العفة (4) عوائق مجتمعية في طريق الزواج

ملتقى الخطباء - الفريق العلمي

2020-10-16 - 1442/02/29 2022-10-12 - 1444/03/16
عناصر الخطبة
1/عوائق مجتمعية في طريق الزواج 2/ آثار العوائق على الزواج

اقتباس

إِنَّ الْأَبَ الرَّحِيمَ هُوَ الَّذِي يَسْعَى لِإِسْعَادِ ابْنَتِهِ وَإِدْخَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهَا، بَلْ رُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ لِلْبَحْثِ لَهَا عَنِ الزَّوْجِ الصَّالِحِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ، وَنَسْتَعِينُهُ، وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَتُوبُ إِلَيْهِ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.

 

(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)[آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا)[النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)[الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: إِنَّ النَّاظِرَ فِي حَالِ كَثِيرٍ مِنَ الشَّبَابِ وَالشَّابَّاتِ الْيَوْمَ يَجِدُ عَدَدًا كَبِيرًا مِنْهُمْ لَمْ يَتَزَوَّجْ بَعْدُ، وَهُوَ تَائِقٌ إِلَى الزَّوَاجِ، فَكَمْ رَأَيْنَا مِنْ شَابٍّ قَدْ جَاوَزَ الثَّلَاثَةَ الْعُقُودِ مِنْ عُمْرِهِ يَعِيشُ فِي كَآبَةٍ وَعَنَاءٍ، مُمَزَّقَ الْقَلْبِ مُشَتَّتَ الْبَالِ؛ مُنْتَظِرًا الْيَوْمَ السَّعِيدَ الَّذِي يَصِيرُ لَهُ فِيهِ زَوْجَةٌ.

 

وَكَمْ قَدْ سَمِعْنَا عَنْ شَابَّاتٍ وَصَلْنَ حُدُودَ الْأَرْبَعِينَ مِنْ أَعْمَارِهِنَّ وَهُنَّ يَنْتَظِرْنَ أَنْ يَصِرْنَ زَوْجَاتٍ لَا عَانِسَاتٍ، وَلَكِنَّهُنَّ بَقِينَ يَحْتَسِينَ كُؤُوسَ الْغُمُومِ، وَيَتَجَرَّعْنَ آلَامَ الْهُمُومِ حَتَّى يُقْبِلَ الْفَارِسُ الْمُنْتَظَرُ.

 

فَمَا الْعَوَائِقُ الَّتِي حَالَتْ بَيْنَ هَؤُلَاءِ وَبَيْنَ الزَّوَاجِ الَّذِي شَرَعَهُ الرَّبُّ -تَعَالَى- لِقَضَاءِ الْوَطَرِ الَّذِي جَبَلَ اللَّهُ عَلَيْهِ كُلَّ الْبَشَرِ؟

 

وَالْجَوَابُ:

غَلَاءُ الْمُهُورِ، وَكَثْرَةُ تَكَالِيفِ حَفَلَاتِ الْأَعْرَاسِ؛ فَغَلَاءُ الْمُهُورِ مِنَ الْعَقَبَاتِ الَّتِي مَنَعَتْ كَثِيرًا مِنَ الرَّاغِبِينَ وَالرَّاغِبَاتِ فِي الزَّوَاجِ مِنَ الْوُصُولِ إِلَيْهِ، فَكَمْ مِنْ شَابٍّ ذَهَبَ لِخِطْبَةِ امْرَأَةٍ فَطَلَبُوا مِنْهُ مَبْلَغًا كَبِيرًا لَيْسَ لَدَيْهِ، وَرُبَّمَا لَنْ يَسْتَطِيعَ جَمْعَهُ وَلَوْ فِي سَنَوَاتٍ طَوِيلَةٍ.

 

إِنَّ الْمَهْرَ -يَا عِبَادَ اللَّهِ- لَيْسَ ثَمَنًا لِسِلْعَةٍ تُشْتَرَى، بَلْ هُوَ شَيْءٌ يَسِيرٌ جَعَلَهُ اللَّهُ جَبْرًا لِخَاطِرِ الْمَرْأَةِ، وَتَطْيِيبًا لِنَفْسِهَا، وَلَهَا حُرِّيَّةُ التَّصَرُّفِ فِيهِ، قَالَ -تَعَالَى-: (وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا)[النِّسَاءِ: 4].

 

وَلَيْسَ الْمَهْرُ حَقًّا لِأَبِ الْمَرْأَةِ يَطْلُبُ لِأَجْلِهِ مَنْ يَدْفَعُ أَكْثَرَ لِيُزَوِّجَهُ ابْنَتَهُ، فَإِذَا لَمْ يَجِدِ الثَّمَنَ الَّذِي يُرْضِيهِ رَدَّ الْخَاطِبِينَ، وَكَأَنَّ بِنْتَهُ صَارَتْ بِضَاعَةً يَرْبَحُ مِنْ وَرَائِهَا، وَيُقَدِّمُ فِيهَا مَنْ يَزِيدُ فِي الثَّمَنِ عَلَى غَيْرِهِ، وَلَوْ كَانَ أَسْوَأَ خُلُقًا وَأَفْسَدَ دِينًا مِنْ صَاحِبِ الدِّينِ وَالْخُلُقِ الَّذِي لَيْسَ لَدَيْهِ مَالٌ وَفِيرٌ.

 

أَيُّهَا الْأَوْلِيَاءُ: هَذَا رَسُولُنَا الْكَرِيمُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يُعَلِّمُنَا دَرْسًا فِي الْبُعْدِ عَنْ غَلَاءِ الْمُهُورِ؛ فَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ فِي صَحِيحِهِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فَقَالَ: إِنِّي تَزَوَّجْتُ امْرَأَةً مِنَ الْأَنْصَارِ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "عَلَى كَمْ تَزَوَّجْتَهَا؟ قَالَ: عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى أَرْبَعِ أَوَاقٍ؟!! كَأَنَّمَا تَنْحِتُونَ الْفِضَّةَ مِنْ عُرْضِ هَذَا الْجَبَلِ!". مَعَ أَنَّ هَذَا الْمَهْرَ لَيْسَ كَثِيرًا!.

 

وَأَمَّا تَكَالِيفُ الزَّوَاجِ فَهِيَ الْقَاصِمَةُ الْأُخْرَى، وَتَشْمَلُ الْوَلَائِمَ وَالْحَفَلَاتِ وَالصَّالَاتِ، وَالْأَلْبِسَةَ وَأَنْوَاعَ الزِّينَةِ الْمُبَالَغِ فِيهَا، وَلَمْ يَكْتَفِ النَّاسُ بِالشَّيْءِ الْيَسِيرِ مِنْهَا، بَلْ يَصِلُونَ إِلَى حَدِّ الْإِسْرَافِ، وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ)[الْأَعْرَافِ: 31].

 

وَمِنَ الْعَوَائِقِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ فِي طَرِيقِ الزَّوَاجِ: اشْتِرَاطُ وَلِيِّ الْمَرْأَةِ أَنْ يَكُونَ الْمُتَقَدِّمُ لِابْنَتِهِ غَنِيًّا، أَوْ صَاحِبَ وَظِيفَةٍ رَاقِيَةٍ، فَإِذَا تَقَدَّمَ لَهَا رَجُلٌ فَقِيرٌ أَوْ ذُو وَظِيفَةٍ لَا تَرْقَى إِلَى رِضَاهُ؛ رَدَّهُ، وَلَوْ كَانَ كُفُؤًا فِي الشَّرْعِ.

 

فَهَلْ هَذَا شَرْطٌ شَرْعِيٌّ يَا عِبَادَ اللَّهِ فِي الزَّوَاجِ؟

 

اسْمَعُوا إِلَى الشَّرْطِ الشَّرْعِيِّ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ"(رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ).

 

وَتَأَمَّلُوا فِي قَوْلِهِ -تَعَالَى-: (وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ)[النُّورِ: 32].

 

وَمِنَ الْعَوَائِقِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ فِي طَرِيقِ الزَّوَاجِ: عَضْلُ بَعْضِ الْأَوْلِيَاءِ بَنَاتِهِمْ مِنَ الزَّوَاجِ؛ طَمَعًا فِي رَاتِبِ وَظِيفَتِهَا، فَيَخْشَى إِنْ تَزَوَّجَتْ أَنْ يَفُوتَهُ ذَلِكَ! وَهَذَا ظُلْمٌ وَخِيَانَةٌ وَفِقْدَانٌ لِلرَّحْمَةِ، فَأَيْنَ الْخَوْفُ مِنَ اللَّهِ الَّذِي يَحْمِلُ الْأَبَ أَوِ الْأُمَّ عَلَى عَدَمِ مَنْعِ الْبِنْتِ مِنَ الزَّوَاجِ بِالْكُفْءِ وَقَدْ رَضِيَتْ بِهِ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ)[الْبَقَرَةِ: 232].

 

إِنَّ الْأَبَ الرَّحِيمَ هُوَ الَّذِي يَسْعَى لِإِسْعَادِ ابْنَتِهِ وَإِدْخَالِ الْخَيْرِ عَلَيْهَا، بَلْ رُبَّمَا حَمَلَهُ ذَلِكَ لِلْبَحْثِ لَهَا عَنِ الزَّوْجِ الصَّالِحِ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ فِي عَرْضِ ابْنَتِهِ حَفْصَةَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ وَعُثْمَانَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، كَمَا رَوَى (الْبُخَارِيُّ) ذَلِكَ.

 

وَمِنَ الْعَوَائِقِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ فِي طَرِيقِ الزَّوَاجِ: اشْتِرَاطُ إِتْمَامِ الدِّرَاسَةِ، وَهَذَا الشَّرْطُ قَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الشَّابِّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ أَبِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ مِنْ قِبَلِ الْبِنْتِ أَوْ مِنْ قِبَلِ أُسْرَتِهَا.

 

فَبَعْضُ الشَّبَابِ -هَدَاهُمُ اللَّهُ- يَمْنَعُ نَفْسَهُ مِنَ الزَّوَاجِ مَعَ حَاجَتِهِ الشَّدِيدَةِ إِلَيْهِ بِحُجَّةِ عَدَمِ إِكْمَالِهِ الدِّرَاسَةَ، بَلْ قَدْ يَكُونُ فِي دِرَاسَةٍ مُخْتَلِطَةٍ، فَيَكُونُ هُنَاكَ إِطْلَاقُ الْبَصَرِ، وَعَلَاقَاتٌ، وَرُبَّمَا مَا بَعْدَ ذَلِكَ!.

 

وَقَدْ يَرْغَبُ الشَّابُّ فِي الزَّوَاجِ وَلَكِنَّ أَبَاهُ يَمْتَنِعُ مِنْ تَزْوِيجِهِ حَتَّى يُكْمِلَ دِرَاسَتَهُ، فَيَعِيشُ الشَّابُّ فِي كَآبَةٍ قَدْ تُعَكِّرُ تَفَوُّقَهُ الدِّرَاسِيَّ.

 

وَفِي الْجِهَةِ الْمُقَابِلَةِ يَتَقَدَّمُ رَجُلٌ لِلْبِنْتِ فَتَمْتَنِعُ هِيَ أَوْ أُسْرَتُهَا مِنْ قَبُولِهِ زَوْجًا حَتَّى الِانْتِهَاءِ مِنْ سَنَوَاتِ الدِّرَاسَةِ، فَتَأْخُذُ السَّنَوَاتُ مِنَ الْبِنْتِ رَوْنَقَهَا وَزَهْرَةَ شَبَابِهَا، فَإِذَا انْتَهَتْ صَارَتْ ذَابِلَةً لَيْسَ لَهَا رَوَاجٌ فِي سُوقِ الزَّوَاجِ بَعْدَ تَقَدُّمِهَا فِي السِّنِّ وَذَهَابِ بَهْجَةِ الْعُمْرِ.

عَجُوزٌ تُرَجِّي أَنْ تَكُونَ فَتِيَّةً ** وَقَدْ غَارَتِ الْعَيْنَانِ وَاحْدَوْدَبَ الظَّهْرُ

تَدُسُّ إِلَى الْعَطَّارِ مِيرَةَ أَهْلِهَا ** وَهَلْ يُصْلِحُ الْعَطَّارُ مَا أَفْسَدَ الدَّهْرُ؟!. (الْحَمَاسَةُ الْبَصْرِيَّةُ).

 

وَالْحَقِيقَةُ تَقُولُ لَكُمْ -أَيُّهَا الْكِرَامُ-: إِنَّ الزَّوَاجَ مُعِينٌ عَلَى الدِّرَاسَةِ وَلَيْسَ مُعِيقًا لَهَا، وَهُوَ ضَوْءٌ إِلَى التَّفَوُّقِ فِيهَا، وَلَيْسَ مُظْلِمًا طَرِيقَهَا، وَكَمْ فِي الْوَاقِعِ مِنْ أَمْثِلَةٍ شَاهِدَةٍ.

 

وَمِنَ الْعَوَائِقِ الْمُجْتَمَعِيَّةِ فِي طَرِيقِ الزَّوَاجِ: اشْتِرَاطُ الْقَرَابَةِ أَوِ الطَّبَقَةِ الْمُعَيَّنَةِ فِي الْمُجْتَمَعِ، حَيْثُ بَقِيَتْ بَعْضُ الْأُسَرِ عَلَى عَادَةٍ مَوْرُوثَةٍ؛ أَنَّ الْبِنْتَ لَا تُزَوَّجُ إِلَّا مِنَ ابْنِ عَمِّهَا أَوِ ابْنِ خَالِهَا أَوْ خَالَتِهَا، أَوْ مَنْ كَانَ فِي طَبَقَتِهَا النِّسْبِيَّةِ، وَكَذَلِكَ الِابْنُ، وَهَذَا تَحْجِيرُ وَاسِعٍ، أَبْقَى بَعْضَ النِّسَاءِ عَوَانِسَ لَمْ يَجِدْنَ قَرِيبًا يَتَزَوَّجُهُنَّ، وَأَوْصَلَ ذَلِكَ بَعْضَ الشَّبَابِ إِلَى الْعُزُوفِ عَنِ الزَّوَاجِ وَاللُّجُوءِ إِلَى الْحَرَامِ.

 

فَأَيْنَ الْعُقُولُ الرَّشِيدَةُ، وَالْآرَاءُ السَّدِيدَةُ لَدَى قَوْمٍ مَازَالُوا عَلَى هَذِهِ الْعَادَةِ الَّتِي لَا يُقِرُّهَا الْإِسْلَامُ وَلَا الْمَصْلَحَةُ الْمُجْتَمَعِيَّةُ؟

 

فَهَذَا رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَتَزَوَّجُ مِنْ قَبَائِلَ مُتَعَدِّدَةٍ، وَيُزَوِّجُ بَنَاتِهِ مِنَ الْأَقَارِبِ وَالْأَبَاعِدِ. وَاللَّهُ -تَعَالَى- يَقُولُ: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا)[الْأَحْزَابِ: 21].

 

نَسْأَلُ اللَّهَ -تَعَالَى- أَنْ يُعِينَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى تَجَاوُزِ هَذِهِ الْعَوَائِقِ، وَتَيْسِيرِ الزَّوَاجِ لِلرَّاغِبِينَ فِيهِ.

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا، وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ، فَاسْتَغْفِرُوهُ؛ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَالصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ عَلَى النَّبِيِّ الْأَمِينِ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ.

 

أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ هَذِهِ الْعَوَائِقَ حِينَمَا وُجِدَتْ فِي الْمُجْتَمَعِ غَدَا لَهَا آثَارٌ سَيِّئَةٌ؛ فَمِنْ تِلْكَ الْآثَارِ السَّيِّئَةِ:

انْتِشَارُ الْفَاحِشَةِ، فَفِي الْإِنْسَانِ الْبَالِغِ طَاقَةٌ جِنْسِيَّةٌ تَطْلُبُ التَّفْرِيغَ، فَإِذَا لَمْ تَجِدْ لَهَا مَكَانًا مَشْرُوعًا فَقَدْ تُفَرَّغُ فِي مَكَانٍ مَمْنُوعٍ؛ مِنْ زِنًا أَوْ لِوَاطٍ أَوْ عَادَةٍ سِرِّيَّةٍ، إِلَّا أَنْ يَعْصِمَ مِنْ ذَلِكَ إِيمَانٌ قَوِيٌّ، وَمُرَاقَبَةٌ شَدِيدَةٌ لِلَّهِ -تَعَالَى-؛ وَلِهَذَا أَمَرَ اللَّهُ بِالِاسْتِعْفَافِ وَالصَّبْرِ عَلَى كَبْحِ جِمَاحِ الشَّهْوَةِ حَتَّى يَمُنَّ اللَّهُ بِالزَّوَاجِ، فَقَالَ -تَعَالَى-: (وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ)[النُّورِ: 33].

 

وَمِنْ آثَارِ ذَلِكَ: تَفَشِّي ظَاهِرَةِ الْعُنُوسَةِ فِي كَثِيرَةٍ مِنَ الْمُجْتَمَعَاتِ الْإِسْلَامِيَّةِ، وَقَدْ أَصْدَرَتْ بَعْضُ الدُّوَلِ إِحْصَائِيَّاتٍ مُخِيفَةً عَنِ اتِّسَاعِ نِطَاقِ الْعُنُوسَةِ فِيهَا؛ فَفِي دَوْلَةٍ إِسْلَامِيَّةٍ امْتَدَّتْ ظَاهِرَةُ الْعُنُوسَةِ فِيهَا لِتَشْمَلَ ثُلُثَ الْفَتَيَاتِ اللَّاتِي هُنَّ فِي سِنِّ الزَّوَاجِ.

 

بَلْ إِنَّ مِنَ الْمُؤْسِفِ أَنْ تَكُونَ الْعُنُوسَةُ فِي الْجَامِعِيَّاتِ أَكْثَرَ انْتِشَارًا مِنْ غَيْرِهِنَّ.

 

تَقُولُ إِحْدَاهُنَّ بَعْدَ أَنْ أَكْمَلَتْ دِرَاسَتَهَا الْجَامِعِيَّةَ: "تَجَاوَزْتُ الثَّلَاثِينَ مِنْ عُمْرِي فَجَاءَنِي خَاطِبٌ فَأَعْجَبَتْهُ جَمِيعُ أَوْصَافِي، وَلَكِنَّهُ لَمَّا اطَّلَعَ عَلَى عُمْرِي قَالَهَا صَرِيحَةً: لَا حَاجَةَ لِي بِامْرَأَةٍ لَمْ يَعُدْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ سِنِّ الْيَأْسِ سِوَى الْقَلِيلِ!".

 

وَمِنْ آثَارِهَا: حُصُولُ بَعْضِ الْأَمْرَاضِ النَّفْسِيَّةِ وَالْجَسَدِيَّةِ لَدَى بَعْضِ الشَّبَابِ؛ بِسَبَبِ تَجَرُّعِ آلَامِ الْحِرْمَانِ مِنَ الزَّوَاجِ، فَالزَّوَاجُ رَاحَةٌ وَاسْتِقْرَارٌ وَشِفَاءٌ، وَالْبُعْدُ عَنْهُ مَرَضٌ وَشَتَاتٌ وَعَنَاءٌ، يَقُولُ -تَعَالَى-: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ)[الرُّومِ: 21].

 

وَكَمْ مِنْ أَمْرَاضٍ يَرَى الْأَطِبَّاءُ أَنَّ عِلَاجَهَا هُوَ الزَّوَاجُ، فَهَلْ فَكَّرَ الْمُعَوِّقُونَ زَوَاجَ الْأَيَامَى بِهَذِهِ النَّتِيجَةِ الْمُؤْسِفَةِ؟!

 

وَمِنْ آثَارِ حُصُولِ بَعْضِ الْعَوَائِقِ فِي طَرِيقِ الزَّوَاجِ: تَقْلِيلُ عَدَدِ الْأُمَّةِ، وَتَنَاقُصُ نَسْلِهَا، وَفِي ذَلِكَ مُخَالَفَةٌ لِأَمْرِ رَسُولِ اللَّهِ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- الْقَائِلِ: "تَزَوَّجُوا الْوَدُودَ الْوَلُودَ، فَإِنِّي مُكَاثِرٌ بِكُمُ الْأُمَمَ"(رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ).

 

أَلَا فَاتَّقُوا اللَّهَ -عِبَادَ اللَّهِ- فِي أَبْنَائِكُمْ وَبَنَاتِكُمْ، كُونُوا عَوْنًا لَهُمْ عَلَى الْعَفَافِ بِالزَّوَاجِ، وَلَا تَكُونُوا حَجَرَ عَثْرَةٍ فِي طَرِيقِهِمْ إِلَيْهِ، فَيَسِّرُوا وَلَا تُعَسِّرُوا، وَأَعِينُوهُمْ وَلَا تُعِينُوا عَلَيْهِمْ، وَسَتَحْمَدُونَ تَسْهِيلَكُمْ لَهُمْ، وَإِعَانَتَكُمْ إِيَّاهُمْ.

 

وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[الأحزاب: 56].

 

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.

 

اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَئِمَّتَنَا وَوُلَاةَ أُمُورِنَا، وَارْزُقْهُمُ الْبِطَانَةَ الصَّالِحَةَ النَّاصِحَةَ.

 

اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.

 

رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.

 

عباد الله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ؛ فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ولذِكْرُ اللهِ أكبر، واللهُ يعلمُ ما تصنعون.

 

المرفقات

العفة عوائق مجتمعية في طريق الزواج -4.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات