه، في ازدواجيةٍ تُشير إلى انفصامِ شخصيةِ المرءِ؛ إذ لا معنى للحِلْم مع القريب دونَ البعيد، ولا معنى لعِفَّة اللسان في التعامُل مع الصاحب، وفِقْدانها في التعامُل مع الخَصْم والجارِ، وهَلُمَّ جرَّا؛ لذا كان لزامًا أن تتوفر الأخلاق في الشريف، كما تتوفر في الضعيف، وتتوفر في القاضي كما تتوفر في المعلِّم، وتتوفَّر في الطبيب، كما تتوفَّر في المُزارع، فلا يُعذَر أحدٌ في إهمالها، ولا يُستثنى أحدٌ من المطالبة بها، فحُسنُ الخُلُق لا تُؤثِّر فيه الخصوماتُ، ولا تَطمِسُه العداواتُ، مَنْ حَسُنَ خُلُقُه لَانَ بيد إخوانه، ولم يَفجُر مع خُصُومِه، ولم يَخدِش خُلُقَه النظرُ بعين العداوة، ولا النظرُ بعين الرضا؛ لأنَّ حُسنَ الخُلُقِ لا يحتمِل إلا النظرَ بعينِ العدلِ والإنصافِ؛ لذا تَجِدُونَ ذا الخلقِ الحسنِ حليمًا سمحًا، قويًّا من غير عُنف، ولَيِّنًا من غير ضَعْف، لا غلَّ فيه ولا حسدَ، ولا يكون مثلُ هذا إلا لمن صدَق مع الله ومع الناس، والله -جل وعلا- يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ)[التَّوْبَةِ: 119].

 

بارَك اللهُ لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإيَّاكم بما فيه من الآيات والذِّكْر الحكيم، أقول قُولِي هذا، وأستغفِر اللهَ لي ولك، ولسائر المسلمين والمسلمات من كل ذنب وخطيئة، فاستغفِروه وتوبوا إليه، إن ربي كان غفورًا رحيمًا.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمد لله حمدًا كثيرًا طيِّبًا مباركًا فيه، وأصلي وأسلم على عبده المصطفى، ورسوله المجتبى.

 

وبعدُ: فاتقوا اللهَ -عبادَ الله-، ثم اعلموا أن القلوبَ مخازنُ الأخلاقِ، وأن الشفاهَ أبوابُها، والألسنَ أقفالُها، والجوارحَ مفاتيحُها، فلَينظُرِ المرءُ ما يَفتَح منها وما يَقفِل، ولْيَحذَرِ الشدائدَ؛ فإنَّها تَكشِف مخازنَ الأخلاقِ، ولنستحضر جميعًا أنَّ الكمالَ لله وحدَه، والعصمةَ لنبيِّه -صلى الله عليه وسلم-، فمَنْ ذا الذي ما ساء قطُّ ومَنْ له الحسنى فقط؛ إذ كُلُّنا بشرٌ نُخطئ ونُصِيب، ونغضب ونَحلُم، وتعلو أصواتنا على أصواتِ بعضٍ، ونُحسِن الظنَّ تاراتٍ، ورُبَّما أسأناهُ تاراتٍ أخرى؛ لذا كان حريًّا بنا أن نُروِّضَ أنفسَنا على كتم الغضب، أو التراجع عنه، وعلى أن نُذْكِيَ الحِلمَ في أنفسنا، ونُحسِنَ الظنَّ بالآخَرينَ، ونعود سريعًا إلى الصواب دون توانٍ؛ فإنَّ الناسَ إذا ساءت طباعُهم فهم أسواء، ولا يَمِيز بعضَهم عن بعض إلا أخلاقٌ يعيشون بها، وإنَّ الناس ليسوا سواءً في الأخلاق أيضًا، فَمْن مُقِلٍّ منهم وَمِنْ مُكثِرٍ، غيرَ أن على المرء زمَّ نفسه، عن الوقوع في شَرَكِ سوء الأخلاق، وعلى المجتمع أن يَشُدَّ بعضُه أزرَ بعضٍ في ذلكم؛ فالمتعلم يُرشِد الجاهلَ، والذاكرُ يَحُضُّ الغافلَ، واليقظانُ يُوقِظ الوسنانَ، فالمؤمنُ للمؤمنِ كالبنيانِ يشدُّ بعضُه بعضًا؛ انطلاقًا من رائدَي الأسرة؛ الأب والأم، ثم مرورًا بالمدرسة، والسوق، والعمل، والجلساء؛ ليقطِفَ المجتمعُ المسلمُ أُنموذجًا بارزًا في المُثُل العليا، والأخلاق الحسنة، والحفاظ على سقفٍ ملائمٍ له مِنْ حُسن الخُلُقِ، المثمِر التوادَّ والتراحمَ والتعاطفَ، حتى لا تَغرَق سفينةُ لُحمَتِه، أو تتقاذفها أمواجُ الأهواءِ والإحنِ والتدابرِ، والله -جل وعلا- يقول: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)[الْحُجُرَاتِ: 10].

 

كما أنَّه يجب على كل امرئ منَّا، أن يتقي آفات أصول الخلق الحسن، إبان تخلقه به؛ لأن بقية الأخلاق مرتهَنة بها غالبًا، وإن هذه الآفات لَحالِقاتٌ، ليست تَحلِق الشعرَ، وإنَّما تَحلِق الأخلاقَ الحسنة؛ لما بينهما من التضاد البيِّن؛ إذ كلُّ واحد منهما طارِد للآخَر.

 

فأُولى تلكم الآفات الكذب؛ لأنَّه يُخفي الحقيقةَ ويُبرِز ضدَّها، ويُورِث الفجورَ، كما في قول النبي -صلى الله عليه وسلم-: "وإيَّاكم والكذبَ، فإنَّ الكذبَ يَهدِي إلى الفجور، وإنَّ الفجورَ يَهدِي إلى النارِ، وما يزال الرجلُ يَكذِب، ويتحرَّى الكذبَ حتى يُكتَب عندَ اللهِ كذَّابًا"(رواه البخاري ومسلم).

 

ولا ريبَ أن مَنِ امتَهَنَ الكذبَ سيفجُر في كَذِبِهِ، ويَفجُرُ في خُصُومَتِه، ويَفجُر في كثير من شؤون حياته، مع نفسه، ومع الآخرين، ولقد صدق الله: (بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ)[الْقِيَامَةِ: 5].

 

والآفة الثانية الحسد؛ فهو النار التي تأكل الحسناتِ، والخُلُق الحسن، وتجعلها رمادًا تذروه الرياحُ، وقد قال نبيُّنا -صلى الله عليه وسلم-: "إيَّاكم والحسدَ، فإنَّ الحسدَ يأكل الحسناتِ، كما تأكل النارُ الحطبَ"(رواه أبو داود).

 

والآفة الثالثة التكبر؛ لأنَّه يُورِث قساوةَ القلب، حتى يُصبح قلبًا أغلفَ، مفضيًا إلى الجبروت المقيت، وقد قال الباري -جل شأنه-: (كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ)[غَافِرٍ: 35].

 

والآفة الثالثة الجحود؛ فإنَّه لا يَجحَد النعمةَ والمعروفَ إلا مَنْ خَلِيَ قلبُه من جميع موارد الخُلُق الحسن، كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي)[الْقَصَصِ: 78]، والله -جل وعلا- يقول: (وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ)[النَّحْلِ: 53]، فما ظنُّكم بجاحدِ نعمةِ ربِّه، أَيُقِرُّ بمعروفِ مَنْ هو دُونَه؟!

 

والآفة الخامسة الغرور؛ فإنَّه يطمِس على قلب المرء، حتى يرى حسنًا ما ليس بالحَسَنِ، بل تُسكِرُه خمرةُ غرورِه، بعُجبٍ لا يُقاوِمُه تفكرٌ في سوء المغبَّة؛ لِيُسدِلَ عليه سربالًا من الأمن من مكر الله، وقد قال الله عن غرور صاحب الجنتين: (وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا * وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً)[الْكَهْفِ: 35-36].

 

هذا وصلوا -رحمكم الله- على خير البرية، وأزكى البشرية، محمد بن عبد الله، صاحب الحوض والشفاعة، فقد أمركم الله بأمر بدأ فيه بنفسه، وثنى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيه بكم أيها المؤمنون، فقال جل وعلا: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 56]، اللهم صلِّ وسلِّم على عبدك ورسولك محمد، صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارض اللهم عن خلفائه الأربعة؛ أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعن سائر صحابة نبيك محمد -صلى الله عليه وسلم-، وعن التابعين، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك وجودك وكرمك، يا أرحم الراحمين.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم انصر دينك وكتابك، وسُنَّة نبيِّكَ وعبادك المؤمنين، اللهم فَرِّجْ همَّ المهمومينَ من المسلمين، ونَفِّسْ كربَ المكروبينَ، واقضِ الدَّينَ عن المدينين، واشفِ مرضانا ومرضى المسلمين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلِح أئمتنا وولاة أمورنا، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين، اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصلح له بطانته يا ذا الجلال والإكرام، اللهم وفِّقْه ووليَّ عهده لِمَا فيه صلاح البلاد والعباد.

 

اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم ألف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدهم سبل السلام، وجنبهم الفواحش والآثام، يا ذا الجلال والإكرام.

 

اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا الأعداء ولا الحاسدين، برحمتك يا أرحم الراحمين.

 

اللهم من أرادنا وأراد الإسلام والمسلمين بسوء فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، يا سميع الدعاء.

 

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)[الْبَقَرَةِ: 201].

 

عبادَ اللهِ: اذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على آلائه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

المرفقات

العواقب الحسنى لمحاسن الأخلاق.pdf

العواقب الحسنى لمحاسن الأخلاق.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات