عناصر الخطبة
1/أحوال العرب البائسة قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم 2/منزلة الصديقية: معناها وأمثلة لها من الصحابة والتابعين 3/الحث على اتباع نهج الصِّديقين 4/بعض فضائل مرتبة الصديقية 5/وصية أبناء فلسطين على الصدق والرباط واليقيناقتباس
كما قدَّر اللهُ أن تكون المدينة المنوَّرة دارًا للصحابة ينصرون فيها دينهم، وينصرون فيها بعضهم بكل وسائل النصرة، طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فصاروا صِدِّيقِينَ وشهداء وصالحين، فقد قدَّر اللهُ لكم أن تكونوا مرابطينَ في المسجد الأقصى وفي أكنافه...
الخطبة الأولى:
الحمد لله، اصطفى أمتنا، فهي أُمَّة الصِّدِّيقِينَ، وأُمَّة الشهداء، وأُمَّة الصالحين، واصطفى شعبنا؛ فاختاره للرباط إلى يوم الدين، فشعبنا المسلم له شرف الانتماء للأمة الناجية في الآخرة، وله وسام الرباط في الدنيا، فهو من السابقين المقربين.
وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ، وحدَه لا شريكَ له، جعل مقامَ الصِّدِّيقِينَ فوق منازل الشهداء والصالحين، فقال -سبحانه-: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)[النِّسَاءِ: 69]؛ فاللهمَّ أحينا صدِّيقِينَ، وأمتنا صِدِّيقِينَ، وابعثنا من قبورنا صِدِّيقِينَ، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، الصادق الأمين، صعد الجبل هو أبو بكر وعمر وعثمان، فرجف بهم فقال: "أثبت أحد، أثبت أحد، فما عليك إلا نبي، وصديق وشهيدان"، أما النبي فهو محمد -صلى الله عليه وسلم-، وأمَّا الصِّدِّيقُ فهو أبو بكر -رضي الله عنه-، وأمَّا الشهيدان فهُمَا عمر وعثمان -رضي الله عنهما-، فقدَّم -صلى الله عليه وسلم- الصديق على الشهيد في اللفظ، كما هو مقدَّم عليه في المعنى؛ فمقام أبي بكر فوق مقام عمر وعثمان بلا إشكال، وهم خيرة أصحاب الرسول، فاللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ على نبينا محمد، وعلى آله الطاهرين، وعلى أصحابه خير القرون، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم القيامة.
أمَّا بعدُ، أيها المؤمنون: حين كان العرب بغير نبوة، وبغير دين الإسلام، كان قادة الأمم يأمرون لزعمائهم بدنانير، ويأمرون لمن تبقى من العرب بثياب يلبسونها، استخفافا بهم، مقابل أن يظل العرب عبيدًا لهم.
أيها المسلمون: والعرب اليوم ومنذ أكثر من خمسين عامًا يستحسنون العبودية لغيرهم من الأمم، يهبونهم مقدراتهم، ويتنازلون لهم عن كرامتهم، وإنسانيتهم، مقابل أن يظلوا للأمم عبيدًا، وأن تبقى الأمم لهم سادة؛ لأنهم لم يحملوا الإسلام كما حمَلَه الصحابةُ الكرامُ، وكما أمرهم اللهُ بحمله، فصدق فيهم قوله -تعالى-: (لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بها وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بها وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بها أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)[الْأَعْرَافِ: 179].
أيها المسلمون: وحين بُعث النبي -صلى الله عليه وسلم- وآمَن به الصحابة، وصاروا صِدِّيقِينَ، واختار الله منهم الشهداء، حينها فقط قالوا لزعماء العالَم: اليومَ بالإسلام نُوهِن مُلكَكم، واليومَ بالإسلام نُضعِف عزَّكُم، واليومَ بالإسلام تصيرون لنا تبعًا على رغمكم.
يا مرابطون: والصِّدِّيقون من أتباع الصحابة وأتباعهم على قِلَّة عددهم، وضَعْف قوتهم، وازدراء عدوهم لهم، واجتماعه عليهم باقون إلى يوم القيامة، وفي بَيْت الْمَقدسِ وأكنافه، على الحق ظاهرين، لا يضرهم خذلان مخذل، ولا نفاق منافق؛ لأنهم أيقنوا أن صلاحهم وصلاح أمتهم يبدأ بما بدأ به السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ، الذين صدقوا الله في أقوالهم، وصدقوا الله في أفعالهم، وصدقوا الله في أحوالهم، قال مالك بن أنس -رضي الله عنه-: "لا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها"، فهل أدركتم يا مؤمنون، هل أدركتم يا مرابطون لماذا أمتنا اليوم تعيش سوء العاقبة والمصير؟! لأنَّها تأتمر بأمر الكافرين، ولا تأتمر بأمر الله، ولأنها تنتهي بنهي الظالمين، ولا تنتهي بنهي الله رب العالمين، فيا عجبًا لأمة العرب اليوم كيف تقودها الدول الكبرى بخطامها ذليلة صغيرة حقيرة، كما يقاد البعير لا رأي لها ولا شأن، ركنت إلى الذين طغوا في البلاد، وأكثروا فيها الفساد.
فيا عبادَ اللهِ: كونوا من الصِّدِّيقِينَ، احملوا دينكم حملًا، وابذلوا له النفيس والرخيص بذلًا، اصدقوا الله في أقوالكم، واصدقوا الله في أفعالكم، واصدقوا الله في أحوالكم، فهذا هو الصدق الجامع، لأعمالكم من البر والتقوى.
يا مؤمنون: ليس صعبًا أن يكون أحدكم صِدِّيقًا؛ فمن صدق الله في رباطه، كان صِدِّيقًا، ومَنْ صدَق اللهَ مع أُمَّتِه وشعبِه فانحاز إليهما صادقًا في جمع الصف، وصادقًا في توحيد الكلمة؛ طاعةً لله -تعالى-، وطاعةً لرسوله -صلى الله عليه وسلم- فهو من الصِّدِّيقِينَ، قال -صلى الله عليه وسلم-: "وما يزال الرجل يصدق ويتحرَّى الصدقَ حتى يُكتَب عند الله صِدِّيقًا".
فيا أيها المرابطون: اتقوا الله وأحسِنوا اختيار منازلكم عنده، اختاروا مقام الصِّدِّيقِينَ ومنازلهم، فإنَّه أعلى منازل المؤمنين، بعد النبوة.
أيها المرابطون: مدح الله -سبحانه- صحابة رسوله -صلى الله عليه وسلم- الذين تبوؤوا منازل الصِّدِّيقِينَ فقال فيهم: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الْأَحْزَابِ: 23]، فهؤلاء الصحابة بذلوا جهدهم للوفاء لدينهم، فسيروا على هديهم، فهؤلاء من الصِّدِّيقِينَ، الذين -رضي الله عنهم- ورضوا عنه، قالت عائشة -رضي الله عنها- في قوله -تعالى-: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)[الْأَحْزَابِ: 23]: منهم طلحة بن عبيد الله، ثبت مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: أوجب طلحة الجنة"؛ يعني بصدق أفعاله لدينه وجبت له الجنة.
أيها المؤمنون: صار الصحابة صِدِّيقِينَ لأنهم توحدوا مهاجرين وأنصارًا، وقويت المدينة المنوَّرة بصدقهم، ووحدتهم، ولم يهاجروا منها، ولم يتركوا حتى اليوم، وإلى يوم القيامة، وأمتنا اليوم في ظمأ شديد لهذه الصديقية، وشعبنا أحوج شيء إليها، وهو يعيش أشد مراحله التاريخيَّة حرجا وشدة، فمقام الصِّدِّيقِينَ أعد لكم يا مؤمنون، فتواثبوا إليه وثبا، واستظلوا بظلاله الوارفة، وتوحدوا على ما يرضي ربكم عنكم، فاقتدوا بصحابة رسولكم -صلى الله عليه وسلم- الذين كانوا من الصِّدِّيقِينَ، فسبقوا إلى الهجرة إلى الإسلام، وسبقوا إلى نصرة المؤمنين، فتسابقوا يا عباد الله إلى الرباط، واثبتوا على الحق الذي أورثكم الله إيَّاه، تسابقوا إلى طاعة الله، وإلى طاعة رسوله -صلى الله عليه وسلم-، كي تفوزوا بمنازل الصِّدِّيقِينَ الذين قال الله فيهم: (فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ)[الْوَاقِعَةِ: 88-89].
يا عبادَ اللهِ، يا مسلمون: هذا عمر بن الخطاب يقول في أبي بكر الصديق: "لو وُزِنَ إيمانُهُ بإيمان الأمة، لرَجَح إيمانُه"، ونحن نقول مِنْ على منبر المسجد الأقصى: "لو وزن إيمان أهلنا في غزَّة، بإيمان كثير من الأمة اليوم، واللهِ لرجح إيمانهم، واللهِ لرجح إيمانهم، واللهِ لرجح إيمانهم"؛ لأنهم صِدِّيقون صدَقُوا اللهَ، في البلاء الذي نزل بهم.
يا مؤمنون: والفاروق عمر من الصِّدِّيقِينَ، وإن لم يوصف بهذا الوصف؛ لكن أقواله وأفعاله وأحواله تُنبئنا بصديقيته، وتكفي شهادةُ النبي -صلى الله عليه وسلم- حين قال فيه: "إن الله جعل الحقَّ على لسانه وقلبه"، وحين قال له: "والذي نفسي بيده ما لقيك الشيطانُ قطُّ سالكًا فجًّا إلا سلك فجًّا غير فَجِّكَ"، فَمَنْ مِنَ المسلمينَ اليومَ يبادر ليجري الحقُّ على لسانه وقلبه؟! ويكون صِدِّيقًا؟! من المسلمين اليوم يهرب الشيطان منه خوفًا من صديقيته؟! فبادروا يا عباد الله يا مؤمنون بإيمانكم إلى هذه المرتبة، فلا همة تعلو فوق همة المسلم الصديق، وقديمًا قال الشاعر:
وما أرى في عيوب الناس عيبًا *** كنقصِ القادرينَ على التمامِ
يا مرابطون: وهذا عثمان بن عفان -رضي الله عنه- كان من الصِّدِّيقِينَ، الذين صدقوا الله في أقوالهم، وصدقوا الله في أفعالهم، وصدقوا الله في أحوالهم، حتى أرسل النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- فبشره بالجنة على بلوى تصيبه، وأهل البلاء من أبناء شعبنا الذين فقدوا أهلهم، وأموالهم، ودورهم، نبشرهم بالجنة؛ فمنازلها تزينت لهم، ودرجاتها أعدت لرقيهم فيها، جزاء صبرهم، وجزاء صدقهم الله في أحوالهم، ولا يكفي يا مؤمنون لوصف ما نزل بنا، وبشعبنا، وبالمسلمين من النوازل إلا أن نقول مع القائل:
فجائعُ الدهرِ أنواعٌ منوَّعةٌ *** وللزمانِ مسراتٌ وأحزانُ
وللحوادثِ سُلوانٌ يُسَهِّلُهَا *** ومَا لِمَا حلَّ بالإسلامِ سُلوانُ
يا مرابطون: وهذا معاذ بن جبل من مظاهر صديقيته أنَّه كان أُمَّةً قانتًا، أمة يعلم الناسَ الخيرَ، وقانتًا يُطيع اللهَ ورسولَه، فلماذا لا نعلم أنفسنا، وأبناءنا وزوجاتنا، ومن حولنا الخير ونكون قانتين لله حق القنوت، طاعة لله ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، لا نلتفت لهوى أو شبهة، أو شهوة مضلة؛ كي نكون من الصِّدِّيقِينَ.
أيها الصابرون: ولرُقِيِّ الصحابة مراتبَ الصِّدِّيقِينَ فتحوا البلاد بالعدل، وأنقذوا العباد من الظلم، وسادوا الأمم بالإسلام الحق، أنصفوا المظلوم، وردعوا الظالم في أقل من نصف قرن من الزمان، فتشبهوا يا عباد الله بساداتكم خير القرون، واخلعوا الكبائر والمعاصي، كما يخلع أحدكم الثوب الوسخ، والبسوا ثوب الولاء لدينكم، البسوا ثوب الولاء لله ولرسوله وللمؤمنين؛ كي تكونوا صِدِّيقِينَ، وكي تستقبلوا بعد أيام معدودات أفضل الضيوف وأحبها لكم، شهر رمضان، شهر الصِّدِّيقِينَ، شهر الصالحين، شهر المقربين، اصدقوا الله في أحوالكم، فلا تخافوا إلا الله، ولا تتوكلوا إلا عليه، وكونوا في أحوالكم كلها صادقين مع قبلتكم الأولى، توجهوا إليها بقلوبكم، وأجسامكم، وشدوا إليها رحالكم، وكونوا صادقين مع المسلمين، لا تخذلوهم، لا تظلموهم، لا تسلموهم، لا تتظاهروا عليهم، واصدقوا الله ربكم، فكونوا كما أمركم الله أن تكونوا، مستمسكين بهدي خير المرسلين؛ كي ترتقوا إلى منازل المقربين، وتصلوا إلى مقام الصِّدِّيقِينَ، حذار أن تضعف الهِمَم عن هذه المنازل، حذار حذار أن تلفت القلوب لغير هذه المقامات؛ فإن الله قال في الصِّدِّيقِينَ: (هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)[الْمَائِدَةِ: 119]، فاللهمَّ اكتبنا عندك من الصِّدِّيقِينَ، وارض اللهمَّ عَنَّا، وارزقنا الخلد في جنات النعيم.
عبادَ اللهِ: إن الله لا يستجيب دعاءً مِنْ قلبٍ غافلٍ لاهٍ ساهٍ، فادعوا الله وأنتم موقنون بالإجابة.
الخطبة الثانية:
الحمدُ لله ربِّ العالَمِينَ، وأشهدُ ألَّا إلهَ إلَّا اللهُ وحده، لا شريك له، وأشهد أنَّ سيدَنا محمدًا عبدُ اللهِ ورسولُه، اللهمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ عليه، وعلى آله وأصحابه، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ، أيها المسلمون الصابرون: نبَّهَنا اللهُ -سبحانه- إلى خطورة معصيته، ومخالفة أمره، وبخاصة ونحن نعيش حالةَ الرباط المُستَدامة، فقال -سبحانه-: (فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ)[مُحَمَّدٍ: 21]، فاصدقوا في أفعالكم مع الله، حين يأمركم بأمر فبادِروا إلى العمل به، واصدقوا الله حين ينهاكم عن فعل، فاحذروا من فعله، أو الاقتراب منه، حينها يرفعكم الله إلى مقام الصِّدِّيقِينَ، اصدقوا الله في رباطكم، واصدقوا الله في أفعالكم، واصدقوا الله في أحوالكم، فالله مطلع عليكم، ولا تخفى عليه منكم خافية، كونوا من الصِّدِّيقِينَ الذين صدقوا في إيمانهم، بالأعمال الصالحة، وأعطوا دينكم أوقاتكم، وأعطوا قدسكم وأقصاكم نصيبهما الوافر من عطائكم، فقد قال الله -سبحانه-: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ في سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)[الْحُجُرَاتِ: 15].
أيها المسلمون: كونوا أنصارًا لدينكم، وأنصارًا لإخوانكم من المسلمين، كما كان الأوس والخزرج من أهل المدينة المنوَّرة أنصارًا؛ لأنهم صدقوا في إيمانهم بالرسول -صلى الله عليه وسلم- ونصروه بالأنفس والأموال، ولأنهم نصروا المهاجرين؛ حيث أنزَلُوهم في منازلهم، وبذلوا لهم أنفسهم وأموالهم، فشرفهم الله بهذا اللقب، سئل أنس بن مالك: "أرأيتَ قولَ الناس لكم "الأنصار" اسمٌ سمَّاكم اللهُ به، أم كنتُم تُدعَوْنَ به في الجاهليَّة؟ قال: بل اسم سمَّانا اللهُ به في القرآن".
يا مؤمنون: شرَّفكم اللهُ في بَيْت الْمَقدسِ وأكنافه بلقب المرابطين، فاصدقوا الله في رباطكم، وأعطوا هذا اللقب حقه، كما أعطى الأوس والخزرج لقب الأنصار لهم حقه.
أيها المسلمون: وأما المهاجرون فهم الذين هجَرُوا قومَهم وعشيرتَهم استجابةً لأمرِ اللهِ ورسولِه -صلى الله عليه وسلم-، فكانوا من الصِّدِّيقِينَ، ومن السابقين عند ربهم، ومن المقربين، ألا تريدون -يا عباد الله- أن تتشرفوا بمرتبة الصِّدِّيقِينَ عند ربكم؟! إذن هاجروا إلى الله، وهاجروا إلى رسوله -صلى الله عليه وسلم-، وفارقوا منازلكم كل يوم للصلاة في المسجد الأقصى، واهجروا ما عليه الناس من حولكم، من الانكباب على الدنيا.
أيها المرابطون: وكما قدَّر اللهُ أن تكون المدينة المنوَّرة دارًا للصحابة ينصرون فيها دينهم، وينصرون فيها بعضهم بكل وسائل النصرة، طاعة لله ولرسوله -صلى الله عليه وسلم-، فصاروا صِدِّيقِينَ وشهداء وصالحين، فقد قدَّر اللهُ لكم أن تكونوا مرابطينَ في المسجد الأقصى وفي أكنافه، فهل نرى من أهل الرباط من يصل إلى مرتبة الصحابة في استقامته، وفي أعماله الصالحة؟
يا مرابطون: أنتم أهلٌ للقِبْلة الأُولى، فحافِظوا على مسجدها بشدِّ الرحالِ إليه، وكما سبقتُم غيرَكم من المسلمين في الاشتراك مع الصحابة في القبلتين اسبقوهم بأن تكونوا لهم قدوة في امتثال أمر الله، والانقياد إليه، وفي الاستسلام لأمره، والرضا بما كلفكم به، أقبلوا على دينكم، وكونوا من السابقين بالإيمان، كما أنتم من السابقين بالمكان، وهو المسجد الأقصى، وكونوا من السابقين بالزمان هجرة إلى الإسلام وتعاليمه؛ كي يذكركم من بعدكم من المسلمين بالذكر الحسن، فوسام الصديقية ينتظركم، ووسام الصلاح أنتم أولى به، واعلموا أن مقامكم في بَيْت الْمَقدسِ وأكنافه لا يعدله مقام في الأرض كلها؛ لأن الأقصى أقصاكم، ولأن الله ربكم ومولكم، ولأنَّه -سبحانه- هو حسبكم ونعم الوكيل.
فيا مقيل العثرات أقل عثرات شعبنا وأمتنا، يا كاشف الكربات اكشف عن شعبنا أينما كان كرباته، اللهمَّ إنَّا نستودعك أقصانا، ونستودعك شعبنا وقضيتنا، وأمننا وحريتنا، ورباطنا وأنفسنا وأموالنا وأولادنا وأهلينا.
اللهمَّ كُنْ لنا ولشعبنا ولأمتنا حافظًا ونصيرًا وظهيرًا، يا خيرَ مستودَع، في الدين والدنيا والآخرة، يا عُدَّتَنا عند شدتنا، يا غوثَنا عند كربتنا، أَطعِمْ أهلَنا في غزَّة من جوع، وآمنهم من خوف، ولا تجعل للظالمينَ عليهم سبيلًا، اللهمَّ احرسهم بعينك التي لا تنام، واكنفهم بركنك الذي لا يرام، اللهمَّ نج المستضعَفين من المسلمين، اللهمَّ نج المكروبين من المسلمين، اللهمَّ نج الأسارى من المسلمين، وردهم إلى أهلهم سالمين مكرمين.
اللهمَّ اجعلنا غرسك في المسجد الأقصى، واجعل أقصانا آمِنًا بأمانك، عزيزًا بعزك، منصورًا بنصرك المبين، اللهمَّ تقبَّلْ شهداءنا، وشاف جرحانا، اللهمَّ ارفع البلاء والكرب عن شعبنا، وعن المسلمين في كل مكان، اللهمَّ أَعِزَّ الإسلامَ والمسلمينَ، ، وأَذِلَّ الشركَ والمشركينَ، وانصر دينك وعبادك الصالحين.
اللهمَّ اغفر لنا ولوالدينا، وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات.
عبادَ اللهِ: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)[النَّحْلِ: 90]، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه على نعمه يزدكم، وأنتَ يا مقيمَ الصلاةِ: أَقِمِ الصلاةَ؛ (إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 45].
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم