العلِيُّ الأَعْلَى المُتعالِ -جل جلاله-

د عبدالله بن مشبب القحطاني

2021-03-19 - 1442/08/06 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/في ظلال اسمي الله العلي الأعلى سبحانه 2/أسباب علو العبد في الدنيا والآخرة.

اقتباس

وَبَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَرْضَ تُدَارُ مِنَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَيَا أَيُّهَا الْمَرِيضُ! الشَّافِي فِي السَّمَاءِ، وَيَا أَيُّهَا الْفَقِيرُ! الْغَنِيُّ فِي السَّمَاءِ، وَيَا أَيُّهَا الْحَزِينُ! الْجَابِرُ فِي السَّمَاءِ، أَيُّهَا الْعَقِيمُ! الْمَجِيبُ فِي السَّمَاءِ، أَيُّهَا الْمَدِينُ! الرَّزَّاقُ فِي السَّمَاءِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ؛ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70- 71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: جَاءَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ عَنِ الصَّحَابِيِّ الْجَلِيلِ مُعَاوِيَةَ بْنِ الْحَكَمِ السُّلَمِيِّ قَالَ: "...كَانَتْ لِي جَارِيَةٌ تَرْعَى غَنَمًا لِي قِبَلَ أُحُدٍ وَالْجَوَّانِيَّةِ، فَاطَّلَعْتُ ذَاتَ يَوْمٍ فَإِذَا الذِّيبُ قَدْ ذَهَبَ بِشَاةٍ مِنْ غَنَمِهَا، وَأَنَا رَجُلٌ مِنْ بَنِي آدَمَ، آسَفُ كَمَا يَأْسَفُونَ، لَكِنِّي صَكَكْتُهَا صَكَّةً؛ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-؛ فَعَظَّمَ ذَلِكَ عَلَيَّ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَفَلَا أُعْتِقُهَا؟ قَالَ: "ائْتِنِي بِهَا!" فَأَتَيْتُهُ بِهَا، فَقَالَ لَهَا: "أَيْنَ اللَّهُ؟"، قَالَتْ: فِي السَّمَاءِ، قَالَ: "مَنْ أَنَا؟"، قَالَتْ: أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ، قَالَ: "أَعْتِقْهَا، فَإِنَّهَا مُؤْمِنَةٌ".

 

عَلَى السَّمَاوَاتِ فَوْقَ الْعَرْشِ مُرْتَفِعًا *** مُبَايِنًا لِجَمِيعِ الْخَلْقِ مُتَّصِفَا

بِكُلِّ أَوْصَافِهِ الْعُلْيَا الَّتِي كَمُلَتْ *** وَلَيْسَ هَذَا بَحَمْدِ اللَّهِ فِيهِ خَفَا

 

وَاللَّهُ -تَعَالَى- قَالَ عَنْ نَفْسِهِ: (اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ)[الْبَقَرَةِ: 255]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)[الْأَعْلَى: 1]، وَقَالَ -تَعَالَى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)[الرَّعْدِ: 9]؛ فَمِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ الْحُسْنَى الْعَلِيُّ الْأَعْلَى الْمُتَعَالِ.

 

فَرَبُّنَا الْعَلِيُّ؛ الَّذِي لَا أَعْلَى مِنْهُ، لَهُ الْعُلُوُّ الْمُطْلَقُ مِنْ جَمِيعِ الْوُجُوهِ: عُلُوُّ الذَّاتِ، وَعُلُوُّ الْقَدْرِ وَالصِّفَاتِ، وَعُلُوُّ الْقَهْرِ وَالْغَلَبَةِ، وَعُلُوُّ الْحُجَّةِ.

 

وَرَبُّنَا أَعْلَى مِنْ كُلِّ شَيْءٍ، وَفَوْقَ كُلِّ شَيْءٍ، فَكُلُّ شَيْءٍ تَحْتَ قَهْرِهِ وَسُلْطَانِهِ وَعَظَمَتِهِ؛ لِأَنَّهُ الْعَظِيمُ الَّذِي لَا أَعْظَمَ مِنْهُ.

 

وَرَبُّنَا مُسْتَوٍ عَلَى عَرْشِهِ، بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، وَقَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا.

 

عِبَادَ اللَّهِ: تَنَوَّعَتِ الدَّلَائِلُ، وَتَكَاثَرَتِ الْبَرَاهِينُ، وَتَعَدَّدَتِ الشَّوَاهِدُ عَلَى عُلُوِّ اللَّهِ -تَبَارَكَ وَتَعَالَى- عَلَى خَلْقِهِ، قَالَ شَيْخُ الْإِسْلَامِ ابْنُ تَيْمِيَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ-: "وَاللَّهُ وَصَفَ نَفْسَهُ بِالْعُلُوِّ، وَهُوَ مِنْ صِفَاتِ الْمَدْحِ لَهُ بِذَلِكَ وَالتَّعْظِيمِ؛ لِأَنَّهُ مِنْ صِفَاتِ الْكَمَالِ، وَلَا يُوصَفُ بِضِدِّ الْعُلُوِّ، وَهُوَ السُّفُولُ؛ لِأَنَّ السُّفُولَ مِنْ صِفَاتِ النَّقْصِ الْمُنَافِيَةِ لِصِفَاتِ الْكَمَالِ، وَاللَّه مُنَزَّهٌ عَنِ النَّقَائِصِ".

 

وَقَالَ أَبُو بَكْرِ بْنُ خُزَيْمَةَ -رَحِمَهُ اللَّهُ- عِنْدَ قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)[الْأَعْلَى: 1]: "يَا ذَوِيِ الْحِجَى؛ رَبُّنَا يُخْبِرُنَا أَنَّهُ: الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ، أَفَلَيْسَ الْعَلِيُّ مَا يَكُونُ عَالِيًا؟ لَا كَمَا تَزْعُمُ الْمُعَطِّلَةُ الْجَهْمِيَّةُ أَنَّهُ: أَعْلَى وَأَسْفَلُ وَأَوْسَطُ وَمَعَ كُلِّ شَيْءٍ، وَفِي كُلِّ مَوْضِعٍ مِنْ أَرْضٍ وَسَمَاءٍ، وَفِي أَجَوَافِ جَمِيعِ الْحَيَوَانِ!..."، حَتَّى قَالَ: "وَلَوْ تَدَبَّرُوا الْآيَاتِ لَعَلِمُوا أَنَّهُمْ: جُهَّالٌ؛ لَا يَفْهَمُونَ مَا يَقُولُونَ".

 

هَذَا وَمِنْ تَوْحِيدِهِمْ: إِثْبَاتُ أَوْ *** صَافِ الْكَمَالِ لِرَبِّنَا الرَّحْمَنِ

كَعُلُوِّهِ سُبْحَانَهُ فَوْقَ السَّمَـ *** ـاوَاتِ الْعُلَا بَلْ فَوْقَ كُلِّ مَكَانِ

فَهُوَ الْعَلِيُّ بِذَاتِهِ سُبْحَانَهُ *** إِذْ يَسْتَحِيلُ خِلَافُ ذَا بِبَيَانِ

وَهُوَ الَّذِي حَقًّا عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *** قَدْ قَامَ بِالتَّدْبِيرِ لِلْأَكْوَانِ

 

عِبَادَ اللَّهِ: فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا)، وَقَوْلِ الْجَارِيَةِ: (فِي السَّمَاءِ)، وَقَوْلِهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَلَا تَأْمَنُونِي وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ"، (الْفَاءُ) هُنَا بِمَعْنَى: (عَلَى) كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ) [طه: 71]؛ أَيْ: عَلَى جُذُوعِ النَّخْلِ، وَكَمَا قَالَ -سُبْحَانَهُ-: (قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ)؛ أَيْ: عَلَى الْأَرْضِ، وَيُقْصَدُ بِالسَّمَاءِ هُنَا الْعُلُوُّ؛ فَاللَّهُ فِي الْعُلُوِّ بَائِنٌ مِنْ خَلْقِهِ، فَوْقَ عَرْشِهِ، فَوْقَ السَّمَاوَاتِ وَفَوْقَ جَمِيعِ خَلْقِهِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ أَنَّ السَّمَاءَ تُحِيطُ اللَّهَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ أَعْظَمُ مِنْ أَنْ يُحِيطَ بِهِ شَيْءٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ؛ (أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ)، (وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا)؛ فَرَبُّنَا تَعَالَى عَنِ الشَّبِيهِ وَالنَّظِيرِ وَالْمَثِيلِ وَالْعَدِيلِ.

 

وَرَبُّنَا تَعَالَى عَنِ الصَّاحِبَةِ وَالْوَلَدِ؛ (وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا)[الْجِنِّ: 3].

 

وَرَبُّنَا تَعَالَى عَنِ الشَّرِيكِ فِي أُلُوهِيَّتِهِ؛ (فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الْأَعْرَافِ: 190].

 

وَمَعَ عُلُوِّهِ -سُبْحَانَهُ-؛ فَهُوَ: قَرِيبٌ يُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِي إِذَا دَعَاهُ، وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَى الْإِنْسَانِ مِنْ حَبْلِ وَرِيدِهِ، وَيَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى، قَالَ -تَعَالَى-: (وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ)[ق: 16]، وَقَالَ تَعَالَى: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186]، وَقَالَ: (عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ)[الرَّعْدِ: 9].

 

وَعَلَى قَدْرِ الْإِيمَانِ وَالْعَمَلِ يَكُونُ الْعُلُوُّ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ؛ (كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ)[الْمُطَفِّفِينَ: 18]، (تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ)[الْقَصَصِ: 83].

 

وَمَنْ كَانَ مَعَ اللَّهِ كَانَ اللَّهُ مَعَهُ، وَعَلَا شَأْنُهُ؛ (فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ)[مُحَمَّدٍ: 35].

 

اللَّهُمَّ اجْعَلْنَا مِنْ أَوْلِيَائِكَ، وَاحْفَظْنَا بِحِفْظِكَ، وَأَعْلِ شَأْنَنَا كُلَّهُ، يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: الْكُلُّ يُرِيدُ الْعُلُوَّ وَالرِّفْعَةَ وَالْمَكَانَةَ الْعَالِيَةَ وَالثَّنَاءَ الْحَسَنَ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا، وَكَذَلِكَ الْآخِرَةِ، وَقَدْ دَلَّنَا النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى مَا يَرْفَعُ دَرَجَاتِنَا عِنْدَ اللَّهِ:

أَوَّلًا: الْإِيمَانُ؛ (وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَا)[طه: 75].

 

ثَانِيًا: الْعِلْمُ؛ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)[الْمُجَادِلَةِ: 11].

 

ثَالِثًا: التَّوَاضُعُ، صَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

وَلَمَّا طَلَبَ أَحَدُ الصَّحَابَةِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- مُرَافَقَةَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي الْجَنَّةِ؛ قَالَ لَهُ: "فَأَعِنِّي عَلَى نَفْسِكَ بِكَثْرَةِ السُّجُودِ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ)، وَالذِّكْرُ فِي السُّجُودِ: (سُبْحَانَ رَبِّيَ الْأَعْلَى)، وَاللَّهُ قَالَ: (سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى)[الْأَعْلَى: 1].

وَعُلِّلَ هَذَا الْقَوْلُ فِي السُّجُودِ بِأَنَّهُ: غَايَةٌ فِي الْخُضُوعِ وَالتَّذَلُّلِ مِنَ الْعَبْدِ بِأَشْرَفِ شَيْءٍ فِيهِ لِلَّهِ، وَهُوَ: وَجْهُهُ؛ بِأَنْ يَضَعَهُ عَلَى التُّرَابِ، فَنَاسَبَ -وَهُوَ فِي غَايَةِ سُفُولِهِ- أَنْ يَصِفَ رَبَّهُ بِأَنَّهُ: الْأَعْلَى -سُبْحَانَهُ-.

 

وَلِذَلِكَ لَمَّا كَانَ هَذَا حَالَ الْعَبْدِ فِي تِلْكَ الْهَيْئَةِ كَانَ أَقْرْبَ إِلَى اللَّهِ، قَالَ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ؛ فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

وَبَعْدَ أَنْ عَلِمْتَ أَنَّ الْأَرْضَ تُدَارُ مِنَ الْعَلِيِّ الْأَعْلَى؛ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ؛ فَيَا أَيُّهَا الْمَرِيضُ! الشَّافِي فِي السَّمَاءِ، وَيَا أَيُّهَا الْفَقِيرُ! الْغَنِيُّ فِي السَّمَاءِ، وَيَا أَيُّهَا الْحَزِينُ! الْجَابِرُ فِي السَّمَاءِ، أَيُّهَا الْعَقِيمُ! الْمَجِيبُ فِي السَّمَاءِ، أَيُّهَا الْمَدِينُ! الرَّزَّاقُ فِي السَّمَاءِ، أَيُّهَا الْمَغْمُومُ! الْفَتَّاحُ فِي السَّمَاءِ.

فَتَوَجَّهْ بِقَلْبِكَ وَوَجْهِكَ إِلَى السَّمَاءِ، وَادْعُ اللَّهَ الْعَلِيَّ الْأَعْلَى، وَأَبْشِرْ بِمَا يَسُرُّكَ؛ فَقَدْ بُشِّرْتَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ بِقَوْلِهِ: (وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ)[الْبَقَرَةِ: 186].

 

لَكَ الْحَمْدُ يَا ذَا الْجُودِ وَالْمَجْدِ وَالْعُلَا *** تَبَارَكْتَ تُعْطِي مَنْ تَشَاءُ وَتَمْنَعُ

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ بِاسْمِكَ الْأَعْلَى: أَنْ تُعْلِيَ شَأْنَنَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

 اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

 اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

 اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنِ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

 وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

الـعلِيُّ الأَعْلَى المُتَـعالِ -جل جلاله-.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات