عناصر الخطبة
1/العباد مجبولون على الخطأ وكما جاز خطأهم على ربهم جاز خطأهم على المخلوقين 2/سبب نزول قوله تعالى (ولا يأتل أولي الفضل منكم والسعة) وما الذي تعلمه أبو بكر منها 3/نداءات لطيفة للإنسان تذكره بالعفو ومراتبه وفضله 4/عفو الله تعالى لخلقه لا ينال إلا بعفو المخلوقين عن بعضهم.اقتباس
لك الحق في أن تأخذ حقك، ولك الحق في أن تعفو عفو القادر العزيز، عفو المسامح الكريم؛ فاعف لأجل وعد وعدك إياه الله، لا يقدر عليه خلق من خلق الله، لأجل وعد وعدك الله إياه والله لن تجد له مثيلا في دنياك ولا آخرتك...
الخطبة الأولى:
إنّ الحمد لله، نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، (يَٰٓأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِۦ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسۡلِمُونَ)؛ أما بعد:
في الحديث صحيح الإسناد كما في المستدرك عن أنس بن مالك -رضي الله عنه- قال: "بينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه فقال له عمر: ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ قال: رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة فقال أحدهما: يا رب خذ لي مظلمتي من أخي فقال الله -تبارك وتعالى- للطالب: فكيف بأخيك ولم يبق من حسناته شيء؟ قال: يا رب فليحمل من أوزاري قال: وفاضت عينا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بالبكاء ثم قال: إن ذاك اليوم عظيم يحتاج الناس أن يحمل عنهم من أوزارهم فقال الله -تعالى- للطالب ارفع بصرك فانظر في الجنان فرفع رأسه فقال: يا رب أرى مدائن من ذهب وقصورا من ذهب مكللة باللؤلؤ، لأي نبي هذا أو لأي صديق هذا أو لأي شهيد هذا؟ قال: هذا لمن أعطى الثمن قال: يا رب ومن يملك ذلك؟ قال: أنت تملكه قال: بماذا قال: بعفوك عن أخيك قال: يا رب فإني قد عفوت عنه. فإني قد عفوت عنه". غنه العفو؟ وما أدراك ما العفو؟ العفو صفة الرحمن سبحانه، فالله اسمه العفوّ وصفته العفو وفعله العفو: "اللهم إنك عفوٌّ تحب العفو"، (إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا)، (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا).
نعم، قد يظلمك الآخرون، وقد يسيء إليك الآخرون، وقد يتجاوزون عليك وقد يعتدون عليك وقد يؤذونك، وقد يكون هؤلاء من الأقارب أو الجيران أو الأصدقاء أو الأباعد؛ فهذه هي الحياة الدنيا في الدنيء السيئ وفيها النبيل النقي، فيها الكريم وفيها العفو وفيها المسامح وفيها العنيد وفيها اللئيم وفيها الحق وفيها العدل، ويبقى العفو أقرب للتقوى؛ (وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى)[البقرة:237].
أخي المسلم: تعالى معي لنقف مع أعظم موقف فيه عفو وصفح من أعظم مؤمن من هذه الأمة، موقف لا يقدر عليه إلا من عرف الله بصفته العفو والصفح والمغفرة والرحمة، لا يقدر عليه إلا من أراد أن يتاجر مع الخالق لا مع المخلوق، قال تعالى: (وَلا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)[النور: 22].
قال ابن كثير: يقول تعالى: (وَلا يَأْتَلِ)؛ أي: لا يحلف؛ (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ)؛ أي: الطَّول والصدقة والإحسان (وَالسَّعَة)؛ أي: الجِدَةَ؛ (أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ)؛ أي: لا تحلفوا ألا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين، وهذه في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام، ولهذا قال: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)؛ أي: عما تقدم منهم من الإساءة والأذى، وهذا من حلمه -تعالى- وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم.
وهذه الآية نزلت في الصدِّيق، حين حلف ألا ينفع مِسْطَح بن أثاثة بنافعة بعدما قال في عائشة ما قال، كما في حادثة الإفك؛ فلما أنزل الله براءةَ أم المؤمنين عائشة، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت، وتاب الله على مَن كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على مَن أقيم عليه شَرَع -تبارك وتعالى-، وله الفضل والمنة، يعطفُ الصدِّيق على قريبه ونسيبه، وهو مِسْطَح بن أثاثة؛ فإنه كان ابن خالة الصديق، وكان مسكينًا لا مال له إلا ما ينفق عليه أبو بكر، -رضي الله عنه-، وكان من المهاجرين في سبيل الله، وقد وَلَق وَلْقَة تاب الله عليه منها، وضُرب الحد عليها.
وكان الصديق، -رضي الله عنه-، معروفًا بالمعروف، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب؛ فلما نزلت هذه الآية إلى قوله: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)؛ أي: فإن الجزاء من جنس العمل؛ فكما تغفر عن المذنب إليك نغفر لك، وكما تصفح نصفح عنك؛ فعند ذلك قال الصديق: بلى، والله إنا نحب -يا ربنا -أن تغفر لنا، ثم رَجَع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة، وقال: والله لا أنزعها منه أبدًا، في مقابلة ما كان قال: والله لا أنفعه بنافعة أبدًا؛ فلهذا كان الصدّيق هو الصديق -رضي الله عنه-وعن بنته".
وقال السعدي: "(وَلا يَأْتَلِ)؛ أي: لا يحلف؛ (أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا)، كان من جملة الخائضين في الإفك (مسطح بن أثاثة)، وهو قريب لأبي بكر الصديق -رضي الله عنه-، وكان مسطح فقيرا من المهاجرين في سبيل الله؛ فحلف أبو بكر أن لا ينفق عليه، لقوله الذي قال: فنزلت هذه الآية، ينهاهم عن هذا الحلف المتضمن لقطع النفقة عنه، ويحثه على العفو والصفح، ويعده بمغفرة الله إن غفر له؛ فقال: (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، إذا عاملتم عبيده، بالعفو والصفح، عاملكم بذلك؛ فقال أبو بكر - لما سمع هذه الآية-: بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، فرجع النفقة إلى مسطح.
وفي هذه الآية دليل على النفقة على القريب، وأنه لا تترك النفقة والإحسان بمعصية الإنسان، والحث على العفو والصفح، ولو جرى عليه ما جرى من أهل الجرائم"؛ أي عفو هذا! وعن أي ذنب ذاك!، ومن الذي عفا!، ومن الذي طلب العفو! إنه عفو عظيم عن ذنب عظيم مس الشرف والطهر، من رجل كبير هو أبو بكر، من طالب العفو وهوا العلي الكبير العفو القدير -سبحانه-.
لماذا فعلت هذا يا أبا بكر؟ لأنك عرفت الله، عرفت أسماء الله وعرفت صفات الله، عرفت أن الخالق الذي تعبده اسمه العَفُوُّ، عرفت أن الخالق الذي سيبعثك صفته العَفْو.
* تعلم أبو بكر من مدرسة النبوة أن عفوك عن الناس ومسامحتك للناس عبادة تقربك إلى الله، وحسن خلقك منك يحببك إلى الله، لقول النبي -صلى الله عليه وسلم- حينما سئل: من أحبّ عباد الله إلى الله -تعالى-؟ "قال: أحسنهم خلقاً"(إسناده حسن).
* تعلم أبو بكر من مدرسة النبوة أن عفوك عن الناس ومسامحتك لمن أخطأ في حقك خلق طيب منك يدنيك ثم يدنيك من أشرف الخلق سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم-؛ يقول النبي -صلى الله عليه وسلم- كما في الحديث الصحيح: "ألا أخبركم بأحبّكم إليّ، وأقربكم منّي مجلساً يوم القيامة؟ قال: أحسنكم خلقاً"؛ فالنبي -صلى الله عليه وسلم- لا يقرّبك من مجلسه في الجنة ولا يجالسك للونك ولا لعشيرتك ولا لمالك وإنما لحسن خلقك في تعاملك مع الناس، وعفوك عنهم ومسامحتك إياهم.
* تعلم أبو بكر من مدرسة النبوة أن عفوك عن المسيء في حقك، مسامحتك لمن تجاوز الحد معك، هو دليل على طيبك أنت، ورفعتك أنت وخيرتك أنت، في صحيح البخاري عن عبد الله بن عمرو -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إِنَّ خِيَارَكُمْ أَحَاسِنُكُمْ أَخْلَاقًا".
* (أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ)، هكذا يقول الله لك؛ فقلها كما قالها أبو بكر بلى، والله إني لأحب أن يغفر الله لي، وافعلها كما فعلها أبو بكر وقل: اللهم أشهدك أني قد عفوت عمن ظلمني وأساء إلي، من بعيد أو قريب.
أيها المؤمن بلقاء الله: احذر من نفسك المارة بالسوء، احذر من نفسك التي يطيش بها الكبر وينفخ في أوداجك، احذر من نفث الشيطان في عروقك وأذنيك، بأن لا تتنازل ولا تسامح ولا تعفو ولا تصلح، احذر فما عند الله خير وأبقى.
أيها المؤمن بلقاء الله: لأجل الله العفو فقط اعف وسامح، ألا يكفيك أن الله -تعالى- قد علم بعفوك ومسامحتك، ومطلع على ذلك، قال تعالى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)[النساء: 149]، قال السعدي: "(إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ)، وهذا يشمل كل خير قوليّ وفعليّ، ظاهر وباطن، من واجب ومستحب؛ (أَوْ تَعْفُوا عَن سُوءٍ)؛ أي: عمن ساءكم في أبدانكم وأموالكم وأعراضكم؛ فتسمحوا عنه؛ فإن الجزاء من جنس العمل؛ فمن عفا لله عفا الله عنه، ومن أحسن أحسن الله إليه؛ فلهذا قال: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا)؛ أي: يعفو عن زلات عباده وذنوبهم العظيمة فيسدل عليهم ستره، ثم يعاملهم بعفوه التام الصادر عن قدرته"، وقد بوب البخاري في صحيحه بابا بعنوان: (بَاب عَفْوِ الْمَظْلُومِ)؛ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا).
أيها المؤمن بلقاء الله: لأجل أن الله اسمه العفو واسمه الغفور، اعف عمن أساء لك واغفر زلة من تطاول عليك، هذا هو الله اسمه العفو الغفور، وصفته العفو عن خلقه والمغفرة لهم، قال الله عن نفسه: (إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ)[الحج: 60]، قال السعدي: "أي: يعفو عن المذنبين، فلا يعاجلهم بالعقوبة، ويغفر ذنوبهم فيزيلها، ويزيل آثارها عنهم؛ فالله هذا وصفه المستقر اللازم الذاتي، ومعاملته لعباده في جميع الأوقات بالعفو والمغفرة؛ فينبغي لكم أيها المظلومون المجني عليهم، أن تعفوا وتصفحوا وتغفروا ليعاملكم الله كما تعاملون عباده".
أيها المؤمن بلقاء الله: لأجل من يقبل توبتك الصادرة منك ويعفو عن زلتك الخاصة بك، اعف عن غيرك وسامح؛ قال الله عن ذاته المقدسة وصفاته العظيمة: (وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ)[الشورى: 25]. قال ابن كثير: "أي: يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي، (وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ) أي: هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم، ومع هذا يتوب على من تاب إليه".
اعف ولو كثر عفوك عن الآخرين، اعف ولو كثر خطأ الآخرين؛ فقد قال ربك العفو لك: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)[الشورى: 30]؛ قال ابن كثير: "وقوله: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ)؛ أي: مهما أصابكم -أيها الناس- من المصائب فإنما هو عن سيئات تقدمت لكم (وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ)؛ أي: من السيئات، فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها".
أيها المؤمن بلقاء الله: لك الحق في أن تأخذ حقك، ولك الحق في أن تعفو عفو القادر العزيز، عفو المسامح الكريم؛ فاعف لأجل وعد وعدك إياه الله، لا يقدر عليه خلق من خلق الله، لأجل وعد وعدك الله إياه والله لن تجد له مثيلا في دنياك ولا آخرتك، اعف لأجل وعد بالعطاء الجزيل وعدك الكريم إياه؛ فاستمع له، واسأل الله واسأل الله أن تكون من أهله؛ (وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)[الشورى: 40].
قال القرطبي: "قوله تعالى: (فَمَنْ عَفا وَأَصْلَحَ)؛ قال ابن عباس: من ترك القصاص وأصلح بينه وبين الظالم بالعفو (فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ)؛ أي إن الله يأجره على ذلك.
قال مقاتل: فكان العفو من الأعمال الصالحة، وقد مضى في" آل عمران" في هذا ما فيه كفاية، والحمد لله، وذكر أبو نعيم الحافظ عن علي بن الحسين -رضي الله عنهم- قال: إذا كان يوم القيامة نادى مناد أيكم أهل الفضل؟ فيقوم ناس من الناس؛ فيقال: انطلقوا إلى الجنة فتتلقاهم الملائكة؛ فيقولون إلى أين؟ فيقولون إلى الجنة، قالوا قبل الحساب؟ قالوا نعم. قالوا من أنتم؟ قالوا أهل الفضل، قالوا وما كان فضلكم؟ قالوا كنا إذا جهل علينا حلمنا وإذا ظلمنا صبرنا وإذا سيئ إلينا عفونا، قالوا ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين".
وقال السعدي: "(فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ) يجزيه أجرا عظيما، وثوابا كثيرا، وشرط الله في العفو الإصلاح فيه، ليدل ذلك على أنه إذا كان الجاني لا يليق العفو عنه، وكانت المصلحة الشرعية تقتضي عقوبته؛ فإنه في هذه الحال لا يكون مأمورا به، وفي جعل أجر العافي على الله ما يهيج على العفو، وأن يعامل العبد الخلق بما يحب أن يعامله الله به، فكما يحب أن يعفو الله عنه، فَلْيَعْفُ عنهم، وكما يحب أن يسامحه الله، فليسامحهم، فإن الجزاء من جنس العمل".
أيها المؤمن بلقاء الله: اعف فقد ادخر الله لك الأجر في الآخرة، أخرج الإمام أحمَد في مسنده وحسنه الألباني، قولَ النبيِّ -صلى الله عليه وسلم-: "من كظم غيظًا وهو قادرٌ على أن ينفِذَه دعاه الله على رؤوسِ الخلائق حتى يخيِّرَهُ من أيِّ الحور شاء".
أيها المؤمن بلقاء الله: اعف أخذا بوصية رسولك لك؛ ففي الحديث الحسن، عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ، قَالَ: لَقِيتُ رَسُولَ اللهِ -صلى الله عليه وسلم- فَقَالَ لِي: "يَا عُقْبَةُ بْنَ عَامِرٍ، صِلْ مَنْ قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ".
أيها المسلم: اعف فبالعفو تحفظ علاقاتك ولا تفتتها، ولا تنس أنه ليس من السهل أن تنهي علاقة الأخوة الإيمانية والإسلامية بينك وبين أخيك المسلم الموحد المؤمن؛ يقول ابن عاشور: "وَفِي التَّرْغِيبِ فِي عَفْوِ الْمَظْلُومِ عَنْ ظَالِمِهِ حِفْظُ آصِرَةِ الْأُخُوَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ بَيْنَ الْمَظْلُومِ وَظَالِمِهِ كَيْلَا تَنْثَلِمَ فِي آحَادِ جُزْئِيَّاتِهَا بَلْ تَزْدَادَ بِالْعَفْوِ مَتَانَةً ؛كَمَا قَالَ -تَعَالَى-: (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)[فصلت: 34]".
أيها المسلم: اعف عمن ظلمك؛ فعفوك لن يضعفك ولن ينزل مقامك، بل عفوك سيرتقي بك ويرتقي؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- قَالَ: "مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلاَّ عِزًّا وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلاَّ رَفَعَهُ اللَّهُ"؛ قال النووي: "أَنَّ مَنْ عُرِفَ بِالْعَفْوِ وَالصَّفْح سَادَ وَعَظُمَ فِي الْقُلُوب، وَزَادَ عِزّه وَإِكْرَامه".
أيها المسلم: اعف فالعفو ليس ذلة ولا ضعفا ولا خورا؛ قال إبراهيم النخعيّ واصفا سلفنا الصالح: "كانوا يكرَهون أن يُستَذَلّوا، فإذا قدروا عفَوا"، وقال الحسن بنُ علي: "لو أنَّ رجلاً شتَمني في أذني هذه واعتذر في أُذني الأخرَى لقبِلتُ عذرَه"، وقال جعفرُ الصادِق: "لأن أندمَ على العفوِ عشرين مرّةً أحبُّ إليَّ من أندَم على العقوبة مرة واحدة"، وقال الفضيل بنُ عياض: "إذا أتاك رجلٌ يشكو إليك رجلاً فقل: يا أخي، اعفُ عنه؛ فإنَّ العفو أقرب للتقوى، فإن قال: لا يحتمِل قلبي العفوَ ولكن أنتصر كما أمرَني الله -عزّ وجلّ- فقل له: إن كنتَ تحسِن أن تنتَصِر، وإلاّ فارجع إلى بابِ العفو؛ فإنّه باب واسع؛ فإنه من عفَا وأصلحَ فأجره على الله، وصاحِبُ العفو ينام علَى فراشه باللّيل، وصاحب الانتصار يقلِّب الأمور".
وجاء في حديث ابن مسعود كأني أنظر إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحكي نبياً من الأنبياء -صلوات الله وسلامه عليهم- ضربه قومه فأدموه وهو يمسح الدم عن وجهه ويقول: "اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون"، وكذلك كان العفو من هدي الرسل الكرام؛ فهذا نبي الله يوسف الكريم بن الكريم بن الكريم، حسده إخوته وألقوه في الجب، وآذوه. ومع كل هذا قال لهم: (لَا تَثۡرِيبَ عَلَيۡكُمُ ٱلۡيَوۡمَۖ يَغۡفِرُ ٱللَّهُ لَكُمۡۖ وَهُوَ أَرۡحَمُ ٱلرَّٰحِمِينَ).
والصحابة عرفوا قدر اسم الله العفو وكانوا يرجون أثر هذا الاسم في حياتهم؛ فقد روى البخاري عن ابن عباس، عن عيينة بن حصن، أنه قال لعمر بن الخطاب: "يا ابن الخطاب، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم فينا بالعدل؛ فغضب عمر، حتى هم أن يوقع به؛ فقال له الحر بن قيس: يا أمير المؤمنين، إن الله قال لنبيه: (خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ)، وإن هذا من الجاهلين؛ فقال ابن عباس: فوالله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقَّافاً عند كتاب الله -عز وجل-".
أيها الإنسان: اعف، فمن منا معصوم لا يقع منه الخطأ أو الظلم أو التطاول أو التجاوز أو التعدي أو الإساءة، من؛ ففي الحديث الحسن في سنن الترمذي: قالَ رَسُولُ اللهِ -صلى الله عليه وسلم-: "كُلُّ بَنِي آدَمَ خَطَّاءٌ، وَخَيْرُ الْخَطَّائِينَ التَّوَّابُونَ".
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين؛ وبعد:
تعبد لله باسم العفو، بان تعفو عن غيرك...لأن الله يحب العفو.
وتعبد الله باسم العفو وصفة العفو لله بأن تطلب منه العفو؛ فهو يحب العفو؛ (وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلاَنَا)؛ قَالَ نَعَمْ. وعَنْ عَائِشَةَ، أَنَّهَا قَالَتْ: "يَا رَسُولَ اللهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ وَافَقْتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ مَا أَدْعُو؟ قَالَ: تَقُولِينَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ فَاعْفُ عَنِّي".
فلا تحرم نفسك من عفو الله عنك، عن أبي هريرة أن رسول الله قال: "تفتح أبواب الجنة يوم الإثنين ويوم الخميس لكل عبد لا يشرك بالله شيئا وفي رواية: تعرض الأعمال في كل يوم خميس وإثنين فيغفر الله -عز وجل- في ذلك لكل عبد لا يشرك بالله شيئا إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء؛ فيقال: أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا، أنظروا هذين حتى يصطلحا"(رواه مسلم).
اللهم اقبلنا وتقبل أعمالنا وارض عنا وعن والدينا وأهلينا أجمعين.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم