العليم العالم -جل جلاله-

د عبدالله بن مشبب القحطاني

2020-12-28 - 1442/05/13 2022-10-05 - 1444/03/09
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/من أسماء الله العليم والعالم ومعناهما ودلائلهما 2/سعة علم العليم العالم عز وجل.

اقتباس

وَرَبُّنَا أَحَاطَ عِلْمُهُ الْمُطْلَقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَاطِّلَاعُهُ التَّامُّ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ؛ فَلَا يَنِدُّ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنِ اطِّلَاعِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُ إِحَاطَتَهُ شَيْءٌ؛ النَّجْوَى عِنْدَهُ جَهْرٌ، وَالسِّرُّ لَدَيْهِ عَلَانِيَةٌ، وَالْخَافِي لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

عِبَادَ اللَّهِ: تَتَسَتَّرُ الصُّدُورُ بِخَوَاطِرَ وَوَارِدَاتٍ وَمَقَاصِدَ وَنِيَّاتٍ، لَا يَنْفَذُ إِلَيْهَا سَمْعٌ، وَلَا يَصِلُ إِلَيْهَا بَصَرٌ؛ فَيَطَّلِعُ عَلَيْهَا الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ، وَتَتَكَتَّمُ الضَّمَائِرُ عَنْ مُسْتَوْدَعَاتِ الْأَفْكَارِ؛ فَلَا يَعْلَمُهَا مَلَكٌ مُقَرَّبٌ، وَلَا نَبِيٌّ مُرْسَلٌ، وَلَا وَلِيٌّ مُحَبَّبٌ، وَلَا عَالِمٌ جَهْبَذٌ، وَلَا شَيْطَانٌ مَارِدٌ؛ وَيَعْلَمُهَا عَلَّامُ الْغُيُوبِ.

 

وَيُلَفُّ الْجَنِينُ بِغِشَاءٍ إِثْرَ غِشَاءٍ فِي رَحْمِ أُمِّهِ؛ فَلَا يُدْرَى أَحَيٌّ أَمْ مَيِّتٌ؟ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ لَا يُدْرَى أَجَلُهُ وَلَا رِزْقُهُ وَلَا عُمُرُهُ وَيَعْلَمُ ذَلِكَ مَنْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، قَالَ اللَّهُ عَنْ نَفْسِهِ: (وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ) [الْبَقَرَةِ: 282]، وَكَذَا مِنْ أَسْمَائِهِ -سُبْحَانَهُ- الْعَلِيمُ الْعَالِمُ.

 

الْعِلْمُ: نَقِيضُ الْجَهْلِ.

 

وَرَبُّنَا أَحَاطَ عِلْمُهُ بِالظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَالْإِسْرَارِ وَالْإِعْلَانِ، وَأَحَاطَ بِالْعَالَمِ الْعُلْوِيِّ وَالسُّفْلِيِّ، وَأَحَاطَ عِلْمُهُ بِالْمَاضِي وَالْحَاضِرِ وَالْمُسْتَقْبَلِ.

 

وَهُوَ عَالِمٌ بِكُلِّ مَا أَخْفَتْهُ صُدُورُ خَلْقِهِ؛ مِنْ إِيمَانٍ وَكُفْرٍ، وَحَقٍّ وَبَاطِلٍ، وَخَيْرٍ وَشَرٍّ؛ (إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ) [آلِ عِمْرَانَ: 119].

 

وَرَبُّنَا أَحَاطَ عِلْمُهُ الْمُطْلَقُ بِكُلِّ مَوْجُودٍ، وَاطِّلَاعُهُ التَّامُّ عَلَى كُلِّ مَخْلُوقٍ؛ فَلَا يَنِدُّ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَعْزُبُ عَنِ اطِّلَاعِهِ شَيْءٌ، وَلَا يَفُوتُ إِحَاطَتَهُ شَيْءٌ؛ النَّجْوَى عِنْدَهُ جَهْرٌ، وَالسِّرُّ لَدَيْهِ عَلَانِيَةٌ، وَالْخَافِي لَدَيْهِ مَكْشُوفٌ.

 

وَهُوَ الْعَلِيمُ أَحَاطَ عِلْمًا بِالَّذِي *** فِي الْكَوْنِ مِنْ سِرٍّ وَمِنْ إِعْلَانِ

لَا جَهْلَ يَسْبِقُ عِلْمَهُ كَلَّا وَلَا *** يَنْسَى كَمَا الْإِنْسَانُ ذُو نِسْيَانِ

وَبِكُلِ شَيْءٍ عِلْمُهُ -سُبْحَانَهُ- *** قَاصِي الْأُمُورِ لَدَيْهِ قَبْلَ الدَّانِي

 

الْوَرَقَةُ تَسْقُطُ بِعِلْمِهِ، وَالْهَمْسَةُ تَصْدُرُ بِعِلْمِهِ، وَالْكَلِمَةُ تُقَالُ بِعِلْمِهِ، وَالنِّـيَّةُ تُعْقَدُ بِعِلْمِهِ، وَالْقَطْرَةُ تَنْزِلُ بِعِلْمِهِ؛ عَلِمَ الْحَيَّ وَالْمَيِّتَ، وَالرَّطْبَ وَالْيَابِسَ، وَالْحَاضِرَ وَالْغَائِبَ، وَالسِّرَّ وَالْجَهْرَ، وَالْكَثِيرَ وَالْقَلِيلَ؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ) [الْأَنْعَامِ: 59].

 

وَحَدَّثَ بَعْضُ الصَّحَابَةِ أَنْفُسَهَمْ بِحَدِيثٍ لَمْ يُظْهِرُوهُ، بَلْ كَتَمُوهُ وَأَسَرُّوهُ؛ فَأَنْزَلَ اللَّهُ -تَعَالَى-: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ) [الْبَقَرَةِ: 187].

 

وَأَسَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا، فَعَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ، فَقَالَتْ: مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا؟ (فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ) [التَّحْرِيمِ: 3].

 

بَاتَ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَحِيكُونَ الدَّسَائِسَ، وَيَحِيكُونَ الْخُطَطَ؛ فَكَشَفَهُمْ عَلَّامُ الْغُيُوبِ، وَقَالَ اللَّهُ فِيهِمْ: (يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا) [النِّسَاءِ: 108].

 

جَلَسَ عُمَيْرُ بْنُ وَهْبٍ وَصَفْوَانُ بْنُ أُمَيَّةَ -بَعْدَ بَدْرٍ- عِنْدَ الْكَعْبَةِ لَيْلًا يُدَبِّرَانِ اغْتِيَالَ رَسُولِ اللَّهِ؛ فَأَخْبَرَ اللَّهُ رَسُولَهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- بِكَيْدِهِمَا، وَأَطْلَعَهُ عَلَى فِعْلِهِمَا؛ (قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الْأَنْبِيَاءِ: 4].

 

وَخَافَ بَعْضُ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَتَكَلَّمَ فَيَفْضَحَهُ الْوَحْيُ، فَلَوَى رَأْسَهُ عَلَامَةً لِرَفْضِهِ إِتْيَانَ الرَّسُولِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لِيَسْتَغْفِرَ لَهُ؛ فَنَزَلَ الْوَحْيُ؛ (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ) [الْمُنَافِقُونَ: 5].

 

وَتَنَاجَى الْمُنَافِقُونَ فِي تَبُوكَ فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَهَمَزُوا وَلَمَزُوا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- وَالصَّحَابَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- وَالدِّينَ؛ فَأَطْلَعَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ رَسُولَهُ عَلَى كَيْدِهِمْ وَمَكْرِهِمْ وَسُخْرِيَتِهِمْ؛ (أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ) [التَّوْبَةِ: 78]؛ (إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا) [طه: 98].

 

وَلَا يُشَابِهُهُ أَحَدٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِهِ فِي كَمَالِ عِلْمِهِ -سُبْحَانَهُ-: (فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) [الشُّورَى: 11].

 

عِلْمُهُ مُطْلَقٌ، وَعِلْمُ الْبَشَرِ مَحْدُودٌ، عِلْمُهُ كَامِلٌ، وَعِلْمُ الْبَشَرِ نَاقِصٌ، وَعِلْمُهُ لَا نِهَايَةَ لَهُ، وَعِلْمُهُمْ يَنْتَهِي، وَعِلْمُهُ فِي الظَّاهِرِ وَالْبَاطِنِ، وَعِلْمُهُمْ فِيمَا يَظْهَرُ لَهُمْ، عِلْمُهُ بِكُلِّ شَيْءٍ، وَعِلْمُهُمْ فِي أَشْيَاءَ.

 

يَعْتَرِي الْبَشَرَ النِّسْيَانُ وَاللَّهُ لَا يَنْسَى؛ (وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا) [مَرْيَمَ: 64]، (يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ) [الْبَقَرَةِ: 255]، (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا) [الْفَتْحِ: 27]، وَإِذَا عَلِمَ الْبَشَرُ شَيْئًا فَهُوَ مِنْ تَعْلِيمِ اللَّهِ لَهُمْ، فَكُلُّ عِلْمٍ شَرْعِيٍّ وَقَدَرِيٍّ فَمَرْجِعُهُ إِلَى اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ؛ (قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) [الْبَقَرَةِ: 32].

 

وَقَالَ اللَّهُ مُخَاطِبًا رَسُولَ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا) [النِّسَاءِ: 113].

 

وَقَالَ عَنْ يُوسُفَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ) [يُوسُفَ: 101].

 

وَقَالَ عَنْ دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ) [الْأَنْبِيَاءِ: 80].

 

وَقَالَ عَنِ الْخَضِرِ -عَلَيْهِ السَّلَامُ-: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا) [الْكَهْفِ: 65].

 

وَلَوْ جَمَعَ النَّاسُ عُلُومَهُمْ وَمَا عِنْدَهُمْ مِنْ مَعْلُوَمَاتٍ؛ لَكَانَتْ ضَئِيلَةً جِدًّا بِالنِّسْبَةِ لِعِلْمِ اللَّهِ الْوَاسِعِ: (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا) [الْإِسْرَاءِ: 85].

 

قَالَ الْخَضِرُ لِمُوسَى -عَلَيْهِ السَّلَامُ- لَمَّا رَكِبَا السَّفِينَةَ، وَرَأَى عُصْفُورًا قَدْ وَقَعَ عَلَى حَرْفِ السَّفِينَةِ؛ فَنَقَرَ فِي الْبَحْرِ نَقْرَةً أَوْ نَقْرَتَيْنِ، قَالَ لَهُ الْخَضِرُ: "يَا مُوسَى، مَا نَقَصَ عِلْمِي وَعِلْمُكَ مِنْ عِلْمِ اللَّهِ إِلَّا مِثْلَ مَا نَقَصَ هَذَا الْعُصْفُورُ بِمِنْقَارِهِ مِنَ الْبَحْرِ...".

 

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: وَاخْتَصَّ رَبُّنَا -سُبْحَانَهُ- بِعُلُومِ الْغَيْبِ؛ (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) [الْأَنْعَامِ: 59]، وَذَكَرَ مِنْهَا خَمْسَةً؛ (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) [لُقْمَانَ: 34].

 

فَهَذِهِ الْخَمْسَةُ مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا اللَّهُ؛ عِلْمُ السَّاعَةِ: مَبْدَأُ مِفْتَاحٍ لِحَيَاةِ الْآخِرَةِ، تَنْزِيلُ الْغَيْثِ: مِفْتَاحٌ لِحَيَاةِ الْأَرْضِ بِالنَّبَاتِ، عِلْمُ الْأَرْحَامِ: مِفْتَاحٌ لِلْحَيَاةِ الدُّنْيَا، عِلْمُ مَا فِي الْغَدِ: مِفْتَاحُ الْكَسْبِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، عِلْمُ مَكَانِ الْمَوْتِ: مِفْتَاحٌ لِحَيَاةِ الْبَرْزَخِ، وَقِيَامَةِ كُلِّ إِنْسَانٍ بِحَسْبِهِ.

 

وَعِلْمُ الْغَيْبِ لَا شَكَّ أَنَّهُ أَعْظَمُ وَأَوْسَعُ مِنْ أَنْ يُحْصَرَ فِي هَذِهِ الْخَمْسَةِ فَقَطْ، وَالْإِخْبَارُ هُنَا يُحْمَلُ عَلَى بَيَانِ الْبَعْضِ الْمُهِمِّ، لَا عَلَى دَعْوَى الْحَصْرِ؛ فَاللَّهُ قَالَ: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ) [النَّمْلِ: 65].

 

وَمَنْ زَعَمَ أَنَّ أَحَدًا يَعْلَمُ الْغَيْبَ غَيْرَ اللَّهِ؛ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالْأَنْبِيَاءِ -عَلَيْهِمُ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ- لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا مِنَ الْغَيْبِ؛ إِلَّا مَا أَخْبَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، تَقُولُ عَائِشَةُ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا-: "مَنْ زَعَمَ أَنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُخْبِرُ بِمَا يَكُونُ فِي غَدٍ؛ فَقَدْ أَعْظَمَ عَلَى اللَّهِ الْفِرْيَةَ"؛ (قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ) [الْأَعْرَافِ: 188].

 

وَمَنْ آتَاهُ اللَّهُ عِلْمًا وَلَوْ كَانَ قَلِيلًا؛ فَقَدْ رَفَعَهُ اللَّهُ؛ (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) [الْمُجَادِلَةِ: 11]؛ فَكَيْفَ لَوْ كَانَ عَالِمًا تَقِيًّا عَارِفًا بِاللَّهِ، مُؤَدِّيًا حَقَّهُ؟ فَهُؤُلَاءِ تَيَقَّنُوا بِعِلْمِ اللَّهِ؛ فَازْدَادُوا لَهُ خَشْيَةً وَتَعْظِيمًا؛ وَلِذَا زَكَّاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ؛ فَقَالَ: (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ) [فَاطِرٍ: 28].

 

فَالْعِلْمُ: أَصْلُ الْخِصَالِ الشَّرِيفَةِ، يَرْقَى بِالْإِنْسَانِ إِلَى الْمَنَازِلِ الرَّفِيعَةِ، وَلَا يَصِلُ لِهَذِهِ الْمَنْزِلَةِ إِلَّا بِالْعِلْمِ وَالْمُدَاوَمَةِ عَلَى سُؤَالِ اللَّهِ إِيَّاهُ، وَامْتِثَالًا بِدُعَاءِ رَسُولِنَا -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الَّذِي عَلَّمَهُ اللَّهُ إِيَّاهُ؛ (وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا) [طه: 114].

 

اللَّهُمَّ عَلِّمْنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَانْفَعْنَا بِمَا عَلَّمْتَنَا وَزِدْنَا عِلْمًا.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

العليم العالم -جل جلاله-.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات