عناصر الخطبة
1/نموذج من عزة الصحابة 2/من أسباب تحصيل العزة 3/من خوارم العزة 4/من صفات المسلم العزيز 5/التسول منافاة للعزة 6/الحث على العمل.اقتباس
والعمل لا ينقص من قدر الإنسان ومكانته، وإنما ينقصه التسول واستجداء الناس ولأن يغدو أحدكم فيحتطبَ فيبيعَ، أو يعملَ فِي السُّوقِ، أو يُوصِلَ الطَّلَبَاتِ، أَو يَحمِلَ الأَغرَاضَ، أَو يَتَعلَّمَ صَنعَةً، أو يُتقِنَ حِرفَةً، فهذا خير له من أن يسأل الناس...
الخُطْبَةُ الأُولَى:
الحمد لله ذي الملك والملكوت والعز والجبروت، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحي الذي لا يموت، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله سيد الأولين والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، الأذلة على المؤمنين الأعزة على الكافرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين وسلم تسليماً.
أما بعد: فاتقوا الله -يا خير أمة- واحمدوا ربكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.
حدثتنا السيرة الصحيحة أنه في غزوة الأحزاب حيث الظروف القاسية الحرجة، فكَّر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في وسيلة يخفف فيها من محنة المسلمين، فأرسل إلى عينية بن حصن وهو من الأحزاب قائلاً: "أرأيت إن جعلت لكم ثلث تمر الأنصار؛ أترجع بمن معك من غطفان وتخذل بين الأحزاب؟"، فأرسل إليه عيينة: إن جعلت لي الشطر فعلت، فأرسل النبي -صلى الله عليه وسلم- إلى سعد بن عبادة وسعد بن معاذ فأخبرهما بذلك، فقالا: يا رسول الله، أمراً تحبه فنصنعه، أم شيئاً أمرك الله به أم شيئاً تصنعه لنا؟ قال: "بل شيء أصنعه لكم، والله ما أصنع ذلك إلا لأني رأيت العرب قد رمتكم عن قوس واحدة"، فقالا: يا رسول الله، قد كنا نحن وهؤلاء القوم على الشرك بالله وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها تمرة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه نعطيهم أموالنا؟! والله مالنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف حتى يحكم الله بيننا وبينهم.
هكذا كانت مواقف الأمة حينما كانت تفخر بدينها، وتعتز بإيمانها، وتربط نفسها بقوة الله التي لا تغلب، ويوم أن كانت الأمة ترفع راية الإسلام وتحكم القرآن وترفع راية الجهاد.
إن إظهار اللين دائما ليقال عن المسلمين: رحماء مسالمون، وإن التنازل عن المبادئ والثوابت ليقال عن المسلمين: معتدلون وشريعتهم سمحة، ذلكم هو الفشل والضعف، وربما تفعل كلمة حازمة جازمة ما لا تفعله السيوف، ورب موقف صارم يرعب العدو ويوقف عدوانه، والكلمات المتراخية والمواقف الضعيفة لا تزيد المسلمين إلا ضعفا، ولا تزيد العدو إلا صلفا وغرورا واستمرارا في الإيذاء والاستعداء.
إن العزة والإباء والكرامة من أبرز الخلال التي نادى بها الإسلام وغرسها في أبناء المجتمع، وتعهد نماءها بما شرع من عقائد وسن من تعاليم، وإليها يشير الفاروق بقوله: "أحب من الرجل إذا سِيم خُطة خسف أن يقول بملء فيه: لا".
ديننا يعلمنا أن الكرامة في التقوى، والسمو في العبادة، وأن العزة في طاعة الله، وسبيلها القول الطيب والعمل الصالح؛ (مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا)[فاطر: 10]، والعزة حق يقابله واجب، وارتكاب الآثام والتلطخ بالمعاصي هو سبيل السقوط والإهانة، ومزلقة إلى خزي الفرد والجماعة؛ (وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ)[يونس: 27].
وإن من أسباب العزة العفو والتواضع، ففي الحديث: "وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ومن تواضع لله رفعه"، ومن خلق المسلم أن يغفر إذا استغضبه من دونه، لكن من خلقه أيضاً أن يؤدب المجترئين عليه حتى يفل حدهم ويكسر شوكتهم؛ (وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ)[الشورى: 39].
العزة تاج وسياج يخرمه الهزيمة النفسية والاستسلام للواقع، والرضا بحياة الذل والهوان، والانبهار بقوة الأعداء المادية وحضارتهم الزائفة، يهدم العزة ويخرمها الشعور بالخجل من الانتماء إلى الإسلام، والحياء من إظهار شعائر الدين وأحكامه.
المعتز بالله ينأى بنفسه عن التشبه بأعداء الله في طرائقهم وتقاليدهم ونظم حياتهم، فمن تشبه بقوم فهو منهم، ويتجنب مشاركة الكفار في أعيادهم ومناسباتهم الدينية وتهنئتهم بها؛ فذلك من صور مودتهم وموالاتهم؛ (وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ)[المائدة: 51]، وتلك خوارم تتعارض مع الانتماء للدين، والحفاظ على الهوية، والشعور بالعزة والاستعلاء.
لا يليق بمسلم ميزه الله على العالمين وأعزه بهذا الدين أن يذل نفسه بمحاكاة الكافرين، في ملابسهم وأشكالهم وقصاتهم، ويقلدهم بإحياء أعيادهم الباطلة، فهذا عيد ميلاد، وذاك عيد حب، وذلك عيد للأم، ويتكلم بلغتهم ويؤرخ بتأريخهم بلا حاجة ولا ضرورة، فأين الشعور بعزة المسلمين؟ ولماذا هذا الوهن وأنتم الأعلون يا مسلمون؟!.
المسلم المعتز بالله لا يرهبه تهديد الأعداء ولا استفزازهم ولا إرجافهم، فهو يؤمن أن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين، ويتذكر عاقبة المجرمين؛ (فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا)[الإسراء: 103]، (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ)[الأنفال: 30].
المعتز بالله شعاره مع كل إرجاف وتخذيل: (حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ)[آل عمران: 173]، موقنا بالعاقبة؛ (فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ)[آل عمران: 174].
إن الناس يذلون أنفسهم فيقبلون الدنية في دينهم ودنياهم؛ خوفا على أرزاقهم أو آجالهم، ولقد قطع الله سلطان البشر عليهما جميعا: (أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ)[الملك: 20]، ذلك هو التوحيد الكامل.
وإن القضاء -أخي المسلم- يصيب العزيز وله أجره، ويصيب الذليل وعليه وزره، فكن عزيزاً مادام أنه لن يفلت من محتوم القضاء إنسان.
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه إنه غفور رحيم.
الخطبة الثانية:
أما بعد: فإن ديننا يغرس في نفوس المسلمين الشعور بالعزة، ويحث المسلمين على تجنب كل سبيل يضعف منها ويوقع في المذلة والضعف والوهن، ومن أجل أن يبقى المسلم عزيزا جاءت تشريعات الإسلام داعية إلى الاستعفاف والاستغناء عما في أيدي الناس، وناهية عن سؤال الناس واستجدائهم، وبذل ماء الوجه طلبا لما عندهم.
لكي يبقى المسلم عزيزا شدد الإسلام على الديون وعظم من شأنها؛ فهي هم بالليل وذل بالنهار، وكم يذل الإنسان نفسه في ديون أخذت تكثرا ومفاخرة ومباهاة، وخضوعا لضغوط نساء وأبناء لأجل كماليات وترف وشكليات.
لكي يبقى المسلم عزيزا نهاه الدين عن التسول وسؤال الناس؛ "مَا يَزَالُ الرَّجُلُ يَسْأَلُ النَّاسَ، حَتَّى يَأْتِيَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَيْسَ فِي وَجْهِهِ مُزْعَةُ لَحْمٍ"، "وَلَا فَتَحَ رَجُلٌ عَلَى نَفْسِهِ بَابَ مَسْأَلَةٍ؛ إِلَّا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِ بَابَ فَقْرٍ".
قال ابن القيم عمن يسأل الناس: "وفِيهِ ظُلْمٌ لِنَفْسِهِ؛ فَإِنَّهُ أَرَاقَ مَاءَ وَجْهِهِ، وَذَلَّ لِغَيْرِ خَالِقِهِ، وَأَنْزَلَ نَفْسَهُ أَدْنَى الْمَنْزِلَتَيْنِ، وَرَضِيَ لَهَا بِأَبْخَسِ الْحَالَتَيْنِ... وَبَاعَ صَبْرَهُ وَرِضَاهُ وَتَوَكُّلَهُ، وَقَنَاعَتَهُ بِمَا قُسِمَ لَهُ، وَاسْتِغْنَاءَهُ عَنِ النَّاسِ بِسُؤَالِهِمْ، وَرَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفْسُهُ تَحْتَ نَفْسِ الْمَسْؤولِ، وَيَدُهُ تَحْتَ يَدِهِ، ولولا الضَّرُورَةُ لَمْ يُبَحْ ذَلِكَ فِي الشَّرْعِ".
لقد حث ديننا على القناعة والاستعفاف والترفع عن سؤال الناس؛ "مَن يتكفَّل لي ألا يسأل الناسَ شيئًا وأتكفَّل له الجنة"، وتذكروا حَالِ الفُقَراءِ الذينَ ذكرهم الله، تَرَكُوا بِلادَهُم وأَموالَهم مُهَاجِرينَ، وَلكِن كَانَ الإيمَانُ يَملأُ قُلُوبَهم وعَلى ربِّهِم مُتَوكِّلِينَ، يَحسَبُهُم الجَاهِلُ بِأَمرِهِم وَحَالِهِم أَغنِيَاءَ مِنْ تَعَفُّفِهِم عَنِ المَسأَلَةِ، وتركهم التَّعرُّضَ لِمَا في أَيدِي النَّاسِ؛ صَبرًا مِنهُم عَلَى البَأسَاءِ وَالضَّرَّاءِ.
ولكي يبقى المسلم عزيزا عفيفا حث الإسلام على العمل والتكسب، مهما كان نوع الحرفة وقيمتها، والعمل لا ينقص من قدر الإنسان ومكانته، وإنما ينقصه التسول واستجداء الناس ولأن يغدو أحدكم فيحتطبَ فيبيعَ، أو يعملَ فِي السُّوقِ، أو يُوصِلَ الطَّلَبَاتِ، أَو يَحمِلَ الأَغرَاضَ، أَو يَتَعلَّمَ صَنعَةً، أو يُتقِنَ حِرفَةً، فهذا خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه، فتحية إكبار وإجلال لصغار وشباب رجال خاضوا غمار العمل في كل مجال، تحت أشعة الشمس وتحت كل ظلال؛ ليترفعوا عن ذل السؤال، ولتبقى نساؤهم ومحارمهم في بيوتهن دررا مصونة، لا يخالطن الرجال ولا يتعرضن لامتهان ولا ابتزاز ولا ابتذال.
يَقُولُ النَّاسُ لِي فِي الْكَسْبِ عَارٌ *** فَقُلْت الْعَارُ فِي ذُلِّ السُّؤَالِ
إن التسول ظاهرة مرضية، ودواؤها تقوية الوازع الديني عند الناس، وتربية السائل على العفة والكرامة والترفع عن سؤال الناس، وتوجيه أصحاب اليد العليا وأهل البذل والعطاء إلى أن يتحروا في صدقاتهم، ويتتبعوا المحتاجين ويتفقدوا المضطرين، فربما كان في الأقارب من هو مكروب، وصدقات قريبه تذهب لغير مستحق، والمسكين المستحق من وصفه -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيُتصدق عليه، ولا يسأل الناس شيئا"، فهؤلاء هم المستحقون للصدقات، وفي الإنفاق عليهم أعظم الحسنات.
اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى.
إضافة تعليق
ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم