العـــَفـُـوُّ -جل جلاله-

د عبدالله بن مشبب القحطاني

2020-12-03 - 1442/04/18 2022-10-11 - 1444/03/15
التصنيفات: التوحيد
عناصر الخطبة
1/عفو العفو سبحانه 2/أنواع عفو العفو ومظاهر ذلك 3/حال الأولياء مع اسم الله العفو.

اقتباس

وَعَفْوُهُ نَوْعَانِ: عَفْوُهُ الْعَامُّ: وَيَكُونُ عَنْ جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ؛ بِدَفْعِ الْعُقُوبَاتِ الْمُنْعَقِدَةِ بِأَسْبَابِهَا، وَالْمُقْتَضِيَةِ لِقَطْعِ النِّعَمِ عَنْهُمْ، فَهُمْ يُؤْذُونَهُ بِالسَّبِّ وَالشِّرْكِ، وَهُوَ.. إِذَا طَرَقَ النَّاسُ أَبْوَابَ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَوَقَفُوا أَذِلَّاءَ بِسَاحَتِهِمْ؛ فَقِفْ أَنْتَ مُتَذَلِّلًا بِسَاحَةِ مَلِكِ الْمُلُوكِ الْإِلَهِ الْأَكْرَمِ الْعَفُوِّ؛ الَّذِي بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الْفَرَجِ، وَبِيَدِهِ...

الخطبة الأولى:

 

إِنَّ الْحَمْدَ لِلَّهِ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ.

 

 (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آلِ عِمْرَانَ: 102]، (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا) [النِّسَاءِ: 1]، (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا) [الْأَحْزَابِ: 70-71]، أَمَّا بَعْدُ:

 

أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ: لَمَّا سَمِعَ الْمُذْنِبُونَ عَنِ اسْمِ اللَّهِ الْعَفُوِّ وَتَلَوْا قَوْلَهُ -تَعَالَى-: (فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا) [النِّسَاءِ: 99]؛ رَفَعُوا أَكُفَّ الضَّرَاعَةِ، وَنَثَرُوا شَكْوَاهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَأَنَاخُوا مَطَايَاهُمْ بِبَابِهِ، وَلَاذُوا بِجَنَابِهِ، وَكَثُرَ اسْتِغْفَارُهُمْ، وَنَادَوْا: يَا عَفُوُّ.. يَا غَفُورُ لَيْسَ لَنَا سِوَاكَ.

 

فَنَظَرَ الْكَرِيمُ الْعَفُوُّ إِلَى حَالِهِمْ، وَاطَّلَعَ عَلَى سَرَائِرِهِمْ؛ فَحَطَّ عَنْهُمُ الْخَطَايَا، وَمَحَا عَنْهُمُ السَّيِّئَاتِ، وَرَفَعَ لَهُمُ الدَّرَجَاتِ؛ فَسُبْحَانَ الْعَفُوِّ، وَسُبْحَانَ مَنِ اخْتَارَهَمْ لِعَفْوِهِ، وَاصْطَفَاهُمْ لِمَغْفِرَتِهِ؛ فَإِذَا نَزَلَتْ بِكَ النَّوَازِلُ، وَأَلَمَّتْ بِكَ الْخُطُوبُ، أَوْ أَثْقَلَتْكَ الذُّنُوبُ؛ فَاهْتِفْ بِاسْمِهِ، وَاطْلُبْ عَفْوَهُ، قَالَ اللَّهُ: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُو عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) [النِّسَاءِ: 149].

 

يَا رَبِّ إِنْ عَظُمَتْ ذُنُوبِي كَثْرَةً *** فَلَقَدْ عَلِمْتُ بِأَنَّ عَفْوَكَ أَعْظَمُ

أَدْعُوكَ رَبِّ كَمَا أَمَرْتَ تَضَرُّعًا *** فَإِذَا رَدَدْتَ يَدِي فَمَنْ ذَا يَرْحَمُ

إِنْ كَانَ لَا يَرْجُوكَ إِلَّا مُحْسِنٌ *** فَبِمَنْ يَلُوذُ وَيَسْتَجِيرُ الْمُجْرِمُ

 

رَبُّنَا الْعَفُوُّ كَثِيرُ الصَّفْحِ عَنْ ذُنُوبِ عِبَادِهِ؛ إِلَى مَا لَا نِهَايَةَ لَهُ، فَهُوَ الْعَفُوُّ يَتَجَاوَزُ عَنِ الذُّنُوبِ، وَيُزِيلُ آثَارَهَا عَنْهُمْ بِالْكُلِّيَّةِ؛ فَلَا يُطَالِبُ بِهَا الْعِبَادَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَيَمْحُوهَا مِنْ دِيوَانِ الْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ، بَلْ وَيُنْسِيهَا مِنْ قُلُوبِهُمْ كَيْ لَا يَخْجَلُوا عِنْدَ تَذَكُّرِهَا، وَيُثْبِتُ مَكَانَ كُلِّ سَيْئَةٍ حَسَنَةً.

 

وَرَبُّنَا الْعَفُوُّ هُوَ الَّذِي كَانَ -وَلَا يَزَالُ- بِالْعَفْوِ مَعْرُوفًا، وَبِالْغُفْرَانِ وَالصَّفْحِ عَنْ عِبَادِهِ مَوْصُوفًا، كُلُّ أَحَدٍ مُضْطَرٌّ إِلَى عَفْوِهِ وَرَحْمَتِهِ وَكَرَمِهِ، وَقَدْ وَعَدَ بِالْمَغْفِرَةِ وَالْعَفْوِ مَنْ أَتَى بِأَسْبَابِهِمَا.

 

وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ الْعَفْوَ، وَهُوَ: السَّهْلُ، وَذَلِكَ بِتَيْسِيرِ الْوَاجِبَاتِ عَلَى عِبَادِهِ، لِمَا يَقَعُ مِنَ الْعَبْدِ مِنْ تَقْصِيرٍ وَضَعْفٍ، فَاللَّهُ أَوْجَبَ الْوُضُوءَ لِمَنْ أَرَادَ الصَّلَاةَ إِذَا انْتَقَضَ وُضُوؤُهُ، وَلَكِنَّهُ عَفَا عَمَّنْ لَا يَجِدُ الْمَاءَ بِأَنْ يَتَيَمَّمَ؛ مُرَاعَاةً لِضَعْفِ عِبَادِهِ.

 

وَعَفْوُهُ نَوْعَانِ: عَفْوُهُ الْعَامُّ: وَيَكُونُ عَنْ جَمِيعِ الْمُجْرِمِينَ مِنَ الْكُفَّارِ وَغَيْرِهِمْ؛ بِدَفْعِ الْعُقُوبَاتِ الْمُنْعَقِدَةِ بِأَسْبَابِهَا، وَالْمُقْتَضِيَةِ لِقَطْعِ النِّعَمِ عَنْهُمْ، فَهُمْ يُؤْذُونَهُ بِالسَّبِّ وَالشِّرْكِ، وَهُوَ يَعَافِيهِمْ وَيَرْزَقُهُمْ، وَيَبْسِطُ لَهُمُ الدُّنْيَا، وَيُمْهِلُهُمْ وَلَا يُهْمِلُهُمْ بِعَفْوِهِ وَحِلْمِهِ، فَخَيْرُ اللَّهِ إِلَى الْعِبَادِ نَازِلٌ، وَشَرُّهُمْ إِلَيْهِ صَاعِدٌ، اللَّهُ غَنِيٌّ عَنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ، وَهُوَ يَتَوَدَّدُ إِلَيْهِمْ بِنِعَمِهِ، وَهُمْ يَتَبَغَّضُونَ إِلَيْهِ بِالْمَعَاصِي وَهُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَيْهِ.

 

وَعَفْوُهُ الْخَاصُّ، وَهُوَ: مَغْفِرَتُهُ لِلتَّائِبِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ وَالدَّاعِينَ وَالْعَابِدِينَ وَالْمُصَابِينَ بِالْمَصَائِبِ، الْمُحْتَسِبِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

 

وَمِنْ جَلَالِ عَفْوِهِ: أَنَّهُ مَنْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ فِي الدُّنْيَا فَاللَّهُ أَكْرَمُ مِنْ أَنْ يَعُودَ فِي عَفْوِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَهُوَ كَرِيمٌ لَا يَرْجِعُ فِي عَفْوِهِ، فَهَذِهِ سُنَّةُ اللَّهِ مَعَ أَوْلِيَائِهِ.

 

وَمِنْ جَلَالِهِ -سُبْحَانَهُ-: أَنَّهُ كَمَا يَعْفُو فِي الدُّنْيَا عَنِ الْمُذْنِبِينَ التَّائِبِينَ؛ فَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ يَعْفُو عَنِ الْمُوَحِّدِينَ الْمُصِرِّينَ.

 

وَمِنْ جَلَالِهِ -سُبْحَانَهُ-: أَنَّهُ يَعْفُو عَنْ ذَنْبِ عَبْدِهِ مَهْمَا كَانَ جُرْمُهُ؛ حَتَّى عَنْ حَقِّهِ، وَيُبَدِّلُ سَيِّئَاتِهِ حَسَنَاتٍ، فَمَنِ الَّذِي يُكَافِئُ الذَّنْبَ بِمِثْلِ هَذَا غَيْرُ الرَّبِّ -سُبْحَانَهُ-؟ وَإِنَّهُ لَوْلَا جَلَالُ عَفْوِهِ لَغَارَتِ الْأَرْضُ بِأَهْلِهَا؛ لِكَثْرَةِ مَا يُرْتَكَبُ مِنَ الْمَعَاصِي عَلَى ظَهْرِهَا.

 

وَمِنْ جَلَالِ عَفْوِهِ -سُبْحَانَهُ-: أَنَّهُ دَلَّ عِبَادَهُ عَلَى الْأَسْبَابِ الَّتِي يُنَالُ بِهَا عَفْوُهُ الْكَرِيمُ؛ مِنَ الْأَعْمَالِ وَالْأَخْلَاقِ وَالْأَقْوَالِ وَالْأَفْعَالِ، فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَكْثَرَ مِنَ الْأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ غَلَبَتْ عَلَى كَثِيرٍ مِنْ ذُنُوبِهِ وَخَطَايَاهُ.

 

وَلِهَذَا مَدَحَ اللَّهُ عِبَادَهُ الصَّالِحِينَ بِقَوْلِهِ: (وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) [الْفُرْقَانِ: 68-70].

 

فَيَا عَبْدَ اللَّهِ: عُدْ إِلَيْهِ؛ فَالْمَغْفِرَةُ مُقَيَّدَةٌ بِالتَّوْبَةِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ، وَمَثَلُهُ فِي قَوْلِهِ -سُبْحَانَهُ-: (إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ) [الْبَقَرَةِ: 160].

 

وَصَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "يَقُولُ اللَّهُ -تَعَالَى-: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَأَزِيدُ، وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ مِثْلُهَا أَوْ أَغْفِرُ، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي شِبْرًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ ذِرَاعًا، وَمَنْ تَقَرَّبَ مِنِّي ذِرَاعًا تَقَرَّبْتُ مِنْهُ بَاعًا، وَمَنْ أَتَانِي يَمْشِي أَتَيْتُهُ هَرْوَلَةً، وَمَنْ لَقِيَنِي بِقُرَابِ الْأَرْضِ خَطِيئَةً ثُمَّ لَا يُشْرِكُ بِي شَيْئًا؛ لَقِيتُهُ بِمِثْلِهَا مَغْفِرَةً"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

 

الْعَفُوُّ يُنَادِيكَ مِنْ فَوْقِ سَبْعِ سَمَاوَاتٍ بِقَوْلِهِ: (قَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ) [غَافِرٍ: 60]؛ فَمَا الَّذِي يُبْطِئُكَ عَنْ كَرَمِهِ؟ وَمَا الَّذِي يَجْعَلُكَ تَتَأَخَّرُ عَنِ الِانْضِمَامِ لِرَكْبِ الْأَوَّابِينَ وَالتَّوَّابِينَ؟

 

إِذَا طَرَقَ النَّاسُ أَبْوَابَ مُلُوكِ الدُّنْيَا، وَوَقَفُوا أَذِلَّاءَ بِسَاحَتِهِمْ؛ فَقِفْ أَنْتَ مُتَذَلِّلًا بِسَاحَةِ مَلِكِ الْمُلُوكِ الْإِلَهِ الْأَكْرَمِ الْعَفُوِّ؛ الَّذِي بِيَدِهِ مَفَاتِيحُ الْفَرَجِ، وَبِيَدِهِ السَّعَادَةُ، وَبِيَدِهِ الْعَفْوُ وَالْمَغْفِرَةُ.

 

ذَكَرَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ فِي "التَّبْصِرَةِ": "أَنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَى دَاوُدَ -عَلَيْهِ السَّلَامُ- فَقَالَ: يَا دَاوُدُ، لَوْ يَعْلَمُ الْمُدْبِرُونَ عَنِّي انْتِظَارِي لَهُمْ، وَرِفْقِي بِهِمْ، وَشَوْقِي إِلَى تَرْكِ مَعَاصِيهِمْ؛ لَمَاتُوا شَوْقًا إِلَيَّ، وَلَتَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُمْ لِمَحَبَّتِي، يَا دَاوُدُ، هَذِهِ إِرَادَتِي بِالْمُدْبِرِينَ عَنِّي؛ فَكَيْفَ بِالْمُقْبِلِينَ عَلَيَّ؟".

 

وَكَانَ مِنْ دُعَاءِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنِّي"(حَدِيثٌ صَحِيحٌ. رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ).

 

وَقَالَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: "مَا أُحِبُّ أَنْ يُجْعَلَ حِسَابِي إِلَى أَبِي وَأُمِّي؛ لِأَنِّي أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ أَرْحَمُ بِي مِنْهُمَا".

 

وَلَمَّا قَسَا قَلْبِي وَضَاقَتْ مَذَاهِبِي *** جَعَلْتُ رَجَائِي نَحْوَ عَفْوِكَ سُلَّمَا

تَعَاظَمَنِي ذَنْبِي فَلَمَّا قَرَنْتُهُ *** بِعَفُوِكِ رَبِّي صَارَ عَفْوُكَ أَعْظَمَا

وَمَا زِلْتَ ذَا عَفْوٍ عَنِ الذَّنْبِ لَمْ تَزَلْ *** تَجُودُ وَتَعْفُو مِنَّةً وَتَكَرُّمَا

 

أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ.

 

 

الخطبة الثانية:

 

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا طَيِّبًا كَثِيرًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

 

عِبَادَ اللَّهِ: قَالَ الْعُلَمَاءُ: إِنَّ مِنْ أَحَبِّ الْخَلْقِ إِلَى اللَّهِ مَنِ اتَّصَفَ بِمُقْتَضَيَاتِ أَسْمَائِهِ وَصِفَاتِهِ، فَهُوَ رَحِيمٌ يُحِبُّ الرُّحَمَاءَ، عَفُوٌّ يُحِبُّ الْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ؛ فَاللَّهُ -سُبْحَانَهُ- يَكُونُ لِعَبْدِهِ عَلَى حَسْبِ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ لِخَلْقِهِ، فَاللَّهُ قَدْ قَالَ: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ) [آلِ عِمْرَانَ: 159].

 

وَحَبْلُ الْعَفْوِ مَعَ الْمَقْدِرَةِ مِنْ أَقْرِبِ مَنَازِلِ التَّقْوَى؛ (وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [الْمَائِدَةِ: 8]؛ بَلْ مِنْ كَرَمِهِ وَجُودِهِ؛ أَنَّهُ يُقَابِلُ عَفْوَ الْعِبَادِ بِعَفْوٍ أَكْبَرَ؛ فَاللَّهُ قَدْ قَالَ: (إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُو عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا) [النِّسَاءِ: 149].

 

وَفِي حَادِثَةِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- عِنْدَمَا حَلَفَ أَلَّا يُنْفِقَ عَلَى مِسْطَحٍ (أَحَدِ أَقَارِبِهِ) بَعْدَ أَنْ قَذَفَ عِرْضَ زَوْجِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي حَادِثَةِ الْإِفْكِ الْمَعْرُوفَةِ، قَالَ تَعَالَى: (وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [النُّورِ: 22].

 

فَمَنْ عَفَا رَجَاءَ مَا عِنْدَ اللَّهِ؛ أَعْطَاهُ اللَّهُ فَوْقَ مَا يَأْمَلُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَصَحَّ عَنْهُ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أَنَّهُ قَالَ: "مَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا"(أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ).

 

خَطَبَ الْخَلِيفَةُ الْأُمَوِيُّ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ خُطْبَةً بَلِيغَةً، ثُمَّ قَطَعَهَا، وَبَكَى بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: "يَا رَبِّ، إِنَّ ذُنُوبِي عَظِيمَةٌ، وَإِنَّ قَلِيلَ عَفْوِكَ أَعْظَمُ مِنْهَا، فَامْحُ بِقَلِيلِ عَفْوِكَ عَظِيمَ ذُنُوبِي"؛ فَبَلَغَ ذَلِكَ الْحَسَنَ الْبَصْرِيَّ؛ فَبَكَى، وَقَالَ: "لَوْ كَانَ كَلَامٌ يُكْتَبُ بِالذَّهَبِ لَكُتِبَ هَذَا الْكَلَامُ"، وَدَعَا أَعْرَابِيٌّ: "اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَمَرْتَنَا أَنْ نَعْفُوَ عَمَّنْ ظَلَمَنَا، وَقَدْ ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا فَاعْفُ عَنَّا".

 

وَنَحْنُ نَدْعُوكَ؛ (قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) [الْأَعْرَافِ: 23].

 

اللَّهُمَّ إِنَّكَ عَفُوٌّ تُحِبُّ الْعَفْوَ؛ فَاعْفُ عَنَّا؛ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ وَعَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالسَّدَادَ، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى وَالْعِفَّةَ وَالْغِنَى، اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْجَنَّةَ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ النَّارِ، وَمَا قَرَّبَ إِلَيْهَا مِنْ قَوْلٍ أَوْ عَمَلٍ.

 

اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ مِنَ الْخَيْرِ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَنَعُوذُ بِكَ مِنَ الشَّرِّ كُلِّهِ؛ عَاجِلِهِ وَآجِلِهِ، مَا عَلِمْنَا مِنْهُ وَمَا لَمْ نَعْلَمْ، وَأَنْ تَجْعَلَ كُلَّ قَضَاءٍ قَضَيْتَهُ لَنَا خَيْرًا.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ لَنَا دِينَنَا الَّذِي هُوَ عِصْمَةُ أَمْرِنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا دُنْيَانَا الَّتِي فِيهَا مَعَاشُنَا، وَأَصْلِحْ لَنَا آخِرَتَنَا الَّتِي فِيهَا مَعَادُنَا، وَاجْعَلِ الْحَيَاةَ زِيَادَةً لَنَا فِي كُلِّ خَيْرٍ، وَالْمَوْتَ رَاحَةً لَنَا مِنْ كُلِّ شَرٍّ.

 

اللَّهُمَّ أَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ، وَأَخْرِجْنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَسْمَاعِنَا وَأَبْصَارِنَا وَقُوَّاتِنَا، وَأَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّتِنَا وَأَمْوَالِنَا، وَاجْعَلْنَا مُبَارَكِينَ أَيْنَمَا كُنَّا.

 

وَآخِرُ دَعْوَانَا أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.

المرفقات

العـــَفـُـوُّ -جل جلاله-.doc

إضافة تعليق

ملاحظة: يمكنك اضافة @ لتتمكن من الاشارة الى مستخدم

التعليقات