العقوبات الخفية

محمد بن عبدالله السحيم

2022-01-21 - 1443/06/18 2022-10-12 - 1444/03/16
التصنيفات: أحوال القلوب
عناصر الخطبة
1/العقوبات الخفية من أخطر العقوبات 2/من صور العقوبات الخفية 3/أضرار المعاصي وآثارها 4/الخوف من الذنوب من صفات المتقين

اقتباس

إنَّ أخطرَ عقوباتِ الذنْبِ الخَفِيِّةِ نسيانُ اللهِ عبدَه، وتَرْكُهُ دون مَدَدٍ ربانيٍّ أو ملائكيٍّ، بل يُخْلِي بينه وبين نفسِه وشيطانِه وأعوانِه، وهنالك الهلاكُ الذي لا يُرجى معه نجاةٌ -كما قال ابنُ القيم-...

الخُطْبَةُ الأُولَى:

 

إنَّ الحمدَ لله، نحمدُه، ونستعينُه، ونستغفرُه، ونعوذُ باللهِ من شرورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالِنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، وأشهدُ أن محمدًا عبدُه ورسولُه.

 

أما بعدُ: (يَاأَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النساء: 1].

 

أيَّها المؤمنون: لِغايةِ العبوديةِ أوجدَ اللهُ -سبحانه- الثَّقَلين، وسخَّرَ لهم الكونَ وما حواه، قال -تعالى-: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ)[الذاريات: 56]، وجَعَلَ ذلك الكونَ متَّسِقًا مع تلك الغايةِ؛ قيامًا بوظيفتِها التعبديةِ، وتذكيرًا بها، ودِلالةً على استحقاق الله لها، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ)[الحج: 18].

 

ولتحقيقِ العبوديةِ سَاقَ -سبحانه- العبادَ بالوعدِ لمن حقَّقَها، والوعيدِ لمن أخْفَرَها، وجَعَلَ العقوباتِ زاجرًا عن مخالفةِ تلك الغايةِ، ونوّعَ تلك العقوباتِ طرائقَ قِدَدًا؛ دنيويةً وأخرويةً، حسيةً ومعنويةً، وكان أخطرَ تلك العقوباتِ العقوبةُ الخَفِيِّةُ التي لا تُرى، ولا يَشْعُرُ بها العاصي، ولا يُبْصرُ معها آثارَ ذنبِه؛ فَيَسْدُرُ في غيِّه، ولا يَلْوِي عنه حتى يُفْضيَ به إلى هُوَّةٍ سحيقةٍ مِن الهلاكِ.

 

قال ابنُ القَيِّمِ: "فالذنبُ لا يخلو مِن عقوبةٍ ألبتةَ، ولكنْ لِجهلِ العبدِ لا يشعُرُ بما فيه مِن العقوبةِ؛ لأنه بمنزلةِ السكرانِ والمخدَّرِ والنائمِ الذي لا يشعرُ بالألمِ, فتَرَتُّبُ العقوباتِ على الذنوبِ كتَرَتُّبِ الإحراقِ على النارِ، والكَسْرِ على الانكسارِ، والغرقِ على الماءِ، وفسادِ البدنِ على السمومِ، والأمراضِ على الأسبابِ الجالبةِ لها, وقدْ تُقارِنُ المضرَّةُ الذنبَ وقد تتأخرُ عنه، إما يسيرًا وإما مدةً، كما يتأخرُ المرضُ عن سببِه أنْ يُقارنَه, وكثيرًا ما يقعُ الغلطُ للعبدِ في هذا المقامِ, ويذنبُ الذَّنْبَ فلا يَرى أثرَه عَقِبَه، ولا يدري أنه يعملُ عملَه على التدريجِ شيئًا فشيئًا، كما تعملُ السمومُ والأشياءُ الضارةُ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ, فإنْ تدارَكَ العبدُ نفسَه بالأدويةِ والاستفراغِ والحِمْيةِ، وإلا فهو صائرٌ إلى الهلاكِ، هذا إذا كان ذنْبًا واحدًا لم يَتَدَارَكْه بما يزيلُ أثرَه؛ فكيفَ بالذنْب على الذنْب كلَّ يومٍ وكلَّ ساعةٍ؟! واللهُ المستعانُ", وقال ابنُ الجَوزيِّ: "ولَعمري، إنَّ أعظمَ العقوبةِ أن لا يَدرِي بالعقوبةِ!".

 

عبادَ اللهِ: إنَّ أخطرَ عقوباتِ الذنْبِ الخَفِيِّةِ نسيانُ اللهِ عبدَه، وتَرْكُهُ دون مَدَدٍ ربانيٍّ أو ملائكيٍّ، بل يُخْلِي بينه وبين نفسِه وشيطانِه وأعوانِه، وهنالك الهلاكُ الذي لا يُرجى معه نجاةٌ -كما قال ابنُ القيم-، قال اللهُ –تعالى-: (وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ)[الحشر: 19].

 

ومن آثار ذلك النسيانِ على العاصي -وهو مِن خَفِيِّ العقابِ-: تزيينُ سوءِ عملِه في عينِه، وإمعانُه في ارتكابِ الخطايا، وإلْفَتُها، واستسهالُها، وتَفَتُّحُ أبوابِها له وتسهيلُها عليه، فيتسعُ نطاقُها، ويَخِفُّ وَقْعُ حيائِه منها لِيجاهرَ بها؛ فيزدادَ سوادُ مَن يُضِلُّهم حاملًا أوزارَهم مع وزرِه الذي أنْقَضَ ظهرَه، ويغيبُ عنه ذكرُ التوبةِ، وتنصرفُ نفسُه عن الطاعةِ، كما قال -تعالى-: (فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ)[المائدة: 49].

 

ومِثْلُ هذا قَلَّ أن يوفَّقَ للتوبةِ، وهو مِن عفوِ اللهِ بعيدٌ, وهذا -لَعَمْرُ اللهِ- عينُ الهلاكِ والخسارِ، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "كلُّ أمتي مُعافَى إلا المجاهرينَ، وإنَّ من المجاهرةِ أن يعملَ الرجلُ بالليلِ عملًا، ثم يُصْبِحُ وقد سترَه اللهُ عليه، فيقولُ: يا فلانُ! عَملتُ البارحةَ كذا وكذا، وقد باتَ يسترُه ربُّه، ويُصْبِحُ يَكْشِفُ سترَ اللهِ عنه"(رواه البخاريُّ ومسلمٌ).

 

ومِن شديدِ عقابِ الذنوبِ الخفيِّ: الطبعُ على القلبِ؛ فيَسْوَدُّ، ويَعمَى، ولا يبصرُ إلا ما يهوى, ويَغُورُ مِن قلبِه ماءُ الغيرةِ، وتَذْبُلُ فيه جذوةُ تعظيمِ الشعائرِ والحُرُماتِ؛ فيَسْهُلُ على الشيطانِ قيادُه، ويُسِيمه مراتعَ العطبِ، قال النبيُّ -صلى الله عليه وسلم-: "تُعرَضُ الفتنُ على القلوبِ كالحصيرِ عُوُدًا عُوُدًا، فأيُّ قلبٍ أُشْرِبَها، نُكِتَ فيه نُكْتةُ سوداءُ، وأيُّ قلبٍ أَنْكَرها، نُكتَ فيه نكتةٌ بيضاءُ، حتى تصيرَ على قلبين، على أبيضَ مِثلِ الصَّفا -الحجر الأملس-؛ فلا تضرُّه فتنةٌ ما دامتِ السماواتُ والأرضُ، والآخرُ أسودُ مُرْبَادًّا -المتكدِّر بين البياض والسواد- كالكُوزِ مُجَخِّيًا -مقلوبًا- لا يَعْرِفُ معروفًا، ولا يُنكرُ منكرًا، إلا ما أُشربَ مِن هواه"(رواه مسلمٌ).

 

 أيها المسلمون: وقسوةُ القلبِ مِن خطيرِ العقوبةِ الخفيةِ، قال مالكُ بنُ دينارٍ: "إنَّ للهِ عقوباتٍ في القلوبِ والأبدانِ: ضَنْكٍ في المعيشةِ، ووَهَنٍ في العبادةِ، وما ضُرِبَ عبدٌ بعقوبةٍ أعظمَ مِن قسوةِ القلبِ", والقسوةُ متى حلَّتْ في القلبِ مَنَعَتُه الادكارَ والاتعاظَ؛ فلا يتأثَّرُ بالآياتِ إنْ تُلِيَتْ، ولا يتعظُ بالأحداثِ وإنْ وقعتْ عليه, أو رآها عَيانًا, كما قال - تعالى-: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُون)[الأنعام: 43].

 

فالاتعاظُ إنما يكونُ بنورِ الخشيةِ الذي ترحّلَ مِن القلبِ حين قسا، قال -تعالى-: (سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى)[الأعلى: 10]. وغالبًا ما تكونُ قسوةُ القلبِ حاملةً على الكِبْرِ وعدمِ الانقيادِ للحقِ؛ وذاك مِن أعظمِ موانعِ الانتفاعِ بالآياتِ، كما قال -تعالى-: (سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ)[الأعراف: 146].

 

ومِن خَفيّ العقوبةِ: أنَّ حُجُبَ الذنوبِ تُحِلُّ الوحشةَ في قلبِ العاصي؛ فيستشعرُها في علاقتِه مع ربِّه، ومع خَلْقِه، كما أنَّ حُجُبَ الذنوبِ مغناطيسٌ يَجْذِبُ إلى القلبِ شَتاتَ المخاوفِ والأوهامِ، كما قال -تعالى-: (إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ)[آل عمران: 175], خوفٌ من المرضِ، أو الرزقِ، أو العدوِّ، أو المستقبلِ، بل خوفٌ لا يُعْلَمُ سببُه.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ, أما بعدُ:

 

أما بعدُ: فاعلموا أن أصدق الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

 

ومن العقوباتِ الخفيةِ للذنوبِ -كما قال أهلُ العلم-: قلةُ التوفيقِ، وفسادُ الرأي، وسوءُ الاختيارِ للنَّفْسِ، وخفاءُ الحقِّ، وإضاعةُ الوقتِ، ومنْعُ إجابةِ الدعاءِ، وحرمانُ لذةِ المناجاةِ الربانيةِ، ومَحْقُ البركةِ في الرزقِ والعمرِ، وحرمانُ العلمِ، ونسيانُ حفظِ القرآنِ، والخذلانُ، ولباسُ الذلِ، وإهانةُ العدوِّ، وضيقُ الصدرِ، والابتلاءُ بقرناءِ السوءِ, الذين يفسدون القلبَ ويضيعون الوقتَ، وطولُ الهمِّ والغمِّ، وضَنْكُ المعيشةِ، وكَسْفُ البالِ، وتعسُّرُ الأمورِ، وتنغيصُ الحلالِ، والنُّفْرةُ وإلقاءُ البغضاء لصاحبِها في قلوبِ الخلْقِ، والتثاقلُ عن الطاعةِ، وحرمانُ حلاوتِها.

 

ومِن أعظمِ العقوباتِ خفاءً وأشدِّها خطرًا: أنْ يُستدرَجَ العبدُ بالنعمِ وثناءِ الكاذبين مع إمعانِه في لُجَّةِ العصيانِ, حتى يقفَ على شفيرِ الخاتمةِ، وتَحُلُّ بساحتِه رسلُ الموتِ؛ فيقدمُ على ربِّه بالوزرِ غيرَ معذورٍ ولا منيبٍ، كما قال - تعالى-: (وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِين)[آل عمران: 178].

 

بكى سفيانُ الثوريُّ ليلةً إلى الصباحِ، فلما أصبحَ قيل له: كلُّ هذا خوفًا مِن الذنوبِ؟ فأخذَ تبْنةً مِن الأرضِ، وقال: "الذنوبُ أهونُ مِن هذا، وإنما أبكي مِن خوفِ سوءِ الخاتمةِ", قال ابن القيم: "وهذا مِن أعظمِ الفقهِ, أنْ يخافَ الرجلُ أن تخذلَه ذنوبُه عند الموتِ؛ فتحُوُلُ بينه وبين الخاتمةِ الحسنى".

 

عبادَ اللهِ: إنَّ خفاءَ العقوبةِ يُوجِبُ على العبدِ أنْ يكونَ مُرْهَفَ الحِسِّ، يَقِظَ الضميرِ تُجاهَ الذنوبِ وعقابِها؛ وذلك يُحَتِّمُ عليه أنْ يكونَ شديدَ التحرُّزِ من مواقعةِ المآثمِ، وإنْ وَقَعَ فيها -وهو لا بدَّ واقعٌ- بادرَ باستصلاحِ الزللِ وغَسْلِ الحُوُبَةِ بطهورِ ماءِ التوبةِ النصوحِ, وإدمانِ الاستغفارِ، وأن لا يغرَّه إبطاءُ العقوبةِ أو خفاؤها؛ فإنما يُبادِرُ بالعقوبةِ مَن يخافُ الفَوْتَ، وسلطانُ اللهِ غالبٌ، وكيدُه متينٌ.

 

 

المرفقات

العقوبات الخفية.pdf

العقوبات الخفية.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات