العلم بالله تعالى (6) لوازم العلم بربوبية الله تعالى

الشيخ د إبراهيم بن محمد الحقيل

2022-08-05 - 1444/01/07 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: الإيمان
عناصر الخطبة
1/عظمة وشرف العلم بالله تعالى وسبب ذلك 2/بعض لوازم علم العبد بربوبية الله تعالى 3/دلائل أن الإقرار بربوبية الله تعالى مغروس في الفِطَر 4/الوصية بصيام عاشوراء وبيان بعض فضائله وأحكامه

اقتباس

الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَغْرُوسٌ فِي الْفِطَرِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالْحِسِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَكْفِي لِنَجَاةِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَعْمَلَ بِلَازِمِهِ؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِالْعُبُودِيَّةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَيُخْلِصُ الدِّينَ لَهُ...

الخطبة الأولى:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ الْمَلِكِ الْحَقِّ الْمُبِينِ؛ خَلَقَ الْخَلْقَ مِنَ الْعَدَمِ، وَرَبَّاهُمْ بِالنِّعَمِ، وَدَفَعَ عَنْهُمُ النِّقَمَ، نَحْمَدُهُ كَمَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يُحْمَدَ، وَنَشْكُرُهُ فَقَدْ تَأَذَّنَ بِالزِّيَادَةِ لِمَنْ شَكَرَ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ (فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ * وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)[الزُّخْرُفِ: 84-85]، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ؛ "جَاءَهُ حَبْرٌ مِنَ الْأَحْبَارِ فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنَّا نَجِدُ: أَنَّ اللَّهَ يَجْعَلُ السَّمَوَاتِ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْأَرَضِينَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالشَّجَرَ عَلَى إِصْبَعٍ، وَالْمَاءَ وَالثَّرَى عَلَى إِصْبَعٍ، وَسَائِرَ الْخَلَائِقِ عَلَى إِصْبَعٍ، فَيَقُولُ: أَنَا الْمَلِكُ، فَضَحِكَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ تَصْدِيقًا لِقَوْلِ الْحَبْرِ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى- عَمَّا يُشْرِكُونَ)[الزُّمَرِ 67]. صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَأَتْبَاعِهِ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ، وَعَظِّمُوهُ وَاعْبُدُوهُ وَوَحِّدُوهُ؛ فَإِنَّهُ -سُبْحَانَهُ- رَبُّكُمْ وَإِلَهُكُمْ، وَخَالِقُكُمْ وَمُدَبِّرُكُمْ، وَمُحْيِيكُمْ وَمُمِيتُكُمْ، وَإِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ وَمَآبُكُمْ، وَعَلَيْهِ حِسَابُكُمْ وَجَزَاؤُكُمْ؛ (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ * الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 21-22].

 

أَيُّهَا النَّاسُ: الْعِلْمُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- عِلْمٌ عَظِيمٌ شَرِيفٌ؛ لِأَنَّهُ يَقُودُ صَاحِبَهُ لِتَوْحِيدِ اللَّهِ -تَعَالَى- فِي الرُّبُوبِيَّةِ وَالْأُلُوهِيَّةِ، وَإِخْلَاصِ الدِّينِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ. كَمَا يَقُودُ الْعَبْدَ إِلَى مَعْرِفَةِ أَسْمَاءِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَصِفَاتِهِ وَأَفْعَالِهِ فِي خَلْقِهِ.

 

وَلِلْعِلْمِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- لَوَازِمُ تَلْزَمُ صَاحِبَهَا، وَإِلَّا لَمْ يَكُنْ لِعِلْمِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- فَائِدَةٌ:

 

وَمِنْ لَوَازِمِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-: أَنْ يُوقِنَ أَنَّ الْوُجُودَ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا خَالِقٌ وَمَخْلُوقٌ.. رَبٌّ وَمَرْبُوبٌ؛ فَالرَّبُّ الْخَالِقُ هُوَ اللَّهُ -سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى-، وَالْمَخْلُوقُ الْمَرْبُوبُ هُوَ مَا سِوَى اللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّ الرَّبَّ الْخَالِقَ مُبَايِنٌ لِلْمَخْلُوقِ الْمَرْبُوبِ؛ "فَإِنَّ الرُّبُوبِيَّةَ الْمَحْضَةَ تَقْتَضِي مُبَايَنَةَ الرَّبِّ لِلْعَالَمِ بِالذَّاتِ، كَمَا بَايَنَهُمْ بِالرُّبُوبِيَّةِ وَبِالصِّفَاتِ وَالْأَفْعَالِ، فَمَنْ لَمْ يُثْبِتْ رَبًّا مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، فَمَا أَثْبَتَ رَبًّا". "فَالْبَارِي قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ الْعَالَمَ كَانَ هُوَ وَحْدَهُ -سُبْحَانَهُ- لَا شَرِيكَ لَهُ، وَلَمَّا خَلَقَ الْخَلْقَ فَإِنَّهُ لَمْ يَخْلُقْهُ فِي ذَاتِهِ، فَيَكُونُ هُوَ مَحَلًّا لِلْمَخْلُوقَاتِ، وَلَا جَعَلَ ذَاتَهُ فِيهِ... بَلْ خَلَقَهُ بَائِنًا عَنْهُ". وَالْمُنْحَرِفُونَ فِي هَذَا اللَّازِمِ هُمْ مَنْ أَثْبَتُوا رُبُوبِيَّةَ اللَّهِ -تَعَالَى- "لَكِنْ لَمْ يُثْبِتُوهُ مُبَايِنًا لِلْعَالَمِ، بَلْ جَعَلُوا وُجُودَهُ وُجُودَ الْعَالَمِ، أَوْ جَعَلُوهُ حَالًّا فِي الْعَالَمِ، وَقَوْلُهُمْ مُضْطَرِبٌ مُتَنَاقِضٌ".

 

وَمِنْ لَوَازِمِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-: أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّ كُلَّ مَوْجُودٍ فَهُوَ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- هُوَ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ؛ (اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ)[الزُّمَرِ: 62]، (لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)[الْحَدِيدِ: 2]، وَأَنَّ كُلَّ حَرَكَةٍ وَسُكُونٍ، وَبَسْطٍ وَقَبْضٍ، وَإِعْطَاءٍ وَمَنْعٍ، وَصِحَّةٍ وَمَرَضٍ، وَغِنًى وَفَقْرٍ، وَعِزٍّ وَذُلٍّ، وَرَفْعٍ وَخَفْضٍ، وَنَفْعٍ وَضُرٍّ، وَرَطْبٍ وَيَابِسٍ، فَبِقَدَرِ اللَّهِ -تَعَالَى- وَكَلِمَاتِهِ الْكَوْنِيَّةِ، الَّتِي تَجْرِي عَلَى كُلِّ الْمَوْجُودَاتِ، وَلَا يَمْلِكُ أَحَدٌ مِنَ الْخَلْقِ لَهَا مَنْعًا وَلَا دَفْعًا وَلَا رَفْعًا وَلَا تَحْوِيلًا؛ (قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ)[آلِ عِمْرَانَ: 26-27]، (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)[الْأَنْعَامِ: 59]، (وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ)[الْأَنْعَامِ: 115]، (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ)[لُقْمَانَ: 27].

 

وَمِنْ لَوَازِمِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-: أَنْ يُوقِنَ بِأَنَّهُ -سُبْحَانَهُ- مُتَفَرِّدٌ بِالْأَمْرِ الرَّبَّانِيِّ فِي كُلِّ خَلْقِهِ، فَلَا شَرِيكَ لَهُ فِي شَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ؛ (أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ)[الْأَعْرَافِ: 54]، (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ)[الرُّومِ: 25]، وَقَدْ عَابَ -سُبْحَانَهُ- عَلَى الْمُشْرِكِينَ أَنَّهُمْ عَبَدُوا مَنْ لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ؛ (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا)[الْفُرْقَانِ: 3].

 

وَمِنْ لَوَازِمِ عِلْمِ الْعَبْدِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-: أَنْ يَتَوَصَّلَ الْعَبْدُ بِعِلْمِهِ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- إِلَى الْإِقْرَارِ بِأُلُوهِيَّتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، وَإِفْرَادِهِ بِالْعِبَادَةِ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذَا هُوَ مَعْنَى كَلِمَةِ التَّوْحِيدِ (لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ)؛ أَيْ: لَا مَعْبُودَ بِحَقٍّ إِلَّا اللَّهُ -تَعَالَى-. وَذَلِكَ أَنَّ الْعَبْدَ حِينَ عَلِمَ وَأَيْقَنَ أَنَّ اللَّهَ -تَعَالَى- هُوَ الْخَالِقُ الرَّازِقُ الْمُحْيِي الْمُمِيتُ الْمُدَبِّرُ، وَلَا يُشْرِكُهُ أَحَدٌ فِي ذَلِكَ؛ وَجَبَ أَنْ يَصْرِفَ الْعُبُودِيَّةَ لَهُ وَحْدَهُ دُونَ مَا سِوَاهُ، وَهَذِهِ هِيَ طَرِيقَةُ الْقُرْآنِ فِي تَعْلِيمِ قُرَّائِهِ الرُّبُوبِيَّةَ وَالْأُلُوهِيَّةَ؛ إِذْ يُذْكَرُ فِي آيَاتِهِ -بَعْدَ تَقْرِيرِ الرُّبُوبِيَّةِ- الْإِلْزَامُ بِالْعُبُودِيَّةِ؛ كَمَا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ * وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ)[الْبَقَرَةِ: 164-165]؛ فَذَكَرَ سُبْحَانَهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ آيَاتِهِ الدَّالَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِذَمِّ مَنْ يُشْرِكُونَ بِهِ فِي الْعُبُودِيَّةِ.

 

وَفِي آيَةٍ أُخْرَى: (اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ * هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)[غَافِرٍ: 64-66]؛ فَذَكَرَ -سُبْحَانَهُ- فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَفْعَالَهُ الدَّالَّةَ عَلَى رُبُوبِيَّتِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، ثُمَّ أَعْقَبَهَا بِوُجُوبِ إِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ لَهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَالْأَمْثِلَةُ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرَةٌ، يَجِدُهَا مَنْ تَدَبَّرَ كِتَابَ اللَّهِ -تَعَالَى-.

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعَلِّمَنَا مَا يَنْفَعُنَا، وَأَنْ يَرْزُقَنَا الْعَمَلَ بِمَا عَلَّمَنَا، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ.

 

وَأَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ...

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

أَمَّا بَعْدُ: فَاتَّقُوا اللَّهَ -تَعَالَى- وَأَطِيعُوهُ؛ (وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 131-132].

 

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: الْإِقْرَارُ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَغْرُوسٌ فِي الْفِطَرِ، وَدَلَّتْ عَلَيْهِ دَلَائِلُ الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ وَالْحِسِّ، وَمَعَ ذَلِكَ فَهُوَ لَا يَكْفِي لِنَجَاةِ الْعَبْدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَعْمَلَ بِلَازِمِهِ؛ وَهُوَ الْإِقْرَارُ لِلَّهِ -تَعَالَى- بِالْعُبُودِيَّةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ؛ فَيُخْلِصُ الدِّينَ لَهُ؛ (قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ * وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ * قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ * قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي * فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ)[الزُّمَرِ: 11-15].

 

وَالْمُشْرِكُونَ مِنْ كُلِّ الْأُمَمِ كَانَ أَكْثَرُهُمْ يُقِرُّونَ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى-، وَلَكِنَّهُمْ لَمْ يُخْلِصُوا الدِّينَ لَهُ، بَلْ عَبَدُوا غَيْرَهُ، وَتَعَلَّقَتْ قُلُوبُهُمْ بِغَيْرِهِ، وَتَوَجَّهَتْ وُجُوهُهُمْ لِغَيْرِهِ، فَلَمْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّمَا كَانُوا مُشْرِكِينَ؛ (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 61]، (وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ)[الْعَنْكَبُوتِ: 63]؛ فَلَمْ يَكُنْ إِقْرَارُهُمْ بِرُبُوبِيَّةِ اللَّهِ -تَعَالَى- مُخْرِجًا لَهُمْ مِنَ الشِّرْكِ، حَتَّى يُخْلِصُوا الدِّينَ لِلَّهِ -تَعَالَى-، فَلَا يَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ -تَعَالَى-، وَلَا يَتَوَجَّهُوا إِلَّا لَهُ -سُبْحَانَهُ-، وَلَا تَتَعَلَّقَ قُلُوبُهُمْ إِلَّا بِهِ -عَزَّ وَجَلَّ-.

 

وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَتَعَبَّدُونَ وَهُمْ عَلَى ضَلَالٍ، وَمَا أَكْثَرَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُوَحِّدُونَ وَقَدِ امْتَلَأَتْ قُلُوبُهُمْ بِغَيْرِ اللَّهِ -تَعَالَى- مَحَبَّةً وَتَعْظِيمًا وَوَلَاءً وَخَوْفًا وَرَجَاءً؛ (ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا)[الْكَهْفِ: 104]؛ فَالْقَلْبُ يَحْتَاجُ إِلَى تَفَقُّدٍ دَائِمٍ فِي صَرْفِ الْحُبِّ وَالتَّعْظِيمِ وَالْوَلَاءِ وَالْخَوْفِ وَالرَّجَاءِ؛ لِيَكُونَ لِلَّهِ -تَعَالَى- دُونَ سِوَاهُ، وَبِذَلِكَ يَكُونُ قَلْبًا سَلِيمًا خَالِصًا لِلَّهِ -تَعَالَى-.

 

أَيُّهَا الْإِخْوَةُ: وَأَفْضَلُ الصِّيَامِ بَعْدَ رَمَضَانَ صِيَامُ شَهْرِ اللَّهِ الْمُحَرَّمِ؛ كَمَا صَحَّ ذَلِكَ عَنِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، وَلَا سِيَّمَا صَوْمُ يَوْمِ عَاشُورَاءَ؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ صَوْمَهُ يُكَفِّرُ السَّنَةَ الَّتِي قَبْلَهُ، فَصُومُوهُ وَصُومُوا التَّاسِعَ مَعَهُ مُخَالَفَةً لِلْيَهُودِ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُمْ...

 

 

المرفقات

مشكولة - العلم بالله تعالى (6) لوازم العلم بربوبية الله تعالى.pdf

العلم بالله تعالى (6) لوازم العلم بربوبية الله تعالى.doc

مشكولة - العلم بالله تعالى (6) لوازم العلم بربوبية الله تعالى.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات